المعارضة السورية هي ضد نظام الأسد، وبالتزامن هي ضد سوريا الغد.
لقد أفضت التشاوريات والمؤتمرات (في أنقرة، واسطنبول، وبروكسل، والدوحة، والقاهرة .. إلخ) إلى إنشاء غيتوهات معارضة مغلقة، ولم تنتج إطاراً منسجماً ومستقراً ومتفقاً عليه ومعبراً عن روح الثورة الشعبية السورية.
ظل تشوه وفساد الفعل المعارض السوري وشمولية غالبية من قياداتها التي لا تنظر إلى سوريا الغد بأخلاقية مدنية وديمقراطية، تبدو الثورة السورية وكأنها مغامرة من أجل دولة إسبارطية جديدة، من أجل دولة متجهمة، من أجل دولة إقصائية أحادية شمولية موجهة بريموت كونترول اللغة الواحدة. القومية الواحدة. العلم الواحد، تماماً كدولة النظام الأسدي.
المؤتمرات خلال الأشهر الست الأخيرة تفصح عن ذلك، والأخويات المعارضة تفصح عن ذلك. وإذا كان الداخل والخارج السوري المعارض مختلفان حول كل شيء يتعلق بالطريق إلى سوريا الغد، والوثائق الكثر دلالتنا التأكيدية على ذلك، فإنهما متفقان على أمر واحد هو إرجاء أو تسويف الوجود القومي للكورد والآشوريين الذين يعيشون على أراضيهم التاريخية إلى ما بعد النظام الحالي، ولكن دون كفالة طرف ثالث، ودون أية ضمانات تطمينية. النشطاء الآشوريون يقلقهم هذا، والنشطاء الكورد يقلقهم هذا.
كانت ملفتة للانتباه التصريحات التي أدلى بها الكاتب والسياسي الكردي صلاح بدر الدين لصحيفة الشرق الأوسط، أثناء زيارته للقاهرة مع وفد سوري معارض، للمشاركة في فعاليات وأنشطة أسبوع دعم ونصرة الشعب السوري، حيث أشار إلى أن المعارضين العرب السوريين لا يزالون يعانون من ذهنية الإقصاء والتهميش، معرباً عن سخطه من “سيادة نفس الأفكار التقليدية القديمة التي تهمش دور الأكراد وتنظر إليهم على أنهم لا وجود لهم” واعتبارهم “ضيوف شرف في الحياة السياسية السورية”. مضيفاً “هناك تيارات لا أمل فيها والغريب أنها لا تتقبل أن هناك قوميات في سوريا وتنظر إلى الأمر بشكل شمولي”. يبدو جلياً أنه يستند في خلاصاته تلك إلى العياني الذي واجهه أثناء عديد مشاركاته في مؤتمرات المعارضة الأخيرة وإلى تجربته السياسية على مر عقود.
ملاحظات السياسي الكردي صلاح بدر الدين، عاينتها مباشرة أثناء مشاركتي في أعمال المؤتمر الذي نظمته هيئة التنسيق الوطنية المعارضة بريف دمشق يوم السبت 17 سبتمبر 2011، حيث كرَّت سبحة الأفكار الإقصائية الشمولية المفوّتة مجدداً، في رفض الحديث عن المكونات السورية، واقترحات بإزالة كلمة ( المكونات ) من كافة الوثائق المعدة من أجل المجلس الوطني الموسع لهيئة التنسيق الوطنية المعارضة، بزعم أن ذلك يذكر البعض المعارض (العربي) باجتياح أمريكا للعراق وسقوط بغداد، وأنهم لا يريدون في سوريا تجريب النموذج العراقي بعد 2003.
المتعارف عليه أنه لا يمكن تأسيس دولة حديثة مدنية ديمقراطية تعددية وعلمانية بمفردات قديمة وبذهنيات متقادمة، فما نعلمه أن قسماً لا بأس به من المعارضة السورية هي مؤلفة من أحزاب وهيئات وشخصيات مفلسة بلا قواعد اجتماعية وبلا مصداقية وبلا شرعية في الشارع السوري، وهي تشبه في ذلك النظام الحاكم الآن. وإذا كان النظام بأحاديته المريضة أشعل النار في ثيابه، فإن المعارضة السورية بأفكارها الأحادية إنما تعيد إحياء صنيع النظام وتحرق ثيابها حتى قبل أن تصل إلى دمشق، وكأن اختزال المشهد يمكن أن يتم بالطريقة التالية (وهي بالتأكيد ليست طريقة علمية): المعارضة السورية العربية تنكح رفيقها البعثي، والنتيجة المتوقعة هي إنجاب دولة مشوهة.
على المعارضة السورية (شقها العربي) أن تعي أنه لا بديل عن ديمقراطية حقيقية كاملة، فالفضاء السياسي العالمي أصبح تحت الهيمنة الجميلة للديمقراطية، أما الشمولية فقد فقدت أو تفقد أوراقها القليلة الباقية شيئاً فشيئاً. لا بديل عن الديمقراطية للمعارضة السورية إذا كانت تريد التأسيس لسوريا حديثة وديمقراطية مفارقة لراهنها، فالنظم السياسية الديمقراطية هي الأقدر على إدارة المجتمعات الفسيفسائية والتعددية المجتمعية والسياسية والثقافية والدينية وتحقيق التنمية السياسية كهدف لحيوية سياسية وتجديد سياسي ينتظره السوريون، إذ قدموا من أجلها الغالي والنفيس.
تعلم المعارضة السورية حق العلم أن سوريا تختلف عن مصر وتونس في عدد من المستويات، ففي الحالة السورية لا يمكن أن تكون (المواطنة) إجابة شافية ورداً عملياً على التعدد والغنى العرقي والإثني. ما نعلمه علم اليقين أن الديمقراطية كتجربة إنسانية تاريخية هي منهج وآلية وميكانيزم لفض المنازعات والاختلافات، وسوريا اليوم تمر أو تعبر مرحلة انتقال حاسمة كبرى من عصر الشمولية إلى الديمقراطية التي نرومها شاملة.
مثير للسخرية حقاً ومجاف للحقيقة السورية هذا التطبيل والتزمير والاحتفاء وحفلات السمر من أجل المواطنة، ويبدو أن لا شيء، لا أفهومات، ولا جذراً معرفياً مفاهيمياً من الفكر الأوروبي والغربي خارج مفهومة (المواطنة) يستهوي المعارضة السورية، أليست الفيدرالية والدولة الاتحادية منتجاً أوروبياً وغربياً أيضاً، أم أن الهاجس بالنسبة إلينا هو الإغراق الدؤوب في الانتقائية السياسية والمزاجية السياسية، وتغليف المركزة القومية بلبوس أنواري وتنويري أوروبي قلق وغير متوغل في الوعي واللا وعي السوري، لا يجب أن ننس حقيقة أننا جميعاً أسرى الصدفة التاريخية التي خلقت الدولة السورية، نحن أسرى ( سايكس – بيكو ).
ولأننا كسوريين أسرى معادلة تاريخية جبرية فرضتها المساطر الكولونيالية، يجب أن نعي ذلك، ولا ننطلق في مقارباتنا لمستقبل سوريا من فقه التحوير الأحادي المعد خلاقاً والمتمثل في إرجاع سوريا الحالية بطريقة (البلاي باك) إلى بدايات التاريخ. نحن نعلم أن عمر سوريا الجيو سياسية الحالية لا يتجاوز 100 عام. ومعيب أن نحملها بالمزيد من المعزوفات والمقامات والموشحات العروبوية السمجة والاختزالية.
mbismail2@gmail.com
كاتب سوري