هذه المرة، لم يُلق الرئيس خطابا قبل أيام من تنحِّـيه القسري، وإنما فوّض المهمّـة إلى نجله. هدّد سيف الإسلام القذافي بإدخال ليبيا إلى نفَـق حرب أهلية دامية وتقسيم البلد على نحوِ المصير الذي عرفته الكوريتان بعد حرب 1953، وحذّر من غزْو عسكري غربي للبلد، في حال سيْـطرت على الحكم عناصر إسلامية.
لكن، أيا كان حجم الخسائر البشرية والمادية التي تتكبَّـدها ليبيا جرّاء الإنتفاضة التي عمّـت جميع مناطق البلاد، فالواضح أن مصير العقيد معمر القذافي (69 عاما) لن يكون أفضَـل من جاريْـه وصديقيْـه زين العابدين بن علي وحسني مبارك.
ومع أن سيف الإسلام نفى في الكلمة التي توجَّـه بها إلى الليبيين ليل الأحد 20 / الإثنين 21 فبراير أن يكون والِـده مرشَّـحا لمصيرٍ شبيهٍ بالذي عرفه صديقاه، بن علي ومبارك، فإنه كشف أن ميليشياته المسلّـحة (اللجان الثورية) التي تُشبه “حُـرّاس الثورة” (الباسدران) الإيرانيين، ستُـدافع عنه حتى آخر رمَـق، ما يُـؤشر على الإستعداد لارتِـكاب مجازر وحشِـية ضدّ المنتفِـضين المدنيين، وربما تفجير حرب أهلية تُؤدّي إلى تمزيق أوصال البلد وصَـوْمَـلته.
على طريق تونس؟
ورغم المخاوف من حمام دم لا يعلم أحد مداه، تتّـجه أنظار المراقبين اليوم إلى ما بعد القذافي أو ما يُسمّـى باليوم الموالي The day after ، باعتبار أن ليبيا ستتحوّل إلى حالة ديمقراطية تطْـوي صفحة العقود الأربعة الماضية وتؤسّـس إلى حكم جديد، سيكون فيه للمؤسسة العسكرية دوْر أقرب إلى الأنموذج التونسي منه إلى النهج المصري، حيث تولّـى مجلس عسكري قيادة البلاد (مؤقتا؟)، في أعقاب انهيار الفريق الذي يقوده مبارك، من دون أن يسقِـط نظامه.
وعلى رغم أن القذافي اختار الأسلوب العسكري لمواجهة الإنتفاضة منذ ساعاتها الأولى ولم يتوخ الطريقة السياسية التي انتهجها مبارك وبن علي من خلال الخطابات التي ألقياها، والعروض الإصلاحية التي حاولا بواسطتها استمالة الشارع، فإنه توجَّـس خيفة من الجيش وأبعَـده – حسبما يبدو – عن إدارة المعارك ضدّ الشعب المنتفِـض.
وأفاد مطَّـلعون على الشأن الليبي، أن القذافي قسم البلاد إلى مناطق عسكرية وكلّـف كلَّ واحد من أبنائه بقيادة كلِّ منطقة من تلك المناطق. وهؤلاء الأبناء، هم معتصم ومحمد والساعدي وخميس وهانيبال، عدا سيف الإسلام الذي لم يكن والِـده يثق في كفاءاته العسكرية.
وأكّـد الناشط المعارض إسماعيل مصطفى لـ swissinfo.ch، أن القذافي قضى على المؤسسة العسكرية في ليبيا وحوَّلها إلى شبَـح يقوده رجُـل مُسن ومهمَّـش، هو العميد أبو بكر يونس جابر، أحد الضباط الأحرار الـ 12، الذين صنعوا انقلاب الأول من سبتمبر 1969. واستدلّ على تهميش الجيش، بإعراض السلطات عن مطالبة الشباب بأداء الخِـدمة العسكرية في السنوات الأخيرة،وحجب الذخيرة عن الوحدات العاملة في المدن. وكذّب مصطفى ما قاله سيف الإسلام في خطابه، من أن الجيش موالٍ للقذافي، مؤكِّـدا أن “سقوط بنغازي في أيْـدي المنتفِـضين، لم يكن ممكنا من دون انضمام الجيش إليهم ورفضه إطلاق النار على الأهالي”.
وأضاف أن التهميش شمِـل أيضا جهاز الشرطة وقوات الدّعم المركزي (التي تعادِل وحدات الأمن المركزي في مصر). وأوضح أن المُـسدَّسات والرشّـاشات سُحِـبت من عناصر الجيش والشرطة، مخافة وقوعها “بأيْـدي الأعداء”، إذا ما انضم هؤلاء إلى الإنتفاضة.
ولم يستخدِم معمر القذافي الأسلوب الذي توخّـاه بن علي ومبارك في مخاطبة الجماهير عبْـر التليفزيون لاسترضائها، رغم ولـعه المُـفرِط بهذه الرياضة، وإنما كلّـف نجله سيف الإسلام بهذه المهمّـة، من باب استثمار الصورة التي صنعها له في وسائل الإعلام خلال السنوات الأخيرة.
لكن مصادر ليبية قالت، إن الأب لم يكن في وضع نفسي ومعنَـوي يسمح له بمخاطبة الناس، بهدوء رجل الدولة. وفي هذا الاتجاه نفى ابراهيم صهد، الأمين العام لجبهة الإنقاذ الليبية (المُـقيم في الخارج) في تصريح خاص لـ swissinfo.ch، الصورة التي قدّمها سيف الإسلام عن ليبيا مُمزّقة، بين شرق مناهض للقذافي وغرب مُـوالٍ له، مؤكِّـدا أن الإحتجاجات انطلقت في العاصمة طرابلس منذ الأحد 20 الجاري وأن المدن الصغيرة المُـحيطة بها، انضمت إلى الإنتفاضة.
وأشار إلى أن أحد الشِّـعارات التي رفعها الطرابلسيون هو “يا بنغازي ماكْـش بروحك (لوحدك) إحنا ضمَّـادين جروحك”، في تأكيد على التلاحم بين المنطقتيْـن، الشرقية والغربية، كما قال. ورأى أن الإنهيار السريع للنظام في البيضاء وشحات ودرنة (شرق)، بالإضافة إلى امتداد شَـرارة الإحتجاجات إلى جِـبال نفوسة ومدينتيْ نالوت وزنتان (غرب)، مؤشِّـرات قوية على قُـرب الإنهيار الشامل.
وشدّد صهد على بروز ظواهر في ليبيا، لم تكن مسبوقة في الثورتيْـن التونسية والمصرية، منها استخدام مُـرتزقة من إفريقيا لضرب المحتجِّـين بالرّصاص الحَـي، ومنها أيضا استخدام المروحيات العسكرية والقنّـاصة، لمحاولة قمْـع الإحتجاجات.
كسر حاجز الخوف
وفي تحليل المُـعارضين الليبيين، يبدو أن أسباب الإنهيار السريع لمدن رئيسية مثل بنغازي والبيضاء وشحات، تعود إلى السّـخط العام المُـتراكم طيلة أكثر من أربعين سنة على سياسات القذافي، “التي تعتمد على القوّة والبَـطش”.
فما أن كسَّـر الناس حاجِـز الخوف، كما يقول صهد، حتى خرجوا إلى الشوارع بعشرات الآلاف. ففي بنغازي، التي لا يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة، تظاهَـر في ساحة المحكمة والشوارع المُـجاورة مائة ألف شخص، رغم وجود “كتيبة الفضيل”، بقيادة خميس القذافي، التي كانت تُرعِـب المواطنين. وعليه، فإن تفسير ما جرى لا يمكن أن يكون أيديولوجيا ولا قبَـليا ولا مناطِـقيا، وإنما هو “المساواة في الظُّـلم والقهْـر، اللذان جعلا الجميع يتحرّك في وقت واحد”، على حد قوله.
وأوضح صهد أن المؤسسة العسكرية في ليبيا تنقسم إلى شقَّـين: كتائب حِـماية النظام، التي يقودها أبناء القذافي، والقوات المسلحة التي يقودها أبو بكر يونس جابر، والتي أفْـرِغت من مُـحتواها وفقدت أيّ دور سياسي. غير أن صهد توقّـع أن تلعب القوات المسلحة دورا في حماية الشعب، وهي التي حمَّـلها سيف الإسلام القذافي في خطابه المسؤولية عمّـا جرى، لأن قياداتها “لم تُدرِّبها على قمْـع المظاهرات”، على حد قوله.
قصارى القول، أن ليبيا تسير بخُـطىً حثيثة نحو سيناريو مصري – تونسي، ستفشل فيه كل المحاولات الإصلاحية المتأخرة جدا عن موعِـدها، ويستولي في نهايته الشارع على مؤسسات الدولة أو ما سيتبقى منها. وكان سيف الإسلام رفَـض بقوة هذا السيناريو، مشدِّدا بتوتُّـر ظاهِـر على أن “ليبيا ليست مصر أو تونس”، وهو ما قاله مبارك أيضا عن نظامه قبل أن ينهار.
والجدير بالذكر، أن النظام الليبي حاول في 2007 القيام بتجرِبة انفتاحية تحت ضغْـط عواصم غربية، اشترطت تحقيق تقدُّم نحو دولة دستورية مقابِـل تطبيع العلاقات مع القذافي والقَـبول بعودته إلى الساحة الدولية، إلا أن هذا الأخير عهد بهذه المهمّـة إلى نجله سيف الإسلام، الذي طرح فِـكرة سَـن دستور على معارضين في الداخل والخارج، وأنشأ مؤسسة “الغد” الإعلامية الخاصة، لتقدِّم نوْعا جديدا من الصحافة.
لكن الأب لم يلبث أن وضَـع حدّا لتلك التجربة البسيطة، بأن طوى مشروع الدستور وأمّم بنفسه قناة “الليبية” وأمر بإقفال صحيفتَـي “أويا” في طرابلس و”قورينا” في بنغازي. وأكّـد صهد لـ swissinfo.ch، أن القذافي “قطع صِـلاته بالجميع، لأنه يريد أن يستفرد بكل شيء، ولذلك سيكون من الصَّـعب عليه أن يجِـد عمر سليمان ليبيا”.