المصريون محاصرون بين الثقافتين العربية والغربية
مهدى بندق
من بين التعريفات العديدة للثقافة، يظل تعريف تايلور Taillor المؤرخ البريطاني أكثرها انتشاراً وقبولاً في الأوساط الثقافية، ولدى الجمهور، فهو يحددها بأنها الكل المركب المتضمن المعرفة والعقيدة والفنون والآداب والقانون والأخلاق والأعراف والتقاليد والعادات المكتسبة. وأنا أيضاً أقبل هذا التعريف ولكن بعد أن أضيف إليه الجملة التالية “دون إغفال لشروط وأنماط الإنتاج المحدِدة لهذا الكل المركب”، فبفضل هذه الجملة سوف يتسع ما صدق المفهوم ليشمل كل انواع النشاط البشري مادياً ومعنوياً، والأكثر أنه لن يصادر على حقائق التحولات الجارية مجرى النهر تبعاً للقانون الهيروقليطي الشهير، بالنظر إلى التغير الدائم في الكون والحياة والمجتمع، وحتى داخل الفرد الواحد. وما تاريخ البشر إلا البرهان الساطع علي أن كل ثقافة لا بد متأثرة بالتغيرات الحياتية، سواء انبثقت هذه التغيرات من داخلها، تبعاً لتطورها الإنتاجي والمادي والعقلي، أو جاءها التغيير من احتكاكها بغيرها من الثقافات عبر الحروب، أو التجارة، أو غيرهما من وسائل الاتصال.
من هنا يمكننا أن نفهم كيف أن مصر –المتميزة أنثروبولوجياً عن العرب- قد غدت عربية الثقافة (على الأقل بالنسبة للنخب) بفضل الاحتكاك الطويل لغوياً ودينياً، بل وسياسياً حتى الآن.
● ●
في هذا الموضع رصد التحولات التي حدثت وتحدث للثقافة العربية (ومصر مثال نموذجي لها) من جانب تأثرها بالثقافة الأوروبية عبر تاريخهما المتماس Tangential history بوصفهما جماعتين متميزتين ضمن الجماعة الإنسانية الأعم. أما الجانب المقابل، أي تأثر الأوروبيين بالثقافة العربية (حينما كان للعرب شأن غير شأنهم اليوم) فلقد كفانا بحثه وجود المستشرقين المنصفين أمثال : زيجريد هونكه، ولوي ماسينيون، وجاك بيرك، وإضاءات المفكرين العرب أمثال عبد الرحمن بدوي، وطه حسين، و زكي نجيب محمود، ورشدي راشد، ومحمد آركون، وإدوارد سعيد.
إنما لبحثنا هذا –الرامي إلى دراسة تأثر الثقافة العربية بأوروبا- عـِلـَّة ٌ، قوامها أن التقدم الذي أنجزه الاوروبيون بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، قد صاحبه انحطاط عظيم للثقافة العربية (بالمعنى الشامل للأفكار والسلوك) إلى درجة أنْ قادها ذلك الانحطاط إلى موقع المفعول به المنصوب، لا الفاعل المرفوع المؤثر.. أوليس منطقياً أن يتأثر المفعول بفعل الفاعل وليس العكس؟
في ذلك القرن تمكنت أوروبا من القفز بـ .. “زانة” النهضة، متخطية أسوار عصورها الوسطى المظلمة، بفضل تسليم دولها بواقع التنوع الجيبولوتيكي والاقتصادي والاجتماعي، وهو تسليم كان حرياً بإطلاق إشارة البدء للماراثون الكبير، أي ماراثون التنافس على الصدارة في مجالات العلوم، والاختراعات، والكشوف الجغرافية، وتشجيع المانيفاكتورة Manufactory (بروفة الرأسمالية الصناعية) واعتماد سياسة الماركانتيلية Marcantile منطلقاً للتعاون والتنافس التجاريين، جنباً إلى جنب اللهاث العسكري الاستعماري المحموم جلباً للمواد الخام، وفتحاً للأسواق، وتحويلاً للمال Money إلى رأس مال Capital قادر على توليد القيمة، وفائض القيمة في ذات الوقت.
وكان هذا القرن قد شهدت أعوامه القليلة الأسبق طرد العرب نهائياً من الأندلس، واكتشاف قارة أمريكا، ورأس الرجاء الصالح، ثم شهد هو نفسه سقوط الشام ومصر ثم العراق في قبضة العثمانيين، هؤلاء الذين ثبتوا دعائم دولة الشرق الاستبدادية؛ فكان أن انكفأت البرجوازية التجارية العربية –والمصرية بالأخص- إلى الداخل، مفسحة المجال للإقطاع العسكري العثماني الذي أزاح بوادر ما يمكن تسميته بلغة عصرنا “الإصلاح الزراعي” في العصر المملوكي. فظل نظام الحرف قابعاً تحت سقف لا يمكن تجاوزه إلى فضاء الصناعة، لتتوقف بالتبعية مسيرة التطور العلمي المصاحبة دوماً لتطور قوى الإنتاج تلازما في الوقوع وتلازماً في التخلف, فكان ومنطقياً أن ينعكس هذا كله على البناء الفوقي للمجتمعات العربية فاقدة الاستقلال بهيئة جمود فكري، مهد له من قبل أبو حامد الغزَّالي بتكفيره للفلاسفة وروّى غرسه فقه ٌ حنبليٌ أشعريّ ٌ أطاح حتى بالآمال المحدودة للمعتزلة أن تعقلن العقيدة. فصار محتوماً أن يحصد القرنان السابع عشر والثامن عشر ثمار التخلف المُـرّة الشائكة.
غير مجد في ملتى واعتقادي قراءة التاريخ دون إعمال آلية النقد، فالحدث التاريخي –كما يقول جاك دريدا- ليس إلا عملاً من أعمال الخيال، لأن الحضور الأصلي ليس موجوداً، الموجود حسب، هو حضور يعاد إنشاؤه. ولقد تفسر هذه العبارة نزعة َ “الانتقائية” Eclecticism التي راح بها بيتر جران بها يعيد بناء أحداث القرن الثامن عشر في كتابه ذائع الصيت :”الجذور الإسلامية للرأسمالية”محاولاً إثبات أن ثمة نهضة كانت قد بدأت تختمر في تربة المجتمع المصري، لولا أن قطع الطريق عليها احتكاك ُ المصريين، ومن بعدهم العرب بالغرب. وعليه فإن الحملة الفرنسية (من وجهة نظر جران) هي التي وأدت النهضة المصرية في مهدها، وها هي ذي تـُسأل بأي ذنب قـــُتلت؟ ربما سيرد البعض قائلين: الجواب عند ليبنتز ونابليون، حث اجتمعت الفلسفة والأطماع السياسية في تنفيذ الثاني لمشروع الأول في غزو مصر (على ما بين الرجلين من فاصل زمني يبلغ القرن وربع القرن).
ولكن ألا يحق لنا أولاً أن نتبين حقيقة تلك النهضة المزعوم قيامها قبل مجيء الحملة الفرنسية؟
يفصّل أندريه ريمون في كتابه عن القاهرة العثمانية كيفية تزايد ضعف الإدارة، فالوالي العثماني لا يمكث في ولايته أكثر من ثلاثة أعوام، يقضيها طبعاً في جمع ثروة عمره، فيتبعه سبيلاً متولي الشرطة، والمحتسب، والملتزم.. وتزداد بالتوازي مظالم الانكشارية وأمراء المماليك إضراراً بالناس. دعنا نضف إلى ذلك انصراف الباب العالي صاحب السيادة عن رعاية شؤون الولايات، اكتفاء بجلب أموال الضرائب الضخمة منها. وفي مثالنا المحوري مصر، ترتب على ذلك إهمال تحصينات المدن الساحلية في الإسكندرية ورشيد ودمياط والسويس والقـُصير، فاقتصر الجند فيها على بضع مئات، وأحياناً على بضع عشرات، مع خلوها من الخنادق وأسيجة الدفاعات المتقدمة، بل والماء العذب الصالح للشرب. أما في العاصمة فقد دبت الفوضى في المرافق العامة، وانتشرت الأوبئة، وتتابعت، وتفاقمت أزمات الغذاء نتيجة تدهور الإنتاج الزراعي في الريف، واضطرار الفلاحين للفرار وهجران الأرض والوطن، مثقلين بتجارب الانتفاضات الفاشلة في تاريخهم، وأشهرها انتفاضة الفلاحين الأقباط عام 830 ميلادي والتي أجرى فيها الخليفة المأمون دماء الآلاف منها ومن حلفائهم البدو “العاصين”. فكان طبيعياً أن يشهد العصر العثماني بأحواله الأسوأ تناقصاً مفزعاً في أعداد السكان، هؤلاء الذين كان تعدادهم قرابة العشرين مليوناً عند الفتح العربي (بحساب جزية الرؤوس) فأمسى على أيام الحملة الفرنسية حوالي المليونين فقط!
كيف يمكن إذن أن نتحدث عن نهضة حقيقية كانت في سبيلها إلى الانبثاق ذاتياً عن تلك الأوضاع التي أوجزناها آنفاً، لمجرد أن ظهرت بعض الجهود الأدبية (غير ِ المنكورة ِ قيمـُـتها بالطبع) تمثلت في وضع الزبيدي لكتاب تاج العروس في شرح القاموس (والمقصود بذلك قاموس الفيروز آبادي) وفيما كتبه محمد الصبان في النحو عن ابن مالك الأندلسي، واهتمامه بكاتب الحواشي الأشموني حيث جعل الأشموني الحديث النبوي مصدراً أساسياً في المعرفة اللغوية، كما كان سبيلاً لتأويل مبدأ “الكسب” الأشعري بما يتناسب مع متطلبات التجارة. نعم لقد عادت طبقة البرجوازية التجارية إلى التطلع لدور شجعها عليه محاولة علي بك الكبير في ستينات القرن الثامن عشر أن يستقل بالبلاد، لكن هذا التطلع سرعان ما عاد إلى الكمون بعد مقتل علي بك، مخلفاً آثاراً ثقافية تلقفها الشيخ حسن العطار بمحاولة تحرير الكتابة النثرية من السجع اقتفاءً بمقامات الحريري، بالتوازي مع محاولة عبد الرحمن الجبرتي أن يكتب حوليات تاريخية تهتم بالطبقات الوسطى وهموم الطوائف وأصحاب الحرف. بيد أن جهود الرجلين لم تعط ثمارها المنتظرة، فلقد عادت الدولة في تسعينات القرن إلى الهيمنة على النشاط التجاري نتيجة عدم وجود القنوات الملائمة لاستثمار أموال البرجوازية التجارية، واستفحال التضخم المالي، وضعف القطاع الحرفي، ومنافسة السلع الأجنبية المتدفقة دون حساب. أضف إلى ذلك أن حركة إحياء الحديث التي قادها العطار، إضافة إلى اتخاذه “علم الكلام” كساتر ديني لمناقشة السياسة؛ لا يمكن أن تقارن -هذه الحركة – بحال من الأحوال بالبروتوستانتية الراديكالية في ألمانيا وانجلترا فيما سمي بحركة الإصلاح الديني، لا من حيث منطلقاتها ولا من حيث نتائجها. كما أن “ماتريدية” الجبرتي (نسبة إلى المنصور الماتريدي السمرقندي) كانت تجذبه إلى نزعة يمينية أشعرية تسلم بأن إرادة الله هي التي تقرر مصير الإنسان. وبالطبع فإن الحداثة تبدأ باقتناع المرء بأنه سيد مصيره وليس الكائن الترانسندانتالي Transcendental. وقد انعكس هذا الفكر ما قبل الحداثي على كتابة الجبرتي ، خاصة في لومه للثوار الشعبيين أثناء الاحتلال الفرنسي، وإدانته للحلبي قاتل كليبر، علاوة على موقفه المتعصب ضداً على النصارى، وموقفه الرجعي من المرأة، ومساندته الواضحة لثقافة الاذعان، ولكن لا عجب فالرجل كان ابناً مطيعاً لعصره ولأمته التي ترسخت فيها تلك الثقافة منذ أيام الدولة الفرعونية، ذات الحكومة المركزية المهيمنة في قلب النمط الآسيوي للإنتاج Asiatic Mode of Production حتى إذا صار الأمر إلى الخلافة العثمانية لم يعد المصريون قابلين بالإذعان فحسب، بل وغدوا مؤمنين بالتواكل والسلبية راضين قلبياً بها تحت تأثير الصوفية والشعوذة اللتين شجعهما الحكم العثماني، إلى درجة أن أصبح المصريون معادين لفكرة التغيير من أساسها. والدليل على ذلك أنه ومع قدوم الحملة الفرنسية ومحاولة نابليون أن يغرس في التربة المصرية أفكار ومبادئ الحداثة جوبه بالرفض والمقاومة. لعل جانباً من الأسباب يعود إلى اقتران الحداثة البونابرتية بالاحتلال العسكري، (مما يلفتنا إلى نفس الخطأ فيما يجري اليوم من إخفاق أمريكا في غرس فكرة الديموقراطية لاقترانها بالعنف العسكري).
لكن يبقى على الجانب الآخر أن التأبي على التحديث في حد ذاته، لا شك يعود إلى نزعة متوطنة، قوامها التمسك بالمألوف السائد مهما يكن فاسداً، وربما يضاف إلى ذلك سبب ثان ٍ هو تعلق العوام بأسطورة الماضي الذهبي الذي دائماً ما تـُنسى تفاصيله المؤلمة في غمرة الأحداث الجارية، وهي بلا أدنى شك أشد إيلاماً من التذكار.
بيد أن مياه الحداثة –التي رُفضت فترة الاحتلال- لم تتبخر تماماً في الهواء بل بقى منها، على الأقل عند النخب، قطرات تلمع بدهشة ممزوجة بالسرور. من خلالها لمست الشفاه الظامئة واقع ثقافة أخرى تمنح ممثلي الشعب الديوان حق مناقشة القوانين والقرارات المتصلة بالشؤون العامة مثل الضرائب والإجراءات الصحية والزراعية، وتشجع على البحث في العلوم الطبيعية كما في العلوم الإنسانية بمناهج جد مختلفة، لكن فعالة تماماً، وشتان بين المنهج العلمي التجريبي، ومنهج الشرح على المتون والتلقين والحفظ في الذاكرة الذي كان سائداً في ذلك الوقت.
ولذلك فإنه عندما اندفع محمد علي إلى مشروعه الكبير: تأسيس دولة عصرية على النموذج الأوروبي، مستعيناً على ذلك بمجموعة السان سيمونيين (اشتراكيي القرن التاسع عشر) لم يجد ذات المقاومة التي لاقاها بونابرت. ولقد كاد الباشا أن ينجح في مسعاه، لولا أن أضاع الفرصة بمغامراته العسكرية داخل المنطقة العربية وخارجها، فكان أن انتفضت أوروبا (الاستعمارية) هلعاً لا سيما حين وطأت أقدام العسكر المصريين أرض اليونان. حينئذ أسرعت الدول الأوروبية – بما فيها فرنسا الصديقة!- إلى إجهاض التجربة، فكانت موقعة نافارين وما استتبعها من فرض شروط أوروبا السياسية على الباشا في مؤتمر لندن 1840. ورغم قسوة هذه الشروط، فإن مصر قد أصبحت فعلياً –بفض احتكاكها السياسي والثقافي بأوروبا- دولة ً عصرية ًمعترفا ً بها، مستقلة ً أو تكاد عن سلطة الخلافة العثمانية الهابطة هبوط الشمس إلى الغروب.
من نافلة القول إعادة تفاصيل الحركة الإصلاحية التي مهدت للنهضة الحديثة بفضل رائدها رفاعة الطهطاوي، حيث بدأ التبشير بالفكر الليبرالي وفكرة المواطنة، والحاجة إلى دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ثم جاءت الدعوة إلى إصلاح ديني شبيه بحركة مارتن لوثر وكالفن Calven على يد الأفغاني ومحمد عبده، ومن الواضح أن هؤلاء الرواد الإصلاحيين ما كان لهم أن يفكروا على هذا النحو لولا اتصالهم بالثقافة الأوروبية اتصالاً مباشراً أو غير مباشر، ولقد ساهم في ازدياد تأثيرهم على النخب والجماهير نمو طبقة الملاك الزراعيين بدءاً من تراخي قبضة الدولة على ملكية الأرض بعد رحيل محمد علي، حيث صدرت اللائحة السعيدية 1852 ثم قانون المقابلة 1857 وانحلت المشتركات القروية لصالح ملاك صغار ما لبثوا حتى تحالفوا مع كبار الملاك ومع حركة ضباط الجيش المصريين فكانت الثورة العرابية.
ومرة أخرى فإن المشروع الثوري كان قميناً باستثارة الدولة الاستعمارية الكبرى (بريطانيا) في ذلك الوقت فأسرعت باحتلال مصر عام 1982 اتساقاً والنزعة العدوانية للثقافة الرأسمالية في الغرب.
من هنا يمكن القول باطمئنان كبير، أن الثقافة العربية –وقد اتخذنا لها مصر مثالاً- لم تال ُ جهداً في تحديث نفسها تأثراً بأوروبا السباقة إلى الحداثة، لكنها – الثقافة العربية- كانت غالباً ما تصطدم بأطماع أوروبا السياسية والاقتصادية، مما أجبر المثقفين الوطنيين التحديثيين إلى التزام خنادق الدفاع أمام الجماهير، وهي جماهير لا غرو تـُعذر في نفورها من ذلك الغرب العدواني، وقد تـُـعذر كذلك في التفافها حول أصحاب الثقافة الأصولية الماضوية توهماً منها أن في العودة إلى قيم الماضي الذهبي بعثاً للقوة الزائلة والأمجاد الغابرة.
وهكذا صار على المثقف العربي المعاصر أن يناضل نضالا ًمزدوجا ً، فهو خليقٌ بأن يقف في طليعة جماهيره بالضد على ثقافة العدوان والتوسع والاستغلال ممثلة بداية في النظام الرأسمالي ذاته، وثانياً في صعود أيديولوجية اليمين الصهيوني المسيحي، وثالثاً في السياسات الاقتصادية للثمانية الكبار بقيادة U.S. وحلفائها الأوروبيين، وأجهزتها الفاعلة من أول حلف الأطلنطي إلى البنك الدولي وصندوق النقد، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من وسائل القهر والهيمنة. وفي نفس الوقت فالمثقف الوطني مطالب بأن يعمل بين الجماهير لتوضيح الفوارق في الثقافة الغربية بين نزعتها العدوانية المرفوضة، وبين توجهاتها الحضارية الإنسانية التي جاءت بأفكار الحرية والإخاء والمساواة، وبمبادئ ميثاق حقوق الإنسان جنباً إلى جنب ازدهار العلم، والفلسفة، وأدبيات التحرر، والفنون الراقية، والتكنولوجيا النافعة.. الخ
● ●
ذلك هو جوهر الازدواجية في الثقافتين الأوروبية والعربية، يترتب عليه (من جانب الأخيرة) أن يعجب العرب بالغرب، وأن يمقتوه في آن، إلى درجة أن يضعوا مثقفيه جميعاً في سلة واحدة، دون تفرقة نقدية بين المثقفين العضويين (هناك وهنا) الذين يقفون إلى جانب مصالح الشعوب في كل مكان على سطح الكوكب، وبين المثقفين التقليديين الذين يضعون إمكانياتهم ومواهبهم ومعارفهم في خدمة الطبقات المستغـِلة، محولين أنفسهم إلى مجرد موظفين ثقافيين، ليحصدوا بجانب أجورهم المميزة وعياً شقياً Unhappy Consciousness بحد تعبير هيجل.
فهل يمكن أن تظل ثقافتنا العربية تطابق بين مفكرينا من نوع جوبينو وكسنجر وصمويل هونتنجتون، وبين مثقفين من طراز جرامشي وسارتر وتشومسكي؟! وهل يمكن أن تبقى ثقافتنا العربية عاجزة عن التفريق بين المشاريع الثقافية التحديثية لأمثال عابد الجابري وعبد الله العربي وسمير أمين، وبين أصحاب المشاريع الأصولية المبشرة بأن مستقبل الأمة قابع وراءها، وليس أمامها؟ كما لو أن سهم الزمن يمكن أن يرتد إلى القوس الذي أطلقه، وهو مالا يمكن أن يحدث إلا إذا كان المرء يشاهد فيلماً سينمائياً أدير شريطه -عمداً- بالمقلوب.
بالطبع هي كارثة أن تظل الثقافة الأوروبية على ازدواجيتها ما بين تقدمها العلمي وبدائيتها العدوانية (ممثلة في ذيليتها لأمريكا) بيد أن الأفدح بالنسبة لنا أن نـُبقي على ازدواجيتنا نحن المتجسمة في حاجتنا الماسة للتحديث الثقافي فكراً وممارسة سلوكية، بينما معظمنا حبيس شرنقة خوفه من ذلك التحديث .
***
يقول آلان تورين:”ليست الحداثة هي التي تنتج الديموقراطية، وإنما الجمع بين العقلنة وتحقيق الذات هو ما يؤدي بنا إلى الحداثة” ومن ثم فإنه حين جرى العصف بالعقلنة (نيتشه-فرويد) وتوقف تحقيق الذات بفعل تغليب النجاح على قيمة النقد، توقفت الحداثة في الغرب، مما فتح الفضاء لظهور التيار الثقافي الجديد المسمى بـ “ما بعد الحداثة” Post Modernism وهو تيار يعبر عنه جان بودريارد Jean Baudrillard بأنها محاولة ً لبلوغ نقطة يمكن عندها أن يعيش المرء بما تبقى، إنها مجرد البقاء بين الأطلال ولا شيء أكثر.
دعنا إذن ننظر –فيما هو تال- كيف يمكن أن يعيش المصريون بين هذه الأطلال على أسفلت الاقتصاد العشوائي في شوارع الفساد، وتحت ظلال الأساطير، في عصر أميز ما فيه هو تلك السيولة الكونية التي تهدد بزوال الحضارة الحالية ذات الملمح الغربي، ولعلنا بالرغم من تلك الصورة القاتمة أن نستشرف ملامح حضارية جديدة لمسيرة الإنسان الصعبة.
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* شاعر مصرى ورئيس تحرير مجلة تحديات www.thdyat.net
المصريون محاصرون بين الثقافتين العربية والغربيةلاشك أن الحصار المضروب الآن حول المصريين هو نفسه الحصار المضروب حول شعوب العالم الثالث التي تخلفت عن مواكبة الثورة الصناعية ، ولأن هذه مشكلة تاريخية فلا شك أن الحل أيضا من الضرورى أن يكون تاريخيا . لقد بدأ ت الجماهير المصرية تحركها في معارضة قوية للسياسات الرسمية . ومن ناحية أخرى نرى فكرا علمانيا جديداغير متعصب لأية أيديولوجية بدأ في التجذر داخل الحياة الثقافية ، ربما يمثل كاتبنا مهدى بندق جانبا منه ، ويمثل علي الجانب الأخر ( الفكر الدينى المستنير ) الأستاذ جمال البنا ، بالإضافة إلي الفكر الإجتماعي العلمي عند الأستاذ السيد… قراءة المزيد ..