يركز المفكر الإيراني “آرش نراقي” في محاضرته بمؤتمر “إيران بعد الانتخابات الرئاسية” الذي عقد بجامعة أوكلاهوما، على المقارنة بين مفهوم “المصلحة” أو المنفعة في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وبين مفهوم “المصلحة” عند بعض المفكرين الغربيين أمثال جون ستيوارت ميل. وميل (1806-1873) هو فيلسوف واقتصادي بريطاني معروف بمواقفه المناهضة للنزعة اليقينية ولكل ما كان يقاوم مسيرة العقل والتحليل والعلم التجريبي. كما كان، مثل بقية النفعيين، معروفا بمهاجمته التعصب الديني والإيمان بالحقائق البديهية التي لا يمكن إقامة الدليل عليها ونتائجها اليقينية التي أفضت في رأيه إلى التنازل عن المنطق. وقد انتهينا في عرضنا لمحاضرة نراقي (في الجزء الأول) إلى أن التباين بين نظرية ولاية الفقيه المطلقة وبين رؤية الأشاعرة يكمن في أن الأشاعرة يعتقدون أن إرادة الله هي المعيار في تحديد الحسن والقبح الأخلاقيين، لكن لدى ولاية الفقيه المطلقة فإن تشخيص الولي الفقيه للمصلحة هو معيار حسن وقبح المسائل. وبالتالي، لا يمكن لأي أمر أن يكون في ذاته حسن أو قبيح، لأنهما – أي الحسن والقبح – يتبعان المصلحة التي لا يشخصها إلا الولي الفقيه.
وهنا الجزء الثاني لأبرز ما جاء في محاضرة نراقي:
تعتبر الأخلاق الناتجة عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة نوعا من المصلحة غير المقيدة. لكننا نتساءل: لماذا نصف هذه الأخلاق بأنها أخلاق مصلحية؟ إن “نوع” الأخلاق الناتجة عن ولاية الفقيه المطلقة هي أخلاق مصلحية، لأن المعيار النهائي الذي يحدد حسن وقبح الأمور هو “المصلحة”، أو المنفعة، أي مصلحة النظام.
لكن “المصلحة” المندرجة في إطار نظرية ولاية الفقيه المطلقة تتباين في نقاط مهمة مع “المصلحة” المندرجة في النظريات الأخلاقية النفعية للعديد من المفكرين أمثال جون ستيوارت ميل. وأود هنا أن أطرح 3 تباينات:
التباين الأول: من وجهة نظر نفعيين أمثال ميل، فإن المعيار النهائي لتحديد الحسن والقبح الأخلاقيين هو “المصلحة العامة”. فالعمل الحسن أو الجيد أخلاقيا لدى ميل هو العمل الذي له أثر يصب في مصلحة غالبية أفراد المجتمع. لكن في نظرية ولاية الفقيه المطلقة فلا يقصد من “المصلحة” المنفعة العامة، بل يقصد منها “مصلحة النظام”، أي الإجراءات التي تتم استنادا لتشخيص الولي الفقيه والتي تعتبر ضرورية لحماية النظام الإسلامي واستمراره.
التباين الثاني: عند النفعيين أمثال “ميل”، فإن مصالح جميع أفراد المجتمع لها قيمة متساوية. وعليه، يرتبط حساب الربح والخسارة تجاه أي عمل بمصلحة العمل، وهي متساوية في القيمة بين الجميع. لكن في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، لا تخضع مصلحة أفراد المجتمع إلى قيمة متساوية.
إن بعض هذا التمييز له جذور في أحكام الفقه التقليدي، مثل عدم المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة وبين المسلمين وغير المسلمين وغير ذلك. كما أن بعض التمييز له جذور في العمل السياسي أيضا، فعلى سبيل المثال من يعتبر وفيا للحكومة وتعتبر مواقفه أقرب إلى الموقف الحكومي سيعتبر في النهاية مواطنا من الدرجة الأولى، أما من يتم التشكيك في صدقه ووفائه تجاه الحكومة، أو لا يتم اعتبار فكره متوافقا مع الأيديولوجيا الرسمية الحكومية، سيعتبر مواطنا من الدرجة الثانية أو غيرها من الدرجات.
ففي إطار نظرية ولاية الفقيه المطلقة، تعتبر مصلحة مواطني الدرجة الأولى هي المهمة لا مصلحة مواطني الدرجة الثانية.
التباين الثالث: عند النفعيين أمثال “ميل”، تشخيص المصلحة، أو تشخيص الخير العام، يقع على عاتق العقل الجمعي. لكن في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، يخضع معيار تشخيص المصلحة أو المفسدة لشخص الولي الفقيه لا للعقل الجمعي.
إن الرغبة المصلحية الناتجة عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة تعتبر رغبة “غير مقيّدة” لأنها لا تستطيع أن تتقيّد بأي قيود. ففي إطار النظرية من يستطع أن يشخّص المسائل الحسنة عن المسائل السيئة هو الولي الفقيه. ولا توجد أي قيود مستقلة تستطيع أن تقيّد تشخيص الولي الفقيه.
فإذا شخّص الولي الفقيه أن الكذب، والبهتان، وتزوير الانتخابات، وقتل الناس الأبرياء، والاعتداء الجنسي على المنتقدين، هي أمور من الضرورة بمكان تنفيذها من أجل المحافظة على النظام الإسلامي، في هذه الحال لابد للمؤمنين والمقلّدين أن ينفذوا هذه الأمور، بل هي بالنسبة إليهم واجب شرعي.
لكن النظام الأخلاقي الذي يجيز الكذب والبهتان والاعتداء الجنسي وقتل الأبرياء والإضرار بالغير، هو في الواقع ليس إلا نظاما غير أخلاقي. فالعيش في ظل هذا النوع من المصلحة غير المقيدة يؤدي في نهاية المطاف إلى إيجاد واقع غير أخلاقي أو إلى فوضى. فالأخلاق الناتجة عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة هي في النهاية ليست سوى نوع من اللاأخلاق المقدسة.
في الواقع لابد من القول إن نظرية ولاية الفقيه المطلقة هي أحد أسباب الأزمة السياسية والفوضى الأخلاقية في المجتمع الإيراني. ففي حين يعتبر أصحاب النفوذ أن كل المارسات اللاأخلاقية مسموح بها من أجل المحافظة على مصلحة النظام، أي المحافظة على نفوذهم والسيطرة على مصالحهم، وأنه يتم بكل سهولة نقض حقوق الإنسان تجاه كل من لا ينتمي إلى النظام الإسلامي، فإن العيش بطريقة أخلاقية يعتبر أمرا صعبا جدا.
باعتقادي، من أجل مواجهة التصرفات غير الأخلاقية في الواقع السياسي الإيراني، فإننا نحتاج أكثر من أي شيء آخر إلى التأكيد بصورة جدية على ضرورة احترام حقوق الإنسان. فالهدف، مهما كان حسنا، لا يمكن له أن يسمح باختيار أي وسيلة. فالوسائل مسموح استخدامها شريطة ألاّ تناهض حقوق الإنسان ولا تدوس على كرامة الإنسان.
إن احترام حقوق الإنسان هو شرط أخلاقي مهم وأحد القيود التي يجب أن توجه التفكير بالمصالح. والمصلحة غير المقيدة الناتجة عن نظرية ولاية الفقيه المطلقة، تضحي بالإنسان من أجل تحقيق رغباتها المهمة، وهي في النهاية تمهد الطريق للتواصل بين المسائل اللاأخلاقية والأمور المقدسة.
إن الحركة الخضراء ليست سوى حركة معارضة تعبّر عن مسعى أدبي للمجتمع الإيراني في مواجهته للسلوكيات غير الأخلاقية المقدسة للنظام الإسلامي. وهذه المعارضة تريد أن توضح أن المجتمع الإيراني، على الرغم من زحف السلوكيات غير الأخلاقية إلى جلد السياسة الإيرانية الرسمية، لايزال حيا وحساسا وأخضر.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي