بيروت – الشفاف خاص
تضج الساحة السياسية اللبنانية هذه الايام باخبار المصالحات المعلنة منها على طريقة النائب وليد جنبلاط وغير المعلنة كتلك التي تجري في الساحة المسيحية لاعادة ترتيب البيت المسيحي عموما والماروني منه تحديدا، وسط تصاعد الحديث عن تجدد الوساطة التي يقوم بها الصرح البطريركي والرابطة المارونية من خلال لجنة تضم ثلاثة مطارنة هم غي نجيم وبولس مطر وسمير مظلوم إضافة الى رئيس الرابطة المارونية جوزف طربيه.
ولكن هل يصلح العطار ما افسد الدهر؟
يحكى ان ستالين سأل يوما كم دبابة تملك دولة الفاتيكان لتعلن الحرب! وفي لبنان، والشيء بالشيء يذكر، يتساءل اللبنانيون ما هو السلاح الذي تملكه بكركي لتفرض مصالحة على أطراف ذهبوا بعيدا في مغالاتهم وتطرفهم الى حد تناول سيدها بالتجريح الشخصي في سابقة لم تشهدها الكنيسة المارونية في لبنان والشرق العربي. ووصلت الأمور الى حد مقاطعة الكنائس والقداديس من قبل عناصر التيار العوني كرد فعل على ما وصفوه بالموقف المنحاز للبطريرك صفير عشية الانتخابات وحمّلوه فيه مسؤولية محاسبة الجماعة المسيحية للتيار العوني ولتيار سليمان فرنجية على جنوحهم وهوسهم بالسلطة وارتهانهم لسوريا على حساب المصلحة الوطنية عموما والمسيحية منها تحديدا.
المصالحات، وان كان بدأ الحديث عنها قبل الانتخابات ما زالت تقف في المربع الاول. فالتيار العوني وسليمان فرنجية كانا ينتظران نتائج الانتخابات ليعلنا شروطهما للقاء حزب القوات اللبنانية ورئيس هيئته التنفيذية سمير جعجع إعتقاداً منهما انهما سيحصدان نتائج ايجابية لصالهما في الانتخابات. عندها تصبح المصالحة بشروط عون وفرنجية وليس وفق مقتضيات المصلحة المسيحية او الوطنية.
فرنجية يلتقي قياديين من حزب الكتائب وفي مقدمهم النائب المستجد سامي الجميل وهو ليس ببعيد عن لقاءات جمعته سابقا مع الرئيس امين الجميل ويبدي اكثر من استعداد للذهاب بعيدا في لقاءاته. وما فاته ان حزب الكتائب هو الذي اخذ قرارا في العام 1978 بقتل والده النائب طوني فرنجية وليس القوات اللبنانية التي لم تكن ابصرت النور حينها. وكان الذراع العسكري لحزب الكتائب الذي نفذ اغتيال طوني فرنجية يسمى القوى النظامية ومن هذا الذراع ولدت القوات اللبنانية.
وسمير جعجع كما اعلن مرار لم يكن سوى آمر فصيلة في القوى النظامية وشارك مع المئات في عملية اهدن التي ادت الى قتل فرنجية كما انه اصيب في المعارك التي دارت في هذه العملية حينها وهو على بعد اكثر من كيلومترين من قصر فرنجية ونقل الى مستشفى اوتيل ديو حينها في بيروت وهو على شفير الموت. ويحكى ان فرنجية كان لا يزال على قيد الحياة ويقاوم مسلحي الكتائب الذين كانوا يحاولون إدراك قصره لتوقيفه وسوقه الى المجلس الحربي الكتائبي كما اشاعت الرواية الكتائبية في حينه من ان هدف عملية اهدن لم يكن قتل النائب فرنجية ولكن الامور خرجت عن السيطرة ما اسفر عن مقتل فرنجية.
ولان الرئيس الراحل سليمان فرنجية ادرك تماما ان دور جعجع كان ثانويا وهو لم يدرك قصر ابنه اثناء العملية، سأل الوزير الراحل ايلي حبيقة يوم زاره بمعية القيادة السورية في القصر الذي حدثت فيه عملية قتل نجله وقبل ان يدخل القصر: هل قمت بزيارة هذا المكان من قبل؟ فأجابه حبيقة ابدا فخامة الرئيس انها المرة الاولى التي ادخله. عندها استقبله الرئيس السابق وأذن له بدخول القصر مع من كان بمعيته من قياديين عسكريين سوريين.
ولأن آل فرنجية يعرفون تماما ان جعجع لم يدرك القصر لانهم استعادوا مسدس فرنجية وساعة يده من المسلحين الذين دخلوا قصر الناب المغدور طوني فرنجية، ولان السلطات اوقفت في حينه ولاحقا عددا من المشاركين، فهم يعرفون تفاصيل التفاصيل بشأن ما جرى في الثالث عشر من حزيران من العام 1978 وكيف قتل النائب فرنجية.
ولكن ما اشكل على اللبنانيين عموما هو لماذا يصر آل فرنجية على تحميل جعجع منفردا ما جرى، ولماذا هم على استعداد للقاء حزب الكتائب الذي اخذ في حينه قرار العملية وتنفيذها، ولماذا التقوا سوى جعجع من قيادات تلك القوى النظامية وفي مقدمها ايلي حبيقة الذي كان يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات في القوى النظامية وهم لا يبدون اي استعداد للقاء جعجع ويضعون الشروط تلو الشروط ليتهربوا من هذا اللقاء!
ولماذا ايضا يحجم العديد من المسيحيين ومن الذين يتجشمون عناء الوساطات عن ذكر الذين قتلوا بعد مقتل فرنجية، وهل هؤلاء لا يدخلون في حسابات ردات الفعل الثأرية التي اعقبت العملية؟
ومع الادانة الشديدة لاي عملية قتل سواء طالت نائبا او وزيرا او مواطنا عاديا، فان من المهم التذكير بان عدد الذين قتلوا على يد انصار فرنجية في سائر المناطق اللبنانية فاق باضعاف مضاعفة عدد الذين قتلوا في عملية اهدن وجل هؤلاء من المسيحيين! فهل تأخذ لجنة الوساطة دماء هؤلاء في الاعتبار؟ لاننا لم نسمع ان احدا ما تحدث عنهم لا بخير ولا بسوء!! خصوصا وان هناك شهودا ما زالوا احياء يرزقون على عمليات قتل ثأرية حصلت في اعقاب عملية اهدن في وضح النهار وامام اعين وعلى مرأى من العديد من المواطنين.
فلكي لا تستمر المتاجرة بدماء النائب المغدور، هناك ايضا قتلى آخرون سقطوا في تداعيات هذه العملية قد يصح أخذ دمائهم في الاعتبار لدى الحديث عن مصالحات مسيحية وان كان البادىء اظلم. فليس جميع من قتلوا في اعقاب عملية اهدن من الذين شاركوا فيها تنفيذا واعدادا وتخطيطا.
ومما سبق يتضح ان المصالحة المسيحية المسيحية بشقها المتعلق بفرنجية جعجع ليست ثأرية فقط، بل هناك جوانب سياسية واجتماعية خصوصا الخلاف التاريخي بين بشري مسقط راس جعجع وزغرتا تدخل في حسابات الاطراف.
وان كان جعجع ابدى استعداده غير مرة للقاء فرنجية وطي هذه الصفحة الاليمة من تاريخ الطائفة المارونية، فان فرنجية ما زال مستعص على اجراء مثل هذا اللقاء لاسباب تتعلق بارتباطاته مع القيادة السورية التي لا ترغب في ان يندمل هذا الجرح.
وللتذكير فان القوات السورية كانت تنتشر اثناء عملية اهدن في شمال لبنان وان مئات المسلحين الكتائبيين انتقلوا من المجلس الحربي في الكرنتينا في ضواحي بيروت حينها ومن سائر المناطق الى نقاط تجمع في غير منطقة شمالية وتوجهوا الى اهدن تحت اعين الاستخبارات السورية وقتلوا فرنجية مما يطرح علامة استفهام بشأن الدور السوري في تلك الحقبة في تسهيل حصول العملية للاستفادة من نتائجها التي كان اولها فرط عقد تحالف الجبهة اللبنانية التي كان الرئيس الراحل سليمان فرنجية احد اركانها الرئيسيين الى جانب الرئيس السابق كميل شمعون ورئس حزب الكتائب بيار الجميل وادوار حينين والاباتي شربل القسيس والاباتي بولس نعمان وسواهم.
اليوم، ما زالت الشروط التي يضعها فرنجية لاجراء المصالحة مبهمة وغير واضحة وهي لا تشي بواقع الحال. ولا يختلف المراقبون بشأن ضلوع سوريا بما لها من مونة تاريخية على النائب فرنجية من اجل الحؤول دون اتمام هذه المصالحة. ولذلك فان مساعي اللجنة قد لا تتكلل بالنجاح في هذا الجانب المسيحي.
اما على الجانب الآخر وعلى الرغم من اللقاءات التي جمعت قياديين من القوات اللبنانية وانصار العماد عون في حقبة الوصاية السورية والعمل المشترك من اجل إسقاط نظام الوصاية السورية وعلى الرغم من اللقاء الذي جمع العماد عون وقائد القوات اللبنانية حينها سمير جعجع في سجنه قبل إنتخابات 2005، فان هجمات العماد عون على جعجع لم تتوقف وهو استأنفها بعد ان بدأ إنعطافته الشهيرة اتي ادت الى توقيعه ورقة التفاهم مع حزب الله وزيارته الى سوريا وايران وتصريحاته النارية في حق جميع القيادات اللبنانية عموما وسمير جعجع خصوصا.
ويبدو ان العماد عون الذي لا يعترف بسواه زعيما مسيحيا، وانطلاقا من نرجسيته، لا يقر بوجود قياديين مسيحيين سواه. وتاليا في يقينه انه لا يريد اجراء اي مصالحة مع جعجع كي لا يعطي الاخير شرعية مسيحية يفتقدها من دون حصول هذا اللقاء حسب اعتقاد عون. هذا فضلا عن ان تورط عون وتياره وقيادييه مع شبكة المصالح السورية والايرانية في البلاد يقيد حرية حركته على هذا الصعيد.
لذلك وانطلاقا مما سبق لا يجد المراقبون اي مدعاة للتفاؤل في ان تحرز لجنة المطارنة والرابطة المارونية اي تقدم على طريق المصالحات المسيحية. وان كانت اللجنة تتخذ من جرأة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط مثالا تحاوز القياديين المسيحيين على اساسه خصوصا وان الخلاف بين جنبلاط وارسلان ووهاب بلغ مبلغا وصل معه الى حد اعتقد اللبنانيون بعدم امكان التراجع. ولكن جرأة جنبلاط وخطورة المرحلة التي تمر بها البلاد دفعت به الى تقديم التنازل تلو التنازل. ولا يخفى على احد ان هذه التنازلات تصب في خدمة مصلحة طائفة الموحدين الدروز اولا واخيرا.
وفي انتظار ان يقدم العماد عون او النائب سليمان فرنجية على خطوة تنم عن استقلالية وجرأة وتنطلق من خلفية ادراك المصلحة الوطنية اللبنانية عموما والمسيحية خصوصا فعلا لا قولا، يبقى عمل اللجنة مقيدا بالشروط التي يضعها الجانبان من اجل عدم انجاز اي مصالحة.