لم يعد الإرهاب المعاصر مجرد مواجهة بين دولة وتنظيم، بل استحال إلى حالة “سيالة” تذيب الحدود التقليدية. نحننعيش مخاض “الموجة الخامسة”، حيث يتحول العنف من فعل مؤسسي صلب إلى “شفرة مفتوحة المصدر” (Open Source) مشاعة. في هذا الفضاء، لا يحتاج المتطرف إلى “بيعة” أو معسكر؛ بل يكفيه “تحميل” الأيديولوجيا وتنفيذها بقرار ذاتي، مما يجعله “انتشارياً”، يتواجد في كل مكان ولا يمكن حصره في نقطة جغرافيةواحدة.
أدلجة العنف
استعار الإرهاب فلسفة “المصدر المفتوح” من عالم البرمجيات، ليخلق نمطاً من “دمقرطة العنف“. في الفضاءالممتد من شمال أفريقيا إلى جنوب الصحراء، أصبحت “الشفرة الأيديولوجية” متاحة للجميع عبر المنصات المشفرة. هذا التحول نقل الثقل من “القيادة والسيطرة” إلى “الإلهام والتحريض“، حيث يتحول الفرد المهمش إلى “نواة إرهابية مستقلة” بذاتها، مستخدماً أدوات بسيطة أو تقنيات تعلمها ذاتياً، مما يجعل التنبؤ الأمني معضلة تقنيةوأخلاقية معقدة.
العشائرية الجديدة
تنبثق الموجة الخامسة من رحم “العولمة المنكسرة“. فمع تآكل السيادة الوطنية، ارتد الإنسان نحو “العشائر الرقمية“؛ وهي ولاءات هجينة تزاوج بين العرق والعقيدة بحثاً عن “نقاء استئصالي“. هذا الإرهاب “عبرسياسي” بطبعه، فهو لا يهدف لتغيير نظام حكم، بل يسعى لهدم الواقع المادي وتشييد “يوتوبيا” نقية متخيلة. إنالمقاتل الجديد لا يفاوض، بل يسعى لمحو الآخر الوجودي، مما يفسر الوحشية المفرطة التي تتجاوز أي غاية سياسية عقلانية.
الأتمتة العقائدية
يدخل الذكاء الاصطناعي كمحرك بنيوي لهذه الموجة، محولاً التقنية إلى “مسرّع للجزيئات” الإرهابية. عبر تقنيات“التزييف العميق“، يتم تفتيت الحقيقة وصناعة واقع بديل يشعل الفتن العرقية والمذهبية بضغطة زر. الخوارزميات اليوم هي “المجند الأكبر“؛ فهي لا تنشر المحتوى فحسب، بل تهندس الإدراك عبر “غرف صدى” معرفية، تضخ السموم الراديكالية في عقول الشباب بناءً على تحليل دقيق لثغراتهم النفسية والاجتماعية.
الردع الإدراكي
بما أن “الموجة الخامسة” تعمل كبرمجية خبيثة، فإن الردع التقليدي بالرصاص لم يعد كافياً. يتطلب الواقع الجديد بناء “درع إدراكي” يعتمد على خوارزميات دفاعية تكسر احتكار الحقيقة داخل الفقاعات الرقمية. إن الردع الحقيقي يمر عبر “السيادة المعلوماتية” وتجفيف الينابيع المالية الرقمية (العملات المشفرة)، وتحويل الصحراء من “جسر للتوحش الرقمي” إلى “فضاء للأمان المعلوماتي” عبر استعادة “معنى الحقيقة” في الوعي الجمعي.
أنطولوجيا المواجهة
إن المعركة ضد إرهاب الموجة الخامسة هي في جوهرها معركة على “معنى الإنسان“. في زمن السيولة المطلقة، يصبح الوعي الفردي المستنير هو الحصن الأخير للسيادة البشرية. إن المواجهة الحقيقية ليست أمنية فقط، بل هي استعادة للعقد الاجتماعي وتحصين للعقل البشري ضد التوحش الرقمي. إن حماية الفضاء العابر للصحراء تبدأ من حماية “الحقيقة” وتفكيك سيمفونية العدم التي تعزفها خوارزميات الموت.
انظر أيضا: إرهاب ما بعد العولمة: ثورة الرأسمال الرمزي

