**
حوار مصطفى حيران
يُعتبر الأستاذ عز الدين العلام، واحدا من أساتذة العلوم السياسية القلائل بالمغرب، ممن دأبوا على إثراء المكتبة العربية والمغربية، ببعض الأبحاث العلمية الجادة، في مجال تخصصه، وقد صدر منها لحد الآن في شكل كتب ثلاثة هي:”السلطة والسياسة في الأدب السلطاني” بالدار البيضاء و”الآداب السلطانية” عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، و”الفكر السلطاني نماذج مغربية”.
حاورنا ذ العلام، من منطلق تخصيصه لعدة فصول من كتبه الثلاثة المذكورة للحديث عن أشكال ومضامين السلطة السياسية في العالم العربي عامة، والمغرب خصوصا، فكانت هذه الحصيلة في موضوع دلالات وأبعاد الطقوس البروتوكولية الملكية، وكذلك عن بعض خصائص الشعب المغربي المرتبطة بمحور علاقة الحاكم بالمحكوم.
س: تحدثت في فصل كتابك الأخير”الآداب السلطانية” عن وظائف مركزية اعتبرتها مهمة حوالي السلطان، ومن بينها وظيفة الحاجب، ما هي محددات هذه الوظيفة ومرجعياتها في تاريخنا العربي الإسلامي؟
ج: نعم، إن من بين المراتب أو الوظائف في السياسة السلطانية المهمة، نجد وظيفة “الحجابة”، أما عن مرجعيات هذه الوظيفة ومحدداتها، فيجب العودة شيئا ما إلى الوراء، لمعرفة أسباب ظهورها. وفي الحقيقة فإن كل دارس للتاريخ الإسلامي، يعرف مسبقا أن الحضارة العربية قبل الإسلام، كانت في الأصل بدوية، بمعنى إنه لم تكن هناك دول متبلورة، كانت هناك سلطة قبائل ومشايخ، فحسب. وبمجيء الدعوة الإسلامية، وفترة الخلافة الراشدة، بدأت النواة الأولى للسلطة السياسية في الإسلام بالتَّكوُّن، وبطبيعة الحال فقد كانت فترة التأسيس، وبالتالي كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مباشرة لا تحتاج إلى أي بروتوكول أو شكليات، أو وسائط، وهو ما أطّر علاقة الرسول بصحابته، وسائر المسلمين، كما أن ذات البساطة، أطّرت علاقة أبو بكر وعمر وباقي الخلفاء الراشدين بجمهور المسلمين، ومعروف ما حًُكي عن عمر ابن الخطاب، وقد يكون في ذلك الكثير من الأسطرة – من الأسطورة – أنه رفض الحجابة (أي أن يكون له حاجب) وأنه قيل له: عدلت فنمت يا عمر إلى آخره. وفي الحقيقة فإنه لم يأمن بذلك على حياته، حيث مات مغتالا، أقول هذا لأؤكد أن المراتب السلطانية، والحجابة على الخصوص، ظهرت أول مرة مع بداية الدولة الأموية، وبالتحديد مع معاوية ابن أبي سفيان، الذي كان قد بدأ يشعر آنذاك، أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، هي علاقة شوكة وعصبية، أي قائمة على الإخضاع، كما قال ابن خلدون، والأكثر من ذلك، أن وظيفة الحجابة جاءت في الحقيقة ليأمن الحاكم من عمليات الاغتيال.
إن ثمة أيضا مسألة مهمة حول الحجابة أو البروتوكول في التاريخ العربي الإسلامي، هي أنه – أي البروتوكول – تم اقتباسه من النظام السياسي الفارسي الساساني، ومما يدل على ذلك أن كل الكتب السياسية الإسلامية، التي تحدثت عن المراتب السلطانية، والحجابة من ضمنها، تطرقت لطقوس السياسة السلطانية، التي تعرضت لكيفية الدخول على الملك وما شابه، وكيفية اختيار هذا الأخير لوزرائه، أو الظهور أمام رعيته إلى آخره. نجد أن كل تلك الكتابات السياسية، إما مترجمة عن كتابات سياسية فارسية، ولا ننسى هنا الدور الكبير لابن المقفع على وجه الخصوص، أو من إنتاج مثقفين ينحدرون من بلاد الفرس، وبالتالي فإن ظهورها كان نتيجة لانفصال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، من جهة، وكذلك نتيجة عاملين أساسين لم يكونا حاضرين في البداية، وهما الاتساع الجغرافي في بلاد الإسلام، ونجد أن قضية الحجابة تطورت أكثر مع العهد العباسي.
س: أين يُمكن أن نجد عمق هذه المرجعية الإسلامية العربية في البروتوكول الملكي المغربي؟
ج: سبق لي أن اشتغلت على هذا الموضوع، وآخر كتاب صدر لي بصدده هو “الفكر السلطاني نماذج مغربية” مما يحيل بطبيعة الحال، على الثقافة السياسية المغربية. وحينما أقرأ مختلف النصوص السياسية التي تحدثت عن هذه المراتب السياسية، وطقوس الحكم وشكلياته إلخ، فإنني لا أرى فارقا بين ما تحدثت عنه وعاشه المشرق، وما وقع في المغرب على نفس المستوى. ومعنى هذا أنه من الصعب أن نتحدث عن ثقافتين سياسيتين في المشرق والمغرب، فهذان الأخيران هما في هَمِّ السلطة شرق، كما يُقال. ربما هناك شيء واحد مهم، انتبه إليه صاحب المقدمة أي ابن خلدون، الذي ربط بين الاهتمام بطقوس الحكم التي سماها شارات الحكم، أو السلطة التي يدخل ضمنها كرسي العرش والخاتم، وقد خصص لها فصلا كاملا في مقدمته، وقصد بها كل علامات الحكم، التي تبيح نوعا من الظهور للسلطة، وقد نبه إلى أن ظهور تلك الشارات في السلطة، معناه أن هذه الأخيرة وصلت إلى درجة من التقدم الحضاري، أو نوع من العمران الحضري بالأحرى، وبالتالي لاحظ كيف أن “المرابطين” (سلسلة من الحكام الذين تعاقبوا على حكم المغرب في العصر الوسيط – طبعا بالقياس الغربي للتحقيب وليس العربي – المحرر) في بدايتهم، لم يكونوا بحاجة إلى هذه المراتب السلطانية، وأنهم كانوا عبارة عن بدو، والمعروف عن هؤلاء البساطة في التواصل والعيش الخ، وبعد مدة تستقر فيها عصبية السلطة وأمورها، تدخل الدولة ما اسماه ابن خلدون بمرحلة الترف، وهنا تبدأ المراتب السلطانية في التجدر، حيث نجد “الحاجب السلطاني”، و”صاحب الشرطة” والوزير إلخ.
س: ما الذي استوردناه وما الذي يعتبر نابعا من البيئة المغربية، فيما يتعلق بطقوس البروتوكول الملكي بالمغرب؟
ج: في الحقيقة لا أحبذ استعمال كلمة المستورد بهذا الصدد، وأفضل عليها كلمة الاقتباس. فإذا كان المشرق قد اقتبس عن الفرس ثقافته السياسية، وكذلك أشكالها من وزارة وشرطة وحجابة إلخ، فذلك لأنه كان في حاجة إليها، فحينما تعقدت أمور الدولة نسبيا في المشرق، ولم يكن للعرب إرث سياسي يتكئون عليه لتقعيد دولتهم، فكان من الطبيعي أن يقتبسوا أولا من بلاد فارس بحكم عامل القرب الجغرافي، أولا، وثانيا لأن بلاد فارس تعتبر حضارة عريقة، وثالثا لأن تلك البلاد دخلت الإسلام.
س: وماذا بالنسبة للمغرب؟
ج: نفس الشيء بالنسبة للمغرب. فإذا اقتبس المرادي وابن رضوان وابن الأزرق وعشرات المفكرين المغاربة أفكارهم من ابن المقفع والماوردي، والجاحظ وابن أبي الربيع وغيرهم، فلأن ما يقتبسونه كان يجيب عن أسئلتهم. إن الثقافة الفارسية التي ذهبت إلى المشرق، تقوم بالأساس على الاستبداد السياسي، وهذه الأخيرة كانت تترجم بشكل أو بآخر، طبيعة النظام السياسي السلطاني الذي استمر في المغرب، منذ الأدارسة والمرابطين إلى غاية دخول الاستعمار الفرنسي.
س: إذن البروتوكول السلطوي عريق في تاريخ المغرب؟
ج: إننا نبالغ بعض الشيء حين الحديث مثلا عن البروتوكول عند المرابطين، أو الموحدين. وسأحكي لك أمرا بهذا الصدد. لقد فوجئت مرة حينما أطلعني باحث مغربي مختص، في التاريخ الديبلوماسي للمغرب وعلاقاته بفرنسا وبريطانيا إلخ، يقرأ مصادره باللغتين الفرنسية والإنجليزية، على صورة تمثل ما يُطلق عليه الآن المخزن، بمعني السلطان وبقية مساعديه، والفترة هي بداية القرن التاسع عشر، فوجئت بالطريقة التي بدا عليها هذا المَجْمَع المخزني الرفيع، على مستوى لباسهم وسحنتاهم، والصندوق الذي كان بجانبهم، الذي يبدو أنه كان هو بيت المال.. لقد كان المشهد غاية في البساطة، وبالتالي فإننا نبالغ أحيانا في التضخيم من أمور الدولة والسلطة. إن الأمر كان يتعلق بسلطة وليس دولة مكتملة، ويكفي أن نقارن بين إيتيكيت (بروتوكول) البلاط في فرنسا وما كُتِب عنه منذ الملك لويس التاسع في القرن الثالث عشر الميلادي إلى غاية الملك لويس الرابع عشر، ستجد أن البروتوكول الملكي في أوروبا في العصر الوسيط كان أكثر دقة مما كان عليه الأمر في مغرب بداية القرن السادس عشر.
س: هذا يجرنا إلى الوقت الحاضر. ماذا تلاحظ كباحث مختص في علم السياسة، وتحديدا فيما يرتبط بظواهر ومظاهر السلطة السياسية في المغرب، عن البروتوكول الملكي المغربي؟
ج: لدي ملاحظة قبل ذلك عن البحث السياسي في المغرب، تتمثل في أن كل الذين يهتمون بهذا المجال في بلادنا، يركزون على مضامين السلطة السياسية مثل القانون الدستوري، والفصل التاسع عشر منه واختصاصات الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية… إلخ وبما أن النظام الملكي في المغرب، يحتل قلب السلطة، لذا حينما يتحدث عنه الباحثون، يفعلون ذلك باعتباره سلطة ومؤسسة، لكن من النادر جدا أن تجد من يتحدث عن أشكال السلطة، فأنا لم أقرأ أبدا أية دراسة تتعلق بالجانب الشكلي أو الطقوسي أو المراسيمي للسلطة.
س: هل تعتقد أنه جانب حاسم في التعبير عن مضمون السلطة؟
ج: نعم، هذا بالضبط ما قصدته، فحين يستحضر الناس عندنا السلطة الملكية يهتمون بمضمونها، ولا يلتفتون للجانب الشكلي، في حين أن هذا الأخير هو الأهم، لأن له مضمونه ودلالاته العميقة. لنأخذ على سبيل المثال حفل الولاء والبيعة، وظهور الملك وتقبيل يده إلخ إن هذه الأمور الشكلية تعبر أكثر من غيرها عن طبيعة السلطة في المغرب، فهي علامات على حصول الطاعة والولاء إلخ.
س: ذكرت في كتابك “الآداب السلطانية” في سياق الحديث عن آداب مجالس السلطان، أن الأشكال البروتوكولية لا تُلزم فقط مَن يحضر مجلس السلطان، بل أيضا الملك نفسه، كيف ذلك؟
ج: يجب أن تميز في حديثي، بين ما أقصده بالنظام السياسي السلطاني القديم، والنظام السياسي الملكي الحالي، الذي ما زال يحتفظ بالكثير من الأشياء من الذي سبقه، غير أن هذا لا ينفي وجود أشياء جديدة طرأت سنتحدث عنها في حينها. أما فيما يخص التزام الملك نفسه بقواعد وضوابط البروتوكول، فأعتقد أن هذا أمر طبيعي، فكل الذين تحدثوا عن هذا الجانب المرتبط بالمجلس السلطاني وقواعده وضوابطه، أَلزموا بها أيضا، الحضرة السلطانية، أو الملكية، أي أن يتقيد السلطان أو الملك هو نفسه، بضوابط وشروط ومواصفات تجعل منه سلطانا وملكا.
س: شروط ومواصفات من مثل ماذا؟
ج: إنها تبدأ من شخصه إلى أدق التفاصيل، من لباسه وكلامه وصمته، ومكان جلوسه إلى غيرها من التفاصيل الدقيقة، إن هناك عبارات ضمن الآداب السلطانية القديمة، تلخص مضمون الشروط التي يجب أن يلتزم بها السلطان أو الملك، وهي أن هذا الأخير يجب أن يكون على حال لا يُمكن للآخر أن يستشف ما يجول في خاطره، حيث لا يجب على الملك أن يبدو فرحا ولا قلقا، أي انه ليس بفرح ولا بمنبسط، وليس بمنشرح ولا منقبض، بمعنى أن يُطبق القول المأثور: خير الأمور أوسطها، أي أن يكون على حال لا يُمكن من خلالها أن يُسْتَدلَّ على شيء من حاله، كما أنه يجب أن يكون المكان الذي يجلس فيه السلطان مرتفعا عن الآخرين بما يسمح له برؤية الفضاء برمته، أي ألا يغيب عن بصره أي شيء. ومن المواصفات الأخرى المطلوب توفرها أيضا في الملك، ألا يكون كثير الكلام، وأن لا يتثاءب، أو يحك رأسه، بمعنى أن لا يمنح الانطباع، من خلال أية حركة، مهما كانت بسيطة، بأنه يخضع لجسده. غير أن هذا لا يمنع، من أن الحاضرين لمجلسه، هم الأكثر التزاما بشروط المجلس السلطاني، سواء في دخولهم أو خروجهم، أو السلام عليه أو جلوسهم حسب المراتب الممنوحة لهم، أو الكلام حيث لا يخوضون فيه إلا بعد استئذان، ولا ينصرفون كذلك إلا بعد استئذان، وأن يتحدثوا عندما يُأْذَنُ لهم، بصوت خفيض، وألا يكون كلامهم في صيغة سؤال، ومعنى هذا أن الملك يَسأل ولا يُسأل، الأكثر من ذلك انه إذا كانت هناك ضرورة قصوى لتوجيه سؤال للملك، فيجب أن يكون السؤال في صيغة جواب، إن هذه الأمور قد تبدو من الشكليات، لكنها تنطوي على أهمية كبيرة، والمستخلص من كل هذا أن يكون السلطان أو الملك منفردا متفردا، وحيدا في سلطته، ولا مجال للتماثل معه، ولا للتشبه به إلخ. وكل العلامات الشكلية تفيد بهذه الفرادة والوحدانية.
س: كيف تفسر بقاء بعض أشكال البروتوكول المغرقة في العتاقة والتقليد، ومنها مثلا تقبيل يد الملك؟
ج: فيما يخص حفاظ النظام السياسي المغربي على بعض الأشكال التقليدية، في تمظهر السلطة، فإنني أعتقد كمواطن يُشاهد أحيانا بعض هذه المظاهر في التلفزة المغربية، أن هناك الآن نوعا من الليونة في التعامل مع مسألة تقبيل يد الملك. فعند المقارنة بين عهدي الحسن الثاني ومحمد السادس، فمن المعروف في الفترة السابقة، أي خلال حكم الحسن الثاني، انه كان هناك اهتمام كبير بالشكل، والطقوس البروتوكولية، حيث كانت مسألة تقبيل يد الملك لا تُناقش، باعتبارها علامة أولى وأخيرة على حصول الطاعة والولاءز أما بالنسبة للعهد الجديد، كما يُسمونه، أعتقد أنه كان هناك تحسيس للناس وخاصة في بدايته العهد المذكور، أن هناك نوعا من التخفيف في هذه المظاهر البروتوكولية، وما زلت أتذكر فيما يخص مسألة تقبيل يد الملك، في مناسبة استقبال الملك محمد السادس للكتاب والمفكرين الفائزين بجائزة المغرب للكتاب، أنهم سلموا عليه، بطريقة تلقائية عادية لا تخلو من تقدير واحترام، كما انه لوحظ خلال قيام الملك بزيارات إلى الخارج، أن عددا من أعضاء الجالية المغربية بالخارج، أنهم كانوا يسلمون عليه بنفس الطريقة البسيطة والعادية، ونجد كذلك أن هناك من يُقبل يده أو كتفه ومَن لا يفعل إلخ. ويبدو أن الملك غير مكترث بهذا الأمر. بمعنى أن هذه المسألة موكولة للمعني بتقبيل أو عدم تقبيل يد الملك.
مبادرة ملك السعودية لإلغاء تقبيل اليد فيها بعض السياسة
س: ما رأيك في المبادرة التي أقدم عليها الملك عبد الله في السعودية، والمتمثلة في إصدار بلاغ ملكي أصبح تاريخيا الآن في الأدبيات السياسية السعودية، بمضمون التخلي عن ظاهرة تقبيل يد الملك، باعتبارها عادة غير سليمة، وتنقيصا من شأن الإنسان الذي كرمه الله، كيف تفسر أن مبادرة مماثلة لم تطرأ في المغرب؟
ج: أعتقد أن نوع الملكية في السعودية يختلف عن نظيرتها الموجودة في المغرب، ولدَيَّ ملاحظة على المبادرة السعودية أصوغها في هذا السؤال: ألم يتضح أمر التنقيص الذي تمثله مسألة تقبيل يد الملك، من شأن الإنسان، سوى في السنتين الأخيرتين؟ لذا أعتقد أن في الأمر بعضا من السياسة، أكثر من أي شيء آخر. أما بالنسبة للمغرب فإنني اعترف بعدم فهم المغزى من الإبقاء على مسألة تقبيل يد الملك، ولكن ربما يجب البحث في بعض الجوانب الثقافية والاجتماعية.
س: هل تعتقد أن بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية التقليدية في المجتمع المغربي هي المسئولة عن الاحتفاظ بمسألة تقبيل يد الملك؟
ج: إن لمسألة تقبيل اليد دلالة الخضوع، أكثر من الاحترام، في المجتمع المغربي، بل إنها تدل على أكثر من ذلك، حيث تكون مشوبة بالشعور بالهيبة والوقار والرهبة. وجميع المغاربة تقريبا تعودوا على تقبيل يد الأب والأم، وبالأخص الأب، حيث تجد رجلا مغربيا، في الستين من عمره يُقبل يد أبيه الطاعن في السن، بكل تلقائية وخشوع ورهبة وخضوع. أما فيما يتعلق بتقبيل يد الملك، فإن من أهم الصور التي يمكن استشفافها، بالنسبة للملك داخل المنظومة السياسية المغربية، هو أنه يٌُشكل نوعا من الأب، يعني أن هناك سلطة هو راعيها، يجب أن يحنو على رعيته، وهذا معناه أيضا أنه أب، يجب أن يحنو على أبنائه، وان يُقومهم أيضا، ولكن بالمقابل يجب على هؤلاء الأبناء، أن يتهيبوا من أبيهم وأن يخضعوا له وان يساعدوه في مهمته إلخ. اعتقد انه خارج هذا التفسير الثقافي، يصعب إيجاد تفسير آخر لمسألة تقبيل يد الملك، وبطبيعة الحال هناك تفسير آخر مرتبط بالسابق، ونعني به الجانب الديني، أي النسب الشريفي للملك، الذي يضيف لمسة أخرى على المسألة؟
س: هل نحن شعب خاضع؟
ج: يبدو أن الأمر كذلك. غير أن هذا لا يعني أن هناك شعباً غير خاضع، إذ لا وجود لحرية الغاب، ففي كل مجتمع يوجد خضوع، إنما الفرق شاسع بين الخضوع للقواعد القانونية، والدستور والرأي العام، أي لنظم وضوابط الدولة الحديثة، وبين الخضوع الاستعبادي، للسلطة، أي الخضوع الذي لا يقوم على القانون بل على القوة، والسيف، واحتكار الوسائل الزجرية والوسائل التقليدية في الإخضاع.
س: هل هذه الحالة الأخيرة هي التي تنطبق علينا في المغرب؟
ج: إن حالتنا متراوحة بين النموذجين، ونتمنى أن يزول يوما ما الخضوع الاستعبادي للقوة بشكل نهائي من المغرب، ليبقى النوع الأول. وهنا أستطرد لأقول لك بأنني قرأت مؤخرا كتابا رائعا وجميلا، لمفكر فرنسي عاش في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، اسمه “إيسيان دو لابواتيي” يحمل عنوان “مقالة في العبودية المختارة” وهو في الحقيقة كتاب فلسفي أدبي تساءل فيه مؤلفه: لماذا يعشق الإنسان في غالب الأحيان عبوديته؟ وكيف يحدث أن يُدافع العبد عن عبوديته؟ وكيف يحدث أن يحكم شخص واحد ملايين الناس؟ وكيف يحدث أن تهيمن حكومة من بعض الأفراد على مجتمع بكامله؟ ويعطي صورا استييقية جميلة جدا بهذا الصدد، واعتقد أن أجود ما في الكتاب، هو أنه لا يقدم أجوبة للإشكاليات التي يطرحها، بقدر ما يوضح حالة غريبة في التاريخ الإنساني، حيث يطرح مثلا مسألة كيف ظل المجتمع المصري القديم، خاضعا للفراعنة آلاف السنوات.
س: مما يحيل على أن مسألة الخضوع معقدة؟
ج: اعتقد أن مسألة الخضوع لدى المجتمع المغربي من الصعب تفسيرها فقط من الجوانب الثقافية، حتى لا نسقط في النزعة الثقافوية، التي تفسر كل شيء بالثقافة، إن التاريخ السياسي للمغاربة هو تاريخ للاستبداد، وهنا لا بأس من أن أؤكد مرة أخرى، بأنني لست من أولئك الذين يغالطون أنفسهم، ويكذبون على التاريخ، فنحن المغاربة لنا تاريخ بسيط، عكس ما يُقال، من أنه حافل بالمفاخر والأمجاد، فهذا كلام لا أساس له من الصحة. حيث إن تاريخنا كله استبداد منذ أن بدأ إلى الوقت الراهن، ويبدو أننا ننتقل الآن، من النظام السياسي التقليدي الذي كان يرتكز على الاستبداد السياسي، إلى النظام السياسي الحديث، المرتكز على القانون، فكيف، والحالة هذه، يمكن أن نطلب من المواطن المغربي أن يصبح بين عشية وضحاها إنسانا ديمقراطيا، يحترم القانون؟ وكيف تريد من الحكومة المغربية نفسها، أن تكون على شاكلة حكومة الدانمارك أو ألمانيا؟ إن تاريخنا السياسي الحديث لا يتجاوز عشر سنوات. هذا إذا سلمنا بأن هذا التاريخ، يبدأ حين يكون فيه للمجتمع رأي وحركية سياسية واجتماعية، وهذا كما قلت لا يتجاوز عمره عندنا عشر أو خمسة عشرة سنة.
mustapha-rohane@hotmail.fr
* الرباط
قراءات إضافية:
Tel Quel: Le système des palais
Majdoulein El Atouabiavec Hassan Hamdani