كنا ندهش من بعيد على صبر الشعب السوري، ولا نذهب أبعد من ذلك. كنا مشغولين بالنظام نفسه، بأشكال «الوصاية» المختلفة التي كان يمارسها طوال عقود علينا وعلى حكامنا. كان الشعب السوري في تصوراتنا الضمنية كتلة صماء. نعلم مدى معاناته، ودليلنا اليومي البؤس الذي يتلحّف به العمال السوريون في لبنان، ولكن أفضلنا كان يرثي وأسوأنا كان يغوص في مشاعره العنصرية عن قلّة الحيلة الوطنية تجاه نظامه.
وطبعاً، كان لهاتين الوضعيتين، أي الوصاية على شعب لبنان وحكامه، واضطهاد الشعب السوري، دعامة ثابتة فكرية واحدة، قوامها: أن كل عيوب هذا النظام الممْسك برقاب البلدين ليست شيئاً أمام «صموده» و»مقاومته»… وتصدّيه للصهيونية والامبريالية إلخ. وعمر هذه الثابتة أكبر من عمر «حزب الله» و8 آذار… عندما كانت «الحركة الوطنية اللبنانية» هي زعيمة الساحة «الوطنية».
أما في الداخل السوري نفسه فكانت هذه الثابتة محمولة على كتفين اثنين: الأمن، أي القسوة والإخضاع، ثم «الثقافة» الداعمة نظرياً له: من عبادة الرئيس الى نشر القصائد والخطب والمدائح والصور التي تصف كماله وبطولته وأبديته، والاحتفالات الستالينية بنسخة بعثية، والمزايدات الدينية والعلمانية… كل وسائل «الإقناع» الممكنة كانت فائضة عن نفسها في استبسالها من أجل إبقاء هذا القائد وسلالته على رأس البلاد، ودائماً الى الأبد…
ولكن الآن، فقط الآن، مع الانتفاضة التاريخية للشعب السوري، صرنا نعرف بأن كل هذا الصمت السابق، كل هذه السلبية، كل هذا «الخنوع»…. لم يكن إلا ظاهرياً: كان الشعب السوري طوال هذه الحقبة من تاريخه، يتصرف وكأنه هضم القسوة وثقافتها الرديئة، وآمن بها… أو استسلم أو يئس.
الآن فقط ندرك أنه كان يفعل ذلك لأنه كان يؤثر السلامة، لا غير. أما في سريرته، بين الآمنين عليه، كان بركان حمم وغضب، لا يعرف متى تأتي ساعته.
ثم أتت هذه الساعة، ولم يأبه للقتل والتنكيل لأنه صار عليه، لو أراد التصالح مع التاريخ، أن يخرج من قلبه ما حجبته سنوات السواد، أن يصرخ عالياً بما ثقل على صدره من كراهية لهذا النظام.
العكس تماماً يحصل بين النظام اللبناني وبين «رعاياه»: فهذا النظام مستدخل في بواطن اللبنانيين: يحبونه الى حدّ أن لا شيء يحشد طاقاتهم السياسية قدر حشد الطوائف لأبنائها. صحيح أنه، لو سألتهم، أو لو سمعت خطب قادتهم الطائفيين، فلن ينضح منهما غير «نبذ الطائفية«، بصفتها علّة غير موجودة إلا عند غيرهم من الطوائف أو الزعماء.
ولكن، لو دققت أكثر قليلاً فسوف تجد بأن اللبنانيين، في عمومهم، يشتعلون حباً بزعيمهم الطائفي، وأحياناً عبادةٍ، وبكل جوارحهم… كل طائفة بطائفة. أما إذا كبر فرد على طائفته وخرج من حضنها الآمن، من منافعها وعزوتها وتوظيفاتها ومستشفياتها ومدارسها، فليس أمامه غير الطائفة الخصم، وكل ترسانتها الفاتنة الأخرى، الشبيهة، وشرطها الوحيد عدم المساس بمعبودها و»ثوابته».
الزعيم الطائفي اللبناني لا يحتاج الى تعبئات بعثية، ولا مظاهر عبادة الشخصية الستالينية. هو هنا كأنه وُجِد منذ المهد. ديكتاتوريوه الصغار لن يتزحزحوا بالرغم إخفاقاتهم المتتالية، وفشلهم المزْمن، وشللهم المديد…. ديكتاتوريون لن يتزحزحوا، ليس بفضل الشرطة والأمن، بل بفضل «الحب» العميق والامتنان الأعمق الذي يعتمر صدور «الرعية» عند أول طلّة، أو أي استفزاز لمشاعرهم الفوارة…. «بالروح بالدم…».
كما في السوق، التنافس الطائفي «الحرّ» هو حجر الزاوية الذي يخلّد نظام الطوائف. فما أن تشعر طائفة بأن قوة ما دعمت بالطاقة أو المال أو السلاح، حتى يتجنّد أبناء الطوائف الأخرى، لأنهم يعتقدون، عن حق، بأن هذا التنافس على مواقع الدولة كفيل بتحسين عيش الطائفة الأكثر قدرة على الانتزاع. فما بالك عندما تكون الطائفة الأقوى، الآن، قد وضعت مسدسها على الطاولة وقالت «قمْ» لمن تعتقد أنه جلس مكانها أكثر من اللازم: تلك هي حركة النظام وديناميكيته الحلزونية منذ نيل لبنان استقلاله.
وفي ظلال هكذا نظام، كل مطلب معيشي هو مطلب «مسيّس» كما يقولون تهذيباً، ويفهم شفرته كل اللبنانيين: من أنه، في هذه اللحظة الدقيقة من موازين القوى الطائفية المطلب المعيشي أو البيئي أو الصحي… هو مطلب طائفة بعينها، يعبر عن مصلحتها المباشرة، المحدّدة، الآنية.
المطالب السياسية بدورها «مسيّسة»؛ وقد شاهدنا أخيراً كيف تنازعت جماعات طائفية بعينها، من صميم النظام الطائفي، للاستيلاء على حركة التظاهرات المطالِبة بإسقاط النظام الطائفي الحاكم…
من هذه المقارنة السريعة بين النظامين، تبرز مفارقة عجيبة: النظام السوري الحديدي المهيمن على النظام اللبناني وشعبه، هو أضعف من هذا النظام الأخير… فيما الهيمنة لا تفترض شيئاً قدر افتراضها القوة والثقة…
من أين أتت اذن «قوة» النظام اللبناني؟
من عمره أولاً. هو أقدم من النظام السوري بعقدين على الأقل. وطائفيته لا تقتصر على «الفوق»، كما في النظام السوري حيث الطائفية هي، في أغلبها، من ترتيبات النظام وتحصيناته وحسابات حماية نفسه وتخليدها…. إذاً، لا تقتصر على «الفوق»، بل هي نظام اجتماعي متكامل، يمسك بيد المواطن من المهد الى اللحد. وهي نظام مستبطن في أسارير اللبنانيين، فيما النظام السوري يتوسّل من رعاياه الخوف. لم يقنعهم، لم تقنعهم عبادة الرئيس وسلالته، وليست بالتالي عواطفهم تجاهه تلقائية، عفوية، آتية من الأعماق.
أيضاً: اللبنانيون يحبون نظامهم، بالرغم مما يدعونه ليل نهار من كرههم له. السوريون كانوا يكرهونه سراً والآن يعلنون كراهيتهم له. وفي كلتا الحالتين، فإن السوريين يبدون صادقين، فيما اللبنانيين يبدون بهلوانيين، مثل زعيمهم الأكثر لمعاناً، يقفزون على وقائعهم وأفكارهم، كما يفعل المهرجون في سيرك السياسة.
هل لهذه الأسباب يعوّل النظام السوري على إثارة النعرات الطائفية في المجتمع السوري ليفشل انتفاضة شعبه؟ أن يكون تعلَّم من النظام اللبناني أن أفضل الطرق للاستمرار على قيد الحياة هي، كما في لبنان، إشعال الحرب بين هذه الطائفة وتلك، لإخماد نار حرب أخرى أخطر منها، هي حرب الشعب كله ضد النظام.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
نُشِر في نوافذ “المستقبل”
النظام السوري الأمني أضعف من النظام اللبناني الطائفي
عزيزتي دلال,
أشكرك على مقالك الذي تطرقت فيه للشعب السوري .لافتة نظرك ما فاتك معرفته عنا .إن هذا الشعب الذي تجرع كل هذا الصبر لقمة مسمومةفي تفاصيل مراراتة مترقبا لحظة بلحظة ساعة الانعتاق, لم يكن من خوف فقط من رهاب ذاق اللبنانيون قوة بطشه كما السوريون . وإنما من رعب ان يواجه يوما عبث الاقتتال الطائفي الذي يدفع إليهالنظام بكل جبروته كلما واجه أحدا يمكن أن يقف بوجهه .سلامي وسلام صادق .
إيمان