الاندفاعة الروسية نحو ما يشبه الحسم قبل 20 يناير المقبل، يمكن أن تدفع بسيد البيت الأبيض الجديد إلى صوغ رؤية مغايرة للعلاقة مع موسكو، ومن الواضح أن النزاع السوري سيكون الاختبار الأول الذي يضع علاقة بوتين وترامب على المحك.
تفرض روسيا إيقاعها على الساحة السورية التي تعتبر أكثر ساحة خارجية تأثرا بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية. بعد أقل من أسبوع على انتخاب دونالد ترامب، تطلق موسكو العنان لتصعيد عسكري وكأن فلاديمير بوتين يسابق الزمن قبل بدء عمل الإدارة الأميركية الجديدة. الانتظار أو المهادنة لا يندرجان في قاموس الواقعية السياسية عند “القيصر الجديد” الذي لا يعول على رسائل طمأنة وصلته من “الدونالد” صديقه المفترض، ويريد التفاوض معه حسب شروطه وأجندته. مقابل التصميم الروسي على الإمساك بالورقة السورية وعلى انتزاع موقع قوي في الإقليم، ترتكز أولوية دونالد ترامب على مقارعة تنظيم داعش والظاهرة الجهادية. لكن الاندفاعة الروسية نحو ما يشبه الحسم في الوقت المستقطع قبل 20 يناير المقبل، يمكن أن تدفع بسيد البيت الأبيض الجديد إلى صوغ رؤية مغايرة للعلاقة مع موسكو، ومن الواضح أن النزاع السوري سيكون الاختبار الأول الذي يضع علاقة بوتين وترامب على المحك.
بعد 9 أسابيع يتسلم الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة مهامه، وسيكون الشرق الأوسط بمثابة الضيف الثقيل الذي يحل عليه في بداية ولايته. إبان الاجتماع مع باراك أوباما، كان لملفي العراق وسوريا حصة كبيرة من التداول، وبما أنه توجد قوات أميركية هناك، سيهتم القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية بتطورات هذه المنطقة، بالرغم من اختزالها سابقا في سياق الحرب ضد الإرهاب، وليس كأحد أبرز مسارح السياسة الخارجية الأميركية منذ عقود
هكذا سيكون الشرق الأوسط بمثابة المعمودية الدبلوماسية لملياردير مانهاتن الذي يتبع خط مدرسة انعزالية تاريخية (أميركا أولا)، ولكنه يريد في نفس الوقت إعادة قوة أميركا مما يلزمه السعي لوقف التراجع الأميركي حول العالم. أما التناقض الإقليمي في سياسة ترامب فيتمثل في كيفية التوفيق بين التنسيق المباشر أو غير المباشر مع إيران وحلفها في سوريا من جهة، والعمل على التنبه للاتفاق النووي ولمدى دورها الإقليمي من جهة أخرى. لا يمكن اختصار الوضع في سوريا على هزيمة داعش وعدم اعتماد مقاربة شاملة للحل السياسي ومستقبل منظومة الأسد والتوازنات الإقليمية.
احتمال بلورة ترامب لحلف مع روسيا في سوريا سيمثل انقلابا في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لأن ذلك لن يعني استمرارية مقنعة لسياسة إدارة أوباما فحسب، بل تسليما بوقائع جديدة وإعادة رسم تحالفات. لكن ترامب لا يملك الحرية المطلقة في تحديد خياراته ويمكن أن تقيده لعبة المؤسسات، إذ أن مجلس النواب الأميركي فاجأنا وأقر هذا الأسبوع وبالأغلبية المطلقة، قانون “حماية المدنيين”، المعروف اختصارا بـ“سيزر” (الاسم الكامل هو “قانون قيصر للحماية المدنية بسوريا”، نسبة للمصور العسكري السوري السابق، الذي قام بالتقاط 55 ألف صورة لضحايا مدنيين قضوا تحت التعذيب على يد القوات الحكومية قبل أن يهرّبها خارج سوريا، والمعروف باسم “قيصر”، وأدلى بشهادته أمام لجنة مجلس النواب الأميركي للشؤون الخارجية عام 2014) حول تعذيب نظام الأسد للمدنيين السوريين، والذي ينص على معاقبة كل من يدعم النظام السوري، بما في ذلك روسيا وإيران وحزب الله وبعض الجماعات المسلحة.
ويعد هذا القرار لغزا جديدا بشأن التوقيت، لأن إدارة أوباما عملت سابقا على عدم إقراره لمراعاة روسيا وتمرير اتفاق جون كيري – سيرجي لافروف (9 سبتمبر الماضي) ولأن أغلبية الكونغرس تنبثق من الجمهوريين الداعمين للرئيس الجديد دونالد ترامب الذي لم يصوب يوما على نظام الأسد، ولم نسمع له آراء عن الترويج لقيم حقوق الإنسان من قبل زعيمة “العالم الحر”.
ربما يزيد هذا القرار من التوتر مع روسيا في حال مروره في مجلس الشيوخ وعدم فرض أوباما الفيتو عليه، لكنه يمثل نوعا من الرسالة المشفرة للرئيس الجديد حول ضرورة احترام بعض الثوابت في سياسة أميركا في الشرق الأوسط، إزاء تطور الوضع الميداني والسعي المحموم للحسم في شمال سوريا، لا يمكن لإدارة ترامب الاعتصام بالصمت أو تجاهل محرقة حلب وكأنها لا تحصل، ولذا من المحتمل ألاّ يذهب بوتين بعيدا في اجتياح شرق حلب وجعل مصير المدينة السورية موضع تفاوض.
في هذه الحالة، لا يستبعد أن تستمر سياسة إدارة أوباما (مع بعض التعديلات) خلال العام الأول من إدارة ترامب. من خلال بعض إطلالات الرئيس الجديد الإعلامية ومداخلات بعض المقربين منه من أمثال المرشح المحتمل لمنصب مستشار الأمن القومي الجنرال مايكل تي فلاين (الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية بين 2012 و2014، وكان قد اعتبر أن عدم التدخل الأميركي في سوريا أواخر 2013 بعد استخدام الكيميائي قد قوض مصداقية واشنطن) يمكن أن يتم التسليم لروسيا بإدارة منطقة نفوذها، مقابل اهتمام واشنطن بترتيب أوضاع المناطق التي يسيطر عليها الأكراد والمعارضة. وهذا يعني استمرار حالة التفكك مع إمكانية إنشاء منطقة آمنة على الحدود مع تركيا، لكن ذلك ينطوي على تساؤلات حول ردود فعل القوى الإقليمية المنخرطة في الحرب السورية.
نتيجة تداخل معركتيْ الموصل والرقة، وتهديد الحشد الشعبي العراقي بالدخول إلى سوريا، ستجد واشنطن نفسها في موقع حرج للتوفيق بين تناقضات تحالفاتها مع الحكومتين التركية والعراقية وجماعات الأكراد وغيرها من الجماعات في سوريا، وسيعقّد ذلك الحوار أو التجاذب مع موسكو التي أعطت الأولوية في عام تدخلها الأول لدعم النظام وليس لضرب داعش، وتحاول الآن عبر إنزالها البحري تبيان إسهامها في ضرب الإرهاب قبل بدء عهد ترامب.
من الواضح أنه من دون بلورة مقاربة إقليمية شاملة، ومن دون نجاح اختبار القوة مع روسيا (مع ما يعنيه من إنهاء أو تخفيف للتوتر في ملفات أخرى) لا يمكن لواشنطن ترامب أن تكون أكثر فعالية من إدارة أوباما في حل النزاع السوري.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس