النموذج السياسي التركي، هل لديه مناعة ضد الارهاب؟ (3/1)

0

السلطان محمود الثاني (1789-1839): إلى يمينه أحد “العلماء” في حين يقف “عسكري” إلى يساره.

*

Mahmoud II (1789-1839)

النموذج السياسي التركي والربيع العربي

عندما قرّر الاسلام السياسي اللحاق بالربيع العربي، بحث عن ثوب ديمقراطي يمكّنه من ركوب الموجة الثورية التي انطلقت في 17 ديسمبر 2010 ووقع خياره على النموذج التركي. فأسّس على نمط “حزب العدالة والتنمية” الذي يترأسه طيب رجب أردوغان أحزاباً في تونس ومصر تدّعي اتّباع نفس البرنامج السياسي. وبينما اكتفت “حركة النهضة” التونسية بأخذ البرنامج التركي فقط عمدت نظيرتها المصرية، حركة “الإخوان المسلمين” إلى إتّخاذ البرنامج وتقليد التسمية أيضاً، فأسّست “حزب الحرية والعدالة” موازياً وتابعاً لها دون أن تحلّ نفسها[[راجع Kassem, Taha, The Rise of Political Islam. Can the Turkish Model be Applied Successfully in Egypt? Topics in Middle Eastern and African Economies Vol. 15, No. 1, May 2013. Chicago 2013, pp. 64-91]].

لقد نجحت خطة الإسلاميين ووصلوا في البلدين الى السلطة. وبدأ “الإخوان” في مصر بالإستئثار بها وأسلمة الدولة والمجتمع مما فجّر ثورة شعبية عارمة أزاحتهم عنها، فتمّ عزل الرئيس الاخواني محمد مرسي بتاريخ 3 يوليو 2013 بعد مرور سنة على تسلّمه الحكم. أما في تونس حيث فشل حزب النهضة في الحصول على الأغلبية المطلقة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، التي أقيمت في 23 أكتوبر 2011، فقد سلك رغم ذلك نفس الطريق الذي سلكه إخوان مصر وحاول إضعاف المعارضة من خلال إعطاء السلفيّين والجهاديّين فرصة للهجوم عليها. وجرى اغتيال قادتها “شكري بلعيد” في 6 فبراير 2013 و”محمد البراهمي” في 25 يوليو 2013. هنا أيضاً تصاعدت النقمة الشعبية وتصدّت لهيمنة حزب النهضة السياسية وأجبرته على القبول بحكومة كفاءات وطنية في 10 يناير 2014 برئاسة مهدي جمعة.

بعد عزل الرئيس مرسي في مصر وما نتج عنه من فقدان الدعامة الأساسية للإسلام السياسي في الدول العربية، تغيّرت لهجة حزب النهضة ونحا نحو الإعتدال والإنفتاح والتوافق وإدانة عنف السلفيّين على أمل الحفاظ على مواقعه والفوز في الإنتخابات القادمة في أكتوبر 2014. رغم هذا التحوّل الظاهري، فالإرهاب الذي أطلق عنانه حزب النهضة لم يزل مستمراً وأصبح مكوناً للمشهد السياسي التونسي. أما في مصر فلقد تبنّت حركة الإخوان المسلمين نفسها الإرهاب بعد إخراجها من السلطة. ولا مؤشر حتى الآن عن وجود رغبة إلى تغيير هذا الخط.

بالمقابل نرى “حزب الحرية والتنمية” في تركيا يحقق انتصارات مستمرّة منذ عشر سنوات دون إنقطاع. فرغم المواجهات العنيفة مع انتفاضة “ميدان تقسيم” منذ 26 مايو 2013 ورغم الحرب المعلنة على حليفه الإسلامي فتح الله غولن منذ 17 ديسمبر 2013، فاز الحزب بالإنتخابات البلدية في 30 مارس 2014 و بالإنتخابات الرئاسية في 10 أغسطس 2014. هذه المواجهات لم تدفع المنهزمين إلى اللجؤ إلى إستخدام العنف والإرهاب.

الحديث عن الارهاب يتطلّب بعض التوضيح. المقصود بالإرهاب هنا هو العنف الموجه ضد مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية وضد البنى التحتية من اقتصادية وما شابه وضد المجتمع المدني بهدف القتل والتدمير لإرغام الدولة والمجتع على تبني نظرة سياسية اجتماعية معيّنة أو أيضاً بهدف التدمير فقط لإعتقاده بإستحالة التغيير. ويُنجز الإرهاب على يد أفراد يؤمنون بهذه النظرية المتطرّفة أو جماعات منظّمة تأمل بالسيطرة على البلد.

هذا التفسير يظهر صعوبة التحديد والفصل بين الإرهاب وحركات التحرّر الوطني والإجتماعي التي لا تتردّد أحياناً عن اللجوء إلى الإعتداء على المدنيين والمرافق العامة. أما ما يميّز الحركات الإرهابية عن الحركات التحررية فهو إعتماد الاخيرة على الإرهاب كوسيلة أساسية لتحقيق أهدافها. وهذا يفسر كيف أن بعض الحركات التحرّرية التي تتمادى في إستخدام الإرهاب تقترب من هذا المفهوم وتعرّض نفسها بالتالي للتصنيف في خانة الإرهابيين.

في الواقع العربي الاسلامي يكاد الإرهاب أن يقتصر على الحركات السلفية الجهادية المنتشرة في جميع الدول الإسلامية من جنوب الفيليبين الى المغرب الأقصى ونيجيريا والتي تهدّد بشكل متزايد أوروبا وأميركا الشمالية. فقط في تركيا يغيب هذا النوع من الإرهاب، وهذا ما دفع بالبعض إلى التحدّث عن خاصية الاسلام التركي المرتبط عضوياً بالنظام السياسي وسوف نحاول في هذا البحث إلقاء بعض الاضواء على هذه الخصوصية.

النموذج التركي

أعجب المستشرق البريطاني برنارد لويس (Bernard Lewis) بنظام تركيا العلماني منذ زيارته الأولى لتركيا عام 1950 حيث كان أول باحث غربي يسمح له دخول الأرشيف العثماني. وقد علّق آمالاً كبيرة على انتشار هذا النظام في بقية البلدان الإسلامية كما إنه اعتقد أن من الضروري في البداية فرضه بالقوة من خلال إقصاء الاسلام كما فعل أتاتورك. ونظرية لويس هذه ألهمت جورج بوش الذي أراد أيضاً عام 2003 فرض الديمقراطية على العراق بالقوة مع النتائج التي نعلمها[[Hirsch, Michael, Bernard Lewis revisited, What if Islam isn’t an obstacle to democracy in the
Middle East, but the secret to achieving it? The Washington Monthly, November 2004]]
.

عندما نتحدث عن النموذج التركي هنا لا نقصد نظرية برنارد لويس التي تريد إقصاء الدين عن السياسة بل نظرية باحثين مثل شريف ماردين (Serif Mardin) وحقان يافوذ (Hakan Yavuz) اللذين يعالجان موضوع الدين كعنصر مكوّن للنظام السياسي التركي ويحاولان تحليل خصوصية الإسلام التركي التي سمحت بنشوء وإستمرار أول ديمقراطية في العالم الإسلامي، ما يجعلها ظاهرة فريدة من نوعها.

يميّز “حقان يافوذ”[[Yavuz, M. Hakan, Is There a Turkish Islam? The Emergence of Convergence and Consensus. Journal of Muslim Minority Affairs, Vol. 24, No. 2, October 2004]] بين سبع مناطق ثقافية للإسلام: المنطقة العربية، المنطقة الفارسية، المنطقة التركية، منطقة جنوب آسيا (أفعانستان، باكستان، الهند وبنغلادش)، منطقة ماليزيا وأندونيسيا، أفريقيا، وآخيراً الأقليات المسلمة في العالم.

في كل هذه المناطق دخل الإسلام وتأقلم مع معطياتها الحضارية منتجاً نموذجاً مميزاً.

بما يخص النموذج التركي يرى يافوذ أن السمات الرئيسية التي تميز إسلامه عن غيره هي أولاً طابعه الصوفي، ثانياً الدولة المركزية الدامجة وثالثاً غياب عقدة الإستعمار. يلتقي يافوذ بتقييمه هذا مع النتائج التي توصّل إليها الباحث شريف ماردين[[Mardin, Serif, Turkish Islamic Exceptionalism Yesterday and Today: Continuity, Rupture and Reconstruction in Operational Codes. Turkish Studies,Vol. 6, No. 2, pp. 145–165, June 2005]].

الصوفية والهوية التركية

لفترة طويلة سادت نظرية بول فيتك (Paul Wittek) في الدراسات العثمانية التي أطلقها عام 1938[[Wittek, Paul, The Rise of the Ottoman Empire, London 1938, pp. 7-14]] ومفادها أن الاتراك يمثّلون إسلام الحدود مع دار الحرب، وهي في هذه الحال الإمبراطورية البيزنطية، وقد وضعوا أنفسهم في خدمة الإسلام للجهاد ضد الكفّار مطوّرين بذلك ما عرف لاحقاً بإيديولوجية الغزاة الذين هم “سيف الله” لمكافحة الشرك وحماية المسلمين. إبتداءً من ثمانينات القرن الماضي ومع إرتفاع عدد وتنوّع المصادر التاريخية أخذت الأبحاث تبيّن هشاشة هذا الرأي الذي استند حصراً إلى نصوص متأخّرة تمجّد الماضي بينما الوقائع التاريخية تعطينا صورة معاكسة كلّياً. فمهوم “الغازي” لا يطابق مفهوم “المجاهد” والغزو يجب أن يُفهم بمعنى “الجاهلية” وليس بالمعنى الديني الإسلامي.

فالغزو هدفه الأول والأخير السلب والنهب وإذا أمكن، الاستمرار بالسيطرة السياسية لتأمين الإستفادة من موارد البلاد المَغزية خاصة “ضريبة الجزية”. وهذا لا يناقض وجود بعدٍ جهادي يخدم تعبئة المقاتلين. لذلك لم تكن هنالك رغبة في نشر الدين الإسلامي أو فرضه بالقوة بل ترك الغزاة الوضع على حاله وعاملوا الفلاحين برفق، عكس الدولة البيزنطية التي أرهقت كاهلهم بكثرة الضرائب، فكسبوا تأييدهم ودخل كثير منهم في الإسلام. لقد ساد تسامح ديني لا نظير له في سائر البلدان الإسلامية لذلك، لا نجد في المصادر البيزنطية مؤشرات على وجود جهاد ديني إسلامي يهدّدهم، لا بل نجد في المصادر الكنسية أحياناً تذمراً من اعتناق بعض رعاياها الدين الإسلامي[[راجع Cahen, Claude, Pre-Ottoman Turkey 1071-1330. New York 1968. Pp 202-215. و Minkov, Anton, Conversion to Islam in the Balkans. Leiden 2004, pp. 18-24]].


أتت أسلمة الشعوب التركية متأخّرة نسبياً وكانت سطحية لأن الإسلام الأرثوذكسي بعيد كل البعد عن الروحانية التي تميّز التنغريسم (Tengrism) ديانة أغلبية الاتراك
حيث الإبتهال والحوار مع الآلهة والأرواح يلعبان دوراً مركزياً تقوم به فئة “الكهّان” المعروفين بـ”الشامان”[[http://www.alsharq.de/wp-content/uploads/2013/02/robert_chatterjee_zenith_01_11.pdf مقابلة مع أستاذ العلوم التركية في جامعة برلية الحرة كلاوس شونيغ]] . (Shaman). وتمّت هذه الأسلمة في النصف الثاني من القرن الحادي عشر حينما دخلت قبائل دولة الكارا خانيد (KaraKhanid) التركية (999-1211) جملة في الاسلام. وتقع هذه الدولة خارج حدود الخلافة وتغطّي جغرافياً بلاد ما وراء النهر ووسط آسيا.

وهنا حصلت برأي الباحث “حقان يافوذ” عملية حاسمة في إطار تكوين الإسلام التركي. إذ إن عملية الأسلمة أنجزت من قبل صوفيّين أتوا من بلاد فارس السامانية ولكن خاصة من قبل فئة “الكهان” (shaman) الذين تقبّلوا الإسلام الصوفي[[راجع Golden, Peter B., The Karakhanids and early Islam, in: The Cambridge History of Early Inner Asia, the cambridge university press 1990, pp. 363-364]]. واستطاعوا أن يترجموه ضمن الأطر الثقافية والحضارية السائدة فتقبّله الجمهور ليحلّ مكان الديانة السابقة دون أن يولّد أية قطيعة ثقافية وأصبح الإسلام بذلك عنصراً مكوناً للهويّة التركية حتى يومنا هذا.

وهذا الإسلام الصوفي يواكب الحياة اليومية/ فهو إسلام شعبي أقرب إلى البشر من الإسلام الرسمي. فالصوفية حالت إذاً دون ذوبان الحضارة التركية في الإسلام لا بل استوعبت الإسلام ضمنها مولّدة الإسلام التركي. عكس ما رأى برنارد لويس الذي اعتبر أن الإسلام التركي هو نتيجة ذوبان الأتراك في الإسلام[[Lewis, Bernard, The Emergence of Modern Turkey. London 1968, p. 15]]. لذلك نرى الدور المهم الذي لعبته الطرق الصوفية كـ”المولوية” و”البكتاشية”و”اليوسفية” و”النقشبندية” في التاريخ التركي مشكّلة حاجزاً منيعاً أمام التطرّف الديني.

وفي الابحاث الحديثة ظهر مصطلح جديد هو “الشامانية المؤسلمة”[[Thierry Zarcone, Angela Hobart (ed.) Shamanism and Islam: Sufism, Healing Rituals and Spirits in the Muslim World. London 2013]].

الدولة والدين

رافق الغزاة الترك الذين بدأوا التغلغل في آسيا الصغرى بعد هزيمة البيزنطيّين في معركة مانتسيكرت عام 1071 جمهرةٌ من الصوفيين وساهم الطرفان سوية في استيطان بلاد الروم. أضف إلى ذلك أن المواجهة الدائمة مع العدو جعلت قضايا الأمن وثبات السلطة السياسية في أولويّة هموم ما يعرف بـ”إسلام الحدود”. وأدّى كل ذلك إلى نشوء دولة تسعى لتأمين حماية واستمرار المجتمع الإسلامي، وأصبح بالمقابل ضمانُ وجود هذه الدولة والدفاع عنها هدفاً سامياً بحد نفسه يقع على عاتق الجميع من محاربين ورجال دين.

سموّ مفهوم الدولة، التي عرفت لاحقاً بـ”الدولة العلية”، جعل جميع رعاياها في خدمتها. فأصبح علماء الدين موظّفين عندها. بهذا أفسحت الدولة المجال لاستيعاب القطاع المدني والقطاع الديني في أحضانها ما جعلها “دولة دامجة” وهذه هي السمة الثانية الرئيسية للإسلام التركي بعد سمته الصوفية. وبلغت الدولة الدامجة قمّة تطوّرها في عهد السلطان “سليمان القانوني” الذي أصدر “القانون” إلى جانب الشريعة ونظّّم جهازي الدولة: “أهل السيف” وهم العسكر، و”أهل القلم” وهم العلماء، تحت سلطة السلطان المركزية والبيروقراطية المحيطة به.

كما إن العثمانيّين أوجدوا حلاً للعلاقة الشائكة بين العلماء والسلطة السياسيّة التي طبعت التاريخ الإسلامي والتي دارت حول تحديد من هو مسؤول عن الشؤون الدينيّة.

فمنذ القرن الثاني الهجري، حينما ظهرت فئة إجتماعية فاعلة، هي فئة الفقهاء، انتزعت من السلطة السياسية صلاحيّة تفسير الدين، وقع الخلاف بين العلماء وأهل السلطة الذين فشلوا في تطويع أهل العلم كلّية وجعلهم في خدمتهم. فبقي هؤلاء بشكل عام يدافعون عن مصلحة الرعيّة في وجه جبروت السلطان.

أمّا ما فعله العثمانيّون فهو إخضاع السلطة الدينيّة للسلطة السياسية ليس فقط ظاهريّاً من خلال ضمّها الى جهاز الدولة بل أيضاً بالمضمون. فبإسم المصلحة العليا للدولة أصبح للسلطان حق فرض إرادته على القضاة وقد حدّ من سلطتهم بصفتهم موظّفين لديه يجب عليهم إتّباع تعليماته في شؤون الشريعة. وقد عاونه بذلك “المفتي أبو السعود أفندي” الذي وضع جدولاً لهذه التعليمات يضمّ إثنين وثلاثين بنداً.

إن حدِّ سلطة القاضي بتقديم السياسة على الشريعة تحت عنوان “السياسة الشرعيّة” قد ساعد لاحقاً في القرن التاسع عشر على تحديث الدولة من خلال “التنظيمات”. كما أن إدخال “القانون” إلى جانب”الشريعة” قد خلق مجالاً مدنياً رغم تشديد العثمانيين على التزامهم بالشريعة. فاستبدلوا مثلاً حدود الله بالتعزير لإعتبارهم إيّاها غير مناسبة لمتطلّبات العصر. وقد سهّل ذلك أيضاً عملية الأخذ بالقوانين الوضعيّة الغربيّة في فترة “التنظيمات”[[Schacht, Joseph, An Introduction to Islamic Law. Oxford 1982, pp. 90-91]].

الأتراك والاستعمار

الإحتكاك والتعايش والمواجهة مع الغرب عوامل ملازمة للكيان التركي في المشرق.

فالدولة العثمانيّة امتدّت في البلقان قبل أن تحتلّ الأناضول. وكان حال الدولة العثمانية في التوسّع والإنحسار كحال بقية الدول الأوروبية. ومنذ معاهدة “كارلوفتس (Carlowitz) عام” 1699 حيث فاوض العثمانيون لأول مرة في تاريخهم كطرفٍ مهزوم ثم مع تراجعهم المستمر منذ معاهدة “كيجك قينرجا” (Küçük Kaynarca) عام 1774 وإنحسار مساحة إمبراطوريتهم، نزحت أعداد كبيرة من الأتراك إلى الأناضول. وعندما هاجم حلفاء ذلك الوقت ما تبقّى من السلطنة بعد تفكّك الامبراطورية العثمانيّة نتيجة الحرب العالمية الاولى، قاد مصطفى أتاتورك المقاومة الوطنية فهزم الغزاة وكرّس استقلال الدولة التركية الحديثة.

لم تخضع تركيا للإستعمار الغربي لا من ناحية النفوذ السياسي ولا من ناحية الإحتلال الفعلي كما حصل لجميع الدول العربية ولأغلبية الدول الإسلامية. لذلك نلاحظ غياب مفهوم “المؤامرة” في الجدل السياسي التركي خلافاً للدول العربية والإسلام السياسي الذين يرون في الغرب العدو اللدود الذي يتآمر ليلاً ونهاراً ضدّهم، فهو المسؤول الأول والأخير عن تخلّفهم وانحطاطهم، وهذا ما يبرّر برأيهم العنف والإرهاب الموجه ضدّه.

خلافاً لهذه الحالة المرضيّة (paranoia) التي تجعل الغرب مسؤولاً عن جميع مشاكلنا والتي هي نتيجة هيمنة جدلية الإستعمار، أي العلاقة غير المتكافئة بيننا وبين الغرب، سادت عند الأتراك جدلية العلاقة المتكافئة مع الغرب التي ورثوها عن العهد العثماني وكانت نتيجتها مراجعة الذات قبل اتّهام الغير، فلاحظوا بعد معاهدة “كارلوفيتس” أنهم أصبحوا عاجزين عن مماشاة الغرب تقنياً كما في السابق، فطرحوا السؤال التالي: بماذا قصّرنا حتى أدركنا هذه الدرجة من التخلف؟ بينما سأل الآخرون: ماذا يفعل الغرب للحفاظ على تخلّفنا؟

الإصلاحات العثمانية

لم تأتِ الإصلاحات العثمانية نتيجة نشؤ فئات إجتماعية جديدة قادت الثورات الإجتماعية لتغيير الأنظمة السياسية باتجاه تحديث الدولة، كما حصل مثلاً في أوروبا. بالعكس، انطلقت الإصلاحات عند العثمانيين من صلب الدولة نفسها وواجهت مقاومة من قبل فئات إجتماعية قديمة عارضت بالعنف تحديث الدولة.

مع استمرار هزائمهم في القرن الثامن عشر بدأ العثمانيون يتقبّلون تدريجياً فكرة تفوّق الغرب، أي “الكفّار”، عليهم، وقرّرت الدولة الإستعانة بهم لتطوير قدراتها العسكرية. فطلبت رأي “العلماء” بهذا الشأن فأفتى هؤلاء بشرعية استقدام مدرّبين مسيحّيين أجانب لتعليم الطلّاب العثمانيّين المسلمينLewis, [[Bernard, What went wrong? Western Impact and Middle Eastern Response. Oxford 2002, p.21]]. فأنشئت المدارس الحديثة لتعليم بعض العلوم واللغّات الأجنبية لمستخدَمي الجهاز الإداري، فتكوّنت منهم تدريجياً النواة “البيروقراطية” التي قامت بتحديث الدولة.

وساعدت على نموّ تلك الفئة البيروقراطية أيضاً البعثات الديبلوماسية التي أُرسلت الى الغرب منذ عام 1721 بهدف استقصاء أسباب قوته وتفوّقه. لعلّ أهمها رحلة أبو بكير راتب أفندي (Ebu Bekir Ratib Efendi) الذي أقام في فيينا لمدة سنتين1791-92 قدّم على أثرها للسلطان تقريراً شاملاً يصف فيه، تفصيلياً، النظامَ المدني والنظام العسكري في الأمبراطورية النمساوية منوّهاً بالمسائل التي يفيد التمثّل بها في السلطنة العثمانية[[Ibid., p. 27]].

وفي القرن التاسع عشر بدأ العثمانيون إرسال بعثات طلابية إلى الغرب سائرين على خطى محمد علي حاكم مصر. فأصبح تأثير أفكار الغرب على موظفي الدولة المستقبليين تأثيراً مباشراً.

واجهت البيروقراطية المتنوّرة معارضةً من قبل القوى التقليدية التي نشأ بعضها نتيجة ضعف الدولة المركزية في القرن الثامن عشر والتي استولت على السلطة الفعلية في الولايات.

وتتكوّن تلك القوى من “الاعيان” وهم كبار ملاكي الارض، و”الأشراف” في المدن و”الإنكشارية” والعلماء. لذلك لم تهدف إصلاحات السلطان سليم الثالث (1789-1807) إلى تقوية الدولة تجاه الخارج فقط بل إلى تقوية السلطة المركزية تجاه الولايات أيضاً. وعندما حاول السلطان إنشاء جيش حديث خاضعٍ للسلطة المركزية اصطدم بتلك القوى التي تمكّنت من عزله ومن تعيين محمود الثاني (1808-1839) خلفاً له[[راجع Karpat, Kemal H., The Transformation of Ottoman Sate, 1789-1908. In: International Journal of Middle East Studies, Vol. 3, No. 3. (Jul., 1972), pp. 243-281]].

وقّع السلطان مع الأعيان إتفاقيّة عام 1808 التي تضمن لهم ولذريتهم الملكيّة التامة لأراضي الدولة التي هي بحوذتهم (تشفتلك). وبالمقابل، التزموا بالدفاع عن الدولة وقبلوا بالحفاظ على الجيش الجديد وإلحاقه بفرق “الإنكشارية” تحت مسمّى “السكبان”. بادر السلطان محمود إلى تسليح وتأهيل الجيش الجديد واستطاع القضاء به على جيش “الإنكشارية” نهائياً عام 1826 وسمّي السكبان “الجيش المحمدي المنصور”. بعدها ألغى عام 1831 ما تبقّى من نظام “التيمار” وضمّ “السباهية” إلى الجيش، ثم صادر أملاك “الأعيان” ووزّعها على الجيش الجديد.

بهذه الخطوات يكون السلطان قد قضى على القوى الرئيسية المعادية للإصلاح. فبدأ عملية إصلاحٍ شاملة لجهاز الدولة، وخلق وزارات على نمط الغرب (كالداخلية والخارجية والحربية والنافعة الخ) زوّدها بصلاحيات. وأوجد إدارة حكومية للأوقاف وكذلك “باب المشيخة” لشيخ الإسلام لإصدار الفتاوي. وعيّن رئيساً للوزراء (باش وكيل). وقد زاد عدد المدارس بشكلٍ ملحوظ دون أن يغيّر مهمّتها التي اقتصرت، كما في السابق، على تربية موظفين للجهاز الإداري الذي زاد قوةً وسلطاناً.

لقد مهّدت تلك الإصلاحات السبيل أمام السلطان عبد المجيد (1839-1861) لإصدار مرسوم “التنظيمات” بعد أشهر من إعتلائه العرش عام 1839 كمقدمة لإصلاحات جذرية أخرى غيّرت وجه الدولة والمجتمع ليس هدفنا التعرض لها تفصيلياً في هذا البحث.

اللافت أن مرسوم “التنظيمات”حصل على تأييد ومباركة شيخ الإسلام بينما أدان شيخ الإسلام السابق مرسوم النظام الجديد ووقف إلى جانب الإنكشارية عندما عزلوا السلطان سليم الثالث عام 1807. واللافت أيضاً أن شيخ الإسلام هذا ينتمي إلى “الطريقة النقشبنديّة” مما يسلّط الأضواء على دور الصوفية في عملية الإصلاحات.

ralphghadban@gmail.com

* برلين

يتبع

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading