في عنوان هذا المقال ثمة مصطلحان في حاجة إلى بيان وهما: «النسبي» و«ثقافة المتوسط». يقال عن «النسبي» إنه مصطلح متضايف، أي أن تصوره متوقف على تصور آخر، وهذا التصور الآخر هو «المطلق».
أما مصطلح «ثقافة البحر المتوسط» فهو مصطلح مركب، لأن هذه الثقافة مركبة من ثقافتين: ثقافة شمال المتوسط وثقافة جنوب المتوسط، الثقافة الأولى هي الثقافة الأوروبية أو الثقافة الغربية والثقافة الثانية هي الثقافة العربية أو الثقافة الإسلامية، وتاريخيًا يمكن القول أن النسبي كان موضع صراع في الثقافة الأولى، في حين أن المطلق كان موضع صراع في الثقافة الثانية.
والسؤال إذن:
كيف حدث ذلك؟
في القرن الخامس قبل الميلاد في الثقافة اليونانية نشأت مدرسة فلسفية اسمها «السوفسطائية»، والسوفسطائي في أصل معناه يطلق على المعلم في أي فرع من فروع العلم ثم لحقه التحقير في عهد أفلاطون وأرسطو فأصبح يعنى المحب للمغالطة، ولكنه الآن موضع تقدير لأنه يرمز إلى التنوير.
كان في مقدمة هذه المدرسة الفلسفية فيلسوف يوناني اسمه بروتاغوراس، له كتاب عنوانه «الحقيقة» لم يبق منه سوى صفحات، في بدايته عبارة اشتهر بها تقول: «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا» بمعنى أن ما يبدو لك أنه حقيقي فهو حقيقي، وما يبدو غير ذلك فهو غير ذلك، ومعنى هذه العبارة أن الحقيقة نسبية بسبب نسبية الإنسان.
ثم رتب بروتاغوراس على هذه العبارة نتيجة مهمة وهى قوله: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين، فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها غموض المسألة وقصر الحياة»، فاتُهم بالإلحاد وأُحرقت كتبه وحكم عليه بالإعدام ولكنه فرّ هاربًا، إلا أن أفلاطون قد تولى مطاردته، لأن أفلاطون كان يرى أن العقل الإنساني قادر على اقتناص المطلق، وجاء أرسطو مؤيدًا لأستاذه أفلاطون.
ومع ذلك فإن النسبي، في المدرسة السوفسطائية، لم يتوارَ بل ظهر من جديد في مدرسة الشكاك في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي بزعامة سكستوس البيريقوسي، وقد ورد في أحد مؤلفاته النص الآتي:
«إن المبدأ الأساسي لمدرسة الشكاك يدور على القول بأن لكل حجة حجة مضادة لها» ثم يستطرد قائلاً: «ومن لوازم هذا المبدأ الوصول إلى نقطة يمتنع فيها أن نكون دوجماطيقيين» أي أن نكون قطعيين متزمتين، أي أن نكون من مُلاك الحقيقة المطلقة.
وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن ثمة صراعًا كان قائمًا في الثقافة اليونانية بين النسبيين والمطلقين، إلا أنه قد حُسم في القرن السادس عشر بفضل نظرية كوبرنيكس عن دوران الأرض حول الشمس، ومعنى هذه النظرية أن الأرض لم تَعُد مركزًا للكون، وبالتالي لم يَعُد الإنسان مركزًا للكون، ومن ثم فهو لن يكون قادرًا على امتلاك الحقيقة المطلقة، وإذا لم يكن قادرًا على ذلك فتفكيره بالضرورة نسبى، وقد واكب إعلان هذه النظرية قول لوثر «الفحص الحر للإنجيل»، أي رفع وصاية السلطة الدينية، التي تزعم أنها تملك المطلق، عن العقل الإنساني في فهمه لنصوص الإنجيل.
والسؤال بعد ذلك:
أين مكانة النسبي في ثقافة جنوب المتوسط؟
أظن أنه لا مكان إلا للمطلق في هذه الثقافة، فنحن في هذه الثقافة نحيا في خضم صراع المطلقات، قديمًا كان الصراع قائمًا بين إله الشمس رع وإله الخضرة أو النيل أو الإله أوزير، وظل الصراع مستمرًا حتى أصبح إله الشمس هو الحاكم الأعلى المتحكم في المصريين أجمعين، وأصبح فرعون هو خليفة إله الشمس، بل أصبح في حالة هوية معه، فيذكر اسم فرعون عندما يذكر اسم رع. وحديثًا لدينا ثلاثة مطلقات دينية في حالة صراع وهى اليهودية والمسيحية والإسلام.
ومن هنا يتضح لنا أنه لا مكان للنسبي في ثقافة جنوب البحر المتوسط، بل إن محاولات إدخال النسبي في تلك الثقافة كانت بلا جدوى، فتكفير الآخر وارد وقتله عند اللزوم وارد، والدليل الحاسم على ما نذهب إليه هو الصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فلدينا في هذا الصراع مطلقان: رفض مطلق للاعتراف بوجود إسرائيل ورفض مطلق للتطبيع الثقافي، ومع ذلك نقول نحن دعاة سلام مع أن السلام لا يتم إلا بالتفاوض المباشر، وهذا التفاوض المباشر يعنى التنازل، والتنازل ليس ممكنًا إلا في مجال ما هو نسبى، وما هو نسبى ليس له وجود في ثقافة جنوب البحر المتوسط.
وتأسيسًا على ذلك كله يمكن القول بأن ثقافة الشمال ثقافة نسبية وثقافة الجنوب ثقافة مطلقة، والمطلوب رفع هذا التناقض كمدخل إلى تأسيس «الاتحاد من أجل المتوسط» إذا أريد لهذا الاتحاد أن يكون مخصَّبًا للحضارة الإنسانية في مسارها من الأسطوري إلى العقلاني، أو من المطلق إلى النسبي.
نقلاً عن “المصري اليوم”