في زمن غير بعيد كان العائدون من الغرب بعد غياب طويل، إثر دراسة أو عمل، يحملون معهم جعبة مليئة بالإعجاب بهذا الغرب؛ بالحداثة والحضارة، بالعلم والتكنولوجيا، بالعقل بالأزياء، بالذوق وبطُرق العيش وفنونه. هذا الإعجاب كان يُترجم بطُرُق شتى، باعتماد أنماط وقيم، بالمحاكاة والتقليد ونبذ نقضائها، وكان هذا شأن الأفراد والجماعات على حد سواء. نعرف منهم النهضويين كما المواطنين العاديين؛ الأوائل اصبحوا، بعد رحلاتهم، وجلّها «علمي»، إلى الغرب، رواداً في شؤون السياسة والاجتماع والأخلاق؛ يغرفون مما شاهدوه هناك، وتعلموه، أشكالا وألوانا جديدة من التفكير والعيش، فأصبحوا معلّمين في إعادة بناء ما وصف آنذاك، أي قبل أكثر من قرن ونصف، بأنه سبيلنا إلى النهوض من تخلّفنا وأمراضنا وجهلنا.
وإلى زمن غير قصير، عندما ارتقع عدد القادرين من بيننا على السفر إلى تلك الأنحاء، كنا نشاهد أفرادا عائدين منها، وفي عقلهم وهندامهم ما تشتهيه النفس الشرقية من تعبيرات جديدة تفتح لخيالها مزيدا من المنافذ إلى العصر؛ وكان العصر محبوبا آنذاك. وخلاله، نصف القرن الذي دامت فيه الحرب الباردة، بين اميركا الرأسمالية والاتحاد السوفياتي الاشتراكي، لم يكن هناك تعارض بين المنْبعين، الغربي الأميركي، والغربي الأوروبي بشقّيه، الغربي الشرقي؛ الاثنان، الأوروبي الغربي والأوروبي الشرقي، يسبحان في بحر الفكر الغربي الحديث. كانت الدنيا تعد بأنها سوف تكون بألف خير، لأنها كانت تتنفّس هواء التقدم؛ وان الوقت، مع القليل من النضال، كفيل بإزالة أسباب تعاستنا وتأخرنا، شرط ان لا نتبعد عن المرجع، وكان يعني آنذاك الغربَين، الشرقي والغربي.
ماذا عن الآن؟ كيف يعود هؤلاء المسافرون، للعمل أو الدراسة، من أنحاء البلدان الغربية؟ الذين هاجروا اليها من دون قناعات محدّدة وعادوا منها مثقلين بإرث الماضي الديني. النساء من بينهم، ملتزمات جُدُد باللباس وبالطقوس والايمانات الدينية، الأكثر تعصّبا أحيانا من تلك التي نعرفها؛ وان وجدت بينهن غير محجبات، فهذا لا يلغي نزول حجاب آخر عليهن، حجاب الكراهية للغرب ونبذه في كل إيماءة، في كل تصرف، في كل موقف أو لدى ورود أي معنى. والرجال هم كذلك؛ ان لم يعودوا كلهم بلباس الدين، باللحية والجلباب والقلنوسة، إن اكتفوا بالجينز والتنيس شوز، فهم على المنوال نفسه من اللفظ للغرب والكراهية له، واعتماد الأخلاقيات والسياسات الأكثر تجسيدا لهذين اللفظ والكراهية، المستمدّين الآن من الدين. والغريب ان النساء والرجال أولئك ليسوا فقط من الشيوخ التقليديين، أو من الراشدين المتعقّلين؛ ينضم اليهم شبان وشابات أيضا، وعدد كبير منهم كَبر في عواصم الغرب ومدنه. والأغرب ان هذه العودة لا تقتصر على المهاجرين إلى الغرب، بل تشمل أيضا عائدين من قارات أخرى، أفريقيا، أميركا اللاتينية… ولا حاجة للقول ايضا ان هذه الظاهرة تنطوي على استثناءات.
ثمة من يرى ان هذه الكراهية آتية من ردود الفعل الغربية على 11 سبتمبر، من العنصرية، المغالية في التصورات الأمنية والمهجوسة بالمسلم، بالعربي خصوصا، وردود المسلمين عليها. لكن هذه المضامين أقدم من عمليات 11 سبتمبر الارهابية؛ انها ترجع إلى ما يزيد عن العقدين، وربما الثلاثة.
من أين أتت هذه الظاهرة اذن؟ ما الذي حرّك الاسلاموفوبيا الغربية، الرهاب الغربي من الإسلام؟
الإجابات التي بحوزتنا كلها تنسب الشر هذا إلى الغرب: العنصرية الغربية تجاه الشرق الإسلامي. خصوصا عنصرية الدول التي استعمرتنا. وفي هذه النقطة بالذات، الأدبيات الغربية، المكتوبة منها والشفاهية، تزخر بكل التعبيرات الممكنة للعنصرية؛ ولكن أيضا، العديدون في الغرب كتبوا عنها ونقدوها، وشيّدوا المفاهيم والنظريات على أنقاض ركيزتها البغيضة، أي التمييز بين إنسان وإنسان؛ وكل ذلك برجوعهم إلى القيم التي أسّست لثورتهم الحداثية ولإرثها التنويري العظيم. واعتبار العنصرية بمثابة الخيانة لهذا الارث.
ثانيا: تعثرات الحداثة، مشكلاتها وتعقيداتها، فضلا عن تطرف العولمة في اقتصادها ودمجها القسري للأسواق ومغالاتها في صهر البوتقة الانسانية في حديد الوجبات السريعة وناطحات السحاب والبطالة والانعدام التام للاطمئنان إلى المستقبل. مما جعل العلاقة مع الآخر، قائمة على الانتماء الأولي، القاعدة «الطبيعية»، أي الدين، الطائفة، الاثنية؛ لا الدولة الأمة، أو الدولة الراعية، وملحقاتها البديهية مثل المواطن، المواطنة، الفرد… الإجابة الثالثة التي يقدمها أصحاب الكراهية للغرب هي عجز الغرب، أو عدم جديته في إدماج المهاجرين في المجتمعات التي تستقبلهم. هذا التقصير الناجم عن الحداثة وما بعد الحداثة هو أيضا انعكاس للكراهية الأصلية برأيهم، الاحتقار الأصلي الذي تكنّه هذه المجتمعات للمهاجرين القادمين من بلداننا.
هل تجيب هذه التفسيرات عن تساؤلنا حول المكونات الأساسية للإسلاموفوبيا؟
نعم ولا. نعم العنصرية مكوّن أساسي في الغرب. عرفت ضحايا كُثُر، اليهود، السود، والآن المسلمين. ولكن يقف بوجه العنصرية إرث ثقافي عريق، هو مؤسس للحداثة، ومكرّس بقوانين وأنظمة يصعب مخالفتها، الا بالقانون وضمن المؤسسات. ونقيض الإرث الحداثي هذا يبدو الآن آخذا طريقه إلى السلطة بعد صعود اليمين المتطرف، القائمة كل حجته على العداء للمهاجرين، وغالبيتهم العظمى من المسلمين. لذا، باتَ الآن هذا الإرث أضعف من ان يردّ الهجمات التي يقوم بها المجتمع الغربي نفسه؛ وأحيانا باسم هذا الارث نفسه! أي حماية الديمقراطية الغربية الحداثة وأخواتها بالقوانين والاجراءات القصرية، المعادية للآخر، والمناقضة لهذا الإرث. ففيما دخلت هذه المجتمعات في عصر مابعد الحداثة، التي يختلط فيها التقليدي بالجديد، والتي تضيع أحيانا في متاهات نقدها للحداثة، فان العولمة تفرض إعادة النظر بـ»السعادة» التي كانت الحداثة تعد بها البشرية، والتقدم الذي ينطوي عليه زمنها الذهبي. هذا لكي لا نتكلم عن الجناح، «النقدي، الثوري»، الماركسي، لهذه الوعود بعالم افضل. فالماركسية ما زالت صالحة ربما لتحليل جنوحات الأسواق المنفلتة من عقالها، أو لاستخدام منهجها الديالكتيكي؛ ولكنها لا تفيد في بناء عوالم أكثر رحمة وترحاباً. فالـ»اشتراكية الواقعية»، المتحقّقة، كان جحيمها يتفوّق على جحيم الرأسمالية المتوحشة المنفلة من عقالها.
هناك مسؤولية تقع على عاتق الأصل الشرقي، المسلم، في إحياء الاسلاموفوبيا، طالما ان المهاجرين يعودون إلى هذا الاصل بالذات. وعدم إعتراف هذا الشرق بالمسؤولية مثل الامتناع عن المساهمة في التاريخ، أوعن التأثير عليه في أقل تقدير. الشرق الملسم هو المرجع الذي تعود اليه المجموعات المهاجرة إلى الغرب، هي اللغة المعتمدة، هو النبع الذي يفسر ويفتي ويعطي المثل؛ والشرق أيضا عرف اخفاقات الحداثة والمعاصرة، وبصورة شبه رسمية بعد هزيمة 1967؛ بعدها بقليل جرت محاولة يسارية، من وحي الماركسيات المختلفة، طرحت نفسها بديلا عن «العسكر النظامي» الذي أخفق عام 1967. لكن المحاولة، الضعيفة بالأساس، لم تدُم. فكان إنهيار الفكرة الحداثية التقدمية، والصعود الصارخ للاسلام السياسي. وهذا الاخير لا يقتصر على الاحزاب او المجموعات او الميليشيات الاسلامية؛ فهذه كلها، على قوتها وغناها والدعم الذي تجده من بعض الدول الاسلامية، طفيفة أمام الطلب الاجتماعي لكل تعبيرات الاسلام المعاصر بإيديولوجيته وطقوسه وقيمه المعلنة. أبطالها الشيوخ والدعاة واصحاب الفتاوي الملتهبة. حالة اسلامية تتجاوز الاطر الحزبية الدينية وتغرق يوميات المجتمعات المنضوية تحتها في صناعة الالفاظ والفتاوي والاقوال وقراءات التاريخ واليوميات المعيوشة في البحر الديني المتشدّد. الحرب الباردة لم تنته في الرؤية العميقة لهذه الحالة؛ الامبريالية والصهيونية ما زالتا العدوين الأعظمَين. ما جذب غير طرف أو شخصية أو أفراد من اليسار السابق إلى هذه الحلقة، ودائما على أساس الأولوية لمحاربة هذين العدوين الثابتَين. التأييد اليساري هذا مثل نفحة حداثية تعطي للحالة الاسلامية شرعية متواضعة، شرعية حداثية مفيدة لواجهتها العالمية. هكذا يشترك يساريون مع الاسلاميين الذين باتوا هم القادة في رجم تجربتهم الماضية؛ ومع ذلك فان اليساريين مسرورين للدور، للفسحة التي تفضّلت الحالة الاسلامية بتقديمها اليهم، يكرّرون بثقة عارمة التجارب التي خاضها رفاقهم بقيادة دينية في أنحاء أخرى من المعمورة. ولا عجب بعد ذلك ان يلتقوا مع الاسلاميين في الاسلاموفوبيا الغربية في تعريفها على انها جوهر ثابت للشر الغربي الامبريالي.
نحن الذين نصدّر أسباب الاسلاموفوبيا إلى دول الغرب عبر مهاجرينا الذين نحثّهم، باسم معركة الهوية والمصير، على الذهاب إلى هناك من دون ان ينسوا، بأن هناك، حيث موطن استقبالهم، بؤرة الاعداء. فيكون الحذر الغربي ثم الرقابة ثم القوانين… إلى صعود اليمين المتطرف التي تقوم كل دعايته الانتخابية على رفض المهاجرين والتنديد بوجودهم وبخطرهم على الديمقراطية والحرية الخ.
انها حلقة مفرغة نشترك فيها جميعا؛ تبدأ بلحظة كراهية، التي يتم الرد عليها بالمزيد من الكراهية… وهكذا حتى يكون الجحيم من نصيب الكراهيتين. الاسلاموفوبيا هي خطر وتعبير عن الاحساس بالخطر. ليس الغرب وحده مصاباً بها، بل قطاع واسع من الذين، من بيننا، لم ينخرطوا في الحالة الدينية، من المختلفين دينيا أو ايديولوجيا عنها. وهم باتوا يخشون على أنفسهم، على حرياتهم الخاصة والعامة، على مصير بلدهم، من بلوغ هذه الحالة درجة الهيمنة المزدوجة، الرسمية والشعبية.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل