صار بمقدور تنظيم “القاعدة” اقتحام معسكرات كبيرة تابعة للجيش، والسيطرة على مقار مناطق عسكرية استراتيجية في حضرموت وعلى مستوى المنطقة، وقتل وأسر عشرات الجنود والضباط في حضرموت وشبوة وأبين، كما صار بميسور المسلحين من رجال القبائل ضرب خطوط الكهرباء ونسف الأبراج وتفجير أنابيب النفط واقتحام المعسكرات وأسر الجنود والضباط.
وفي شمال الشمال وبالأحرى في محافظة صعدة معقل الحوثية (الزيدية الإحيائية إن صح القول) والمخزن الديموجرافي الأكبر للزيدية لم يعد بمقدور ألوية الجيش أن تتحرك إلا بإذن من قبل “الحوثي” ولا يستطيع العسكري أو الطقم العسكري الخروج من تلك المعسكرات إلا بتصريح من الحوثي” –بحسب الرئيس هادي في آخر حديث مع مشائخ القبائل الزيدية- وفيما خص محافظات الوسط والجنوب وبالذات تعز ولحج وعدن فإن كبار الضباط في الجيش والأمن أصبحوا من الأهداف اليومية لنيران القناصة المجهولين الذين يجهزون عليهم بإحكام ويفرون بدراجاتهم النارية -ضحاياها أكثر من 45 قياديا عسكريا وأمنيا- علاوة على ضحايا السيارات غير المرقمة؛ بما يشهد على أن عصر الجريمة المقيدة ضد المجهول هو أكثر العصور ازدهارا في اليمن منذ قيام جمهورية 22 مايو 1990م أو “الوحدة اليمنية” وهو عصر يبدو أنه سيكون سيد العصور في اليمن إلى أجل غير معلوم.
يحدث غالباً أن يتوسط مشائخ القبائل النافذة لدى “القاعدة” بقصد الإفراج عن الضباط والجنود، كما حدث وتوسط هؤلاء المشائخ وبعض النافذين الكبار بقصد إطلاق سراح بعض الأجانب بتمويل من دولة قطر التي دفعت ملايين الدولارات كفدية لـ”القاعدة” وللوسطاء من الجنرالات والمشائخ النافذين الذين يحكمون قبضتهم الخانقة على رقاب وأنفاس العباد في اليمن.
مؤخراً صار بمقدور أي جماعة قبلية مسلحة اختطاف أي دبلوماسي أو صحفي أو سائح زائر من قلب صنعاء لتساوم بعد ذلك في صفقة بيعه على تنظيم “القاعدة” الذي يقوم بنقله إلى مغارة آمنة متاخمة أو متداخلة مع منطقة عسكرية استراتيجية أو إلى مغارة غائرة في حضن قبلي حصين.
حين ينتقل المخطوف/فة إلى “القاعدة” تتأقلم القضية وتدول وعليها تسيل لعاب مشيخة قطر.
هو نوع من الاستثمار في حقل تداولي دائري نشط جهنمي: قاعدة، قبيلة، وعسكر وليس من حق الدولة أو الحكومة إلا الاحتفاظ بدور أقل من دور شاهد الزور.
وهو استثمار في (الكيماوي) وما هو أخطر لحساب الانحسار، بل والغياب التام لأي شكل من أشكال الاستثمار المنتج والمثمر.
وليس بغريب أن جماعات وأمراء “القاعدة” ومناطق انتشارهم وتمددهم تغطي المواقع والمفاصل الحساسة التي تشتمل عليها خارطة ثروة النفط والغاز وتتموقع فيها القوات والمعسكرات والأولوية ومقرات المناطق العسكرية الاستراتيجية، ما دعا متابع محلي ذكي في العاصمة الحضرمية (المكلا) الى التعليق على ما حدث من اقتحام منسوب إلى “القاعدة” للمنطقة العسكرية الثانية في شاطئ المكلا بالقول: إنهم يتنازعون السيطرة على احتكار النفوذ والحماية لشركات النفط والموارد الجبائية الأخرى.. ثمة تنظيم قاعدة تابع لكل طرف من أطراف الصراع على السلطة والثروة في صنعاء.
كيف يحدث هذا الذي يحدث بعد “الربيع اليمني”؟
ربيع، ثورة، كلام فارغ!
ما حدث بالضبط هو تصدع لنظام تسلطي سلطاني قروسطي.
والنظام السلطاني الذي تصدع هو نظام المخلوع صالح الذي لم يكن أكثر من غطاء فليني لبالوعة كبيرة كانت بحجم بلد، وعندما اغتلت بما فيها من مخلفات وغازات، طوحت بالغطاء الذي تشبع بغازات العفن وانفجرت ناضحة في وجوه الجميع وعلى الجميع.
وحق لـ”المخلوع” بموجب “الصفقة” المبرمة بين فرقاء الأزمة والانسداد والاحتراب أن يخلع على نفسه صفة “الزعيم”.
إنه هو.
ذلك الرمز الآفل لنظام سلطاني اجتمعت فيه كل السلطات بيده وشخصه ولم يكن محكوما بأيديولوجيا معينة أو هدف أو مشروع بقدر ما كان هدفه الوحيد هو الاحتفاظ بسلطته الشخصية.
صحيح انه كان يتباهى ببعض النواحي الديكورية بقصد الاستثمار والانتفاع الخارجي مثل الانتخابات، والأحزاب والبرلمان، لكنه كان فوق كل هذه التسميات والمسميات بواسطة تنصيب الأقارب والاتباع في المواقع الرئيسية، وكان يحصد معظم الثروات في البلاد والتي تأتي من خارجها ويستخدمها في تغذية ماكنة المحسوبية ولتسمين المقربين والبواقين.
وهو كأي سلطان مستجد قام بتقويض النواة الوطنية للمؤسسة العسكرية ونصب أبناء القبيلة والأقارب في أعلى المراتب وتمكن من تقسيم هذه المؤسسة العسكرية وتوزيعها على قيادات وأجهزة ومسميات شتى، وجمع كل تلابيب هذا الشتات في أصابعه (الجيش والمخابرات)، وأناط بشخصه مسؤولية التنسيق بين كافة القادة والقوى والتنسيق في صرف المساعدات الأجنبية بما في ذلك الخاصة بمكافحة ما يسمى “الإرهاب”.
كان هو القائد العام لـ”مؤسسة الحرب والإرهاب” وسيد الخراب بامتياز. ولئن كان اليوم يوعز لأتباعه ومريديه بأهمية الحديث عن أهمية “الانتخابات”؛ فإن مرد ذلك هو انه مخفور بذاكرة النحس والدبور، يعتقد أن بمقدوره التحكم بالانتخابات والأحزاب كما كان عليه الحال في عهده حينما كان يتحكم بالأرزاق والأعناق والخدمات الأساسية والأولية وشراء الذمم وبخسها ودهسها، وكان يشرف على الإعلام وعلى استخدام الإرهاب وتعزيز المخاوف في الداخل والخارج من “القاعدة” ومشتقاتها، مع أن “القاعدة” كانت ولا زالت هي ذلك المولود الأصيل الخارج من رحم نظام الفساد والاستبداد والمتجذر بنيوياً فيه والمتعالق شخصيا بالرئيس التعيس.
ما يحصل اليوم من تفجيرات في مقرات المعسكرات ومن استهداف لما تبقى من قيادات عسكرية وأمنية وبالدرجة الأولى قوات الطيران والدفاع الجوي التي ما زالت من علامات تذكير الناس بوجود جيش في البلاد يرمي إلى تحويل هذا الجيش إلى ميليشيات.
ما يحدث الآن غير مقطوع الصلة بالسياسة السلطانية التي اعتمدها “الزعيم” للاحتفاظ ببقائه على سدة العرش، والمتمثلة بتقسيم الجيش ورهنه بشخص “الزعيم” الذي راكم ثروات هائلة من ريع البلاد ومن القروض والمساعدات الخارجية وركز السلطة ومركزها بيديه إلى الدرجة التي لم يعد فيها قادرا على الحفاظ عليها.
ومن بين نقاط ضعفه الكثيرة كأي سلطان مستجد قفزت به الصدفة التاريخية الهزلية التي طالما قفزت بأكثر الناس ضحالة إلى الصدارة ومكنته من الحصول على كل شيء: السلطة والثروة والسلاح.
من بين نقاط ضعفه التي تضاعفت مع مضي الوقت انه اخفق في إقامة الوزن الدقيق بين تكديس الثروة في يديه وفي الحلقة العائلية الضيقة وبين حلفاء اليوم الأول، ولم يعد بمقدوره مكافأة كامل أفراد النخبة التي صعد على أكتافها. لقد بالغ في مكافأة نفسه وتمادى في إهمال وإقصاء حلفاء الأمس ونزع منهم حافز مناصرته ودعمه، وذهب إلى أبعد عندما تضخمت نرجسيته واعتقد برسوخه على العرش واختزل البلاد والعباد في شخصه.
أسقط من الحسبان واقع أنه كلما أفحش في الثراء وعربد في سفه التبذير والهدر لثروات وأموال البلاد كلما اتسعت رقعة الفقر وتزايد عدد السكان، واتسعت رقعة السخط، وانه لن يفلت من دائرة حساب الزمن الذي لا يرحم ونسي أنه سيكبر كأي كائن آخر وسوف تتفاقم نقاط ضعفه مع تقدم العمر، وسوف يلح عليه هاجس التفكير بالخلافة ويعميه عن كل شيء آخر، وتجعله يحتكم إلى مؤشرات قياس وتحليل تدور فقط حول من سيكون مع توريثه لنجله الأكبر (أحمد) ومن سيكون على الضد من ذلك، وبناء عليه ارتسمت خارطة تحالفاته وخصوماته.
انه العمى الذي يجعل السلطان ينسى أنه في الأثناء التي كبر فيها نجله (أحمد) كان نجل شيخ القبيلة وشيخه (شيخ الرئيس) يكبر في الضفة الأخرى، وكما كان لأحمد صولات وجولات في المعسكرات والسوق والاستثمارات والعقارات، كان لـ(حميد) صولات أطول ذراعاً وباعا ودخل في نادي المليارديرات. وفيما كان لـ(أحمد) ابن أبيه الرئيس للجمهورية ورئيس الحزب الحاكم والقائد العام للقوات المسلحة كان لـ(حميد) ابن شيخ القبيلة الأكبر السند والمعتمد السابق لأبي (أحمد) مشيرا آخر هو النائب الفعلي للقائد العام للقوات المسلحة، وكان من أصحاب كلمة الفصل في أكبر حزب إسلامي-قبلي ارتكز على دعامات العصبية القبلية والايديولوجية الأصولية.
في الأثناء كان لطاقم النخبة التي طالما اعتقدت أنها صاحبة الفضل في تصعيد صالح إلى سنام السلطة مصالح وأنجال وعلى غرار (أحمد) و(حميد) أصبحوا من أصحاب الشركات والتوكيلات للشركات النفطية ومن الحيتان ذوي الشأن في البحر والبر وتحت الأرض وخارج الحدود.
وحينما احتدم سؤال نقل السلطة إلى الأنجال الشباب لم يكن بمقدور هؤلاء الأنجال احتمال ذلك بضغط من اثقال التاريخ والتعبئة والتراتب والامتياز والذاكرة واقتصاد الوجاهة. ولأنهم جميعا يتعاطون مع السلطة بما هي غنيمة فقد كان من يسبق إلى اختطافها لا يتنازل عنها وليس بمقدور القبيلي أن يقفز فوق ظله ولسان حاله يقول: وما لقيته لفيته –أي خطفته-..
ما يحدث الآن من انفجارات ومن تحول وتحلل في بنية “المؤسسة العسكرية” ليس مقطوع الصلة عن هذه البنية الحاكمة وعن ذهنيتها وعن موروث “الزعيم” السلطان الذي عمل على تقسيم البنية القيادية للأجهزة العسكرية والأمنية ليقلل من التهديد الذي يمكن أن تشكله عليه وفي الهزيع الأخير من حكمه اعتمد على جهاز الأمن القومي هو عائلي بامتياز لحماية شخصه وعائلته.
وعلى خلفية هذا التقسيم السلطاني للجيش والأمن صارت هذه القوات عرضة للانقسام مع أول هبة ريح احتجاجية، وتهاوت كـ”نمور من ورق” وسرى الانقسام والتشظي في كل مفاصل هذه المؤسسة التي لم تعد تنفع معها أية هيكلة أو ترقيع لأن العملية تحتاج إلى بناء من الصفر والبداية وذلك هو التصفير بالضبط، والوضع الصفري يطاول كل شيء في “اليمن السعيد”.
وتصدع “النظام” وتفكك وتفشى الفساد وتغول وصارت الإقامة على الانتهاك من علامات الساعة اليمنية الراهنة كما صارت الجريمة نهجا ومنهجا وسلوكا يوميا.
تلك بعض محصلة الثراء الفاحش الذي تكدس لدى الأشاوس من المتقاتلين على ما تبقى من كعكة السلطة والثروة التي تفشت على خلفيتها مظاهر العنف والإرهاب والبطالة وأردت بالجيوش الى موارد الميليشيات والمافيات كتحصيل حاصل لمبالغات “الزعيم” السابق في اللعب على التناقضات بين القبائل والأحزاب وعلى تناقضات دول الإقليم، وإمعانه في “الشطارة” والرقص على الثعابين واجتذاب “القاعدة” وأصحاب السوابق بسياسات الارتجال والفوضى التي تميز بها كمارق على الدستور والقوانين.
كان العشوائيون من “الاقيال” النافذين في البلاد يرون في ذلك الرئيس ما يشبههم، بل كانوا يرون فيه أنفسهم، وكان يستمتع باللعب على تاريخ العداء بين القبائل والجهات وينتصر للقبيلة ضدا على الوطن وللفوضى ضدا على شرعية القانون والدستور.
وتمكن من إنجاز بلاد قائمة على الفوضى والفاقة والعطالة والبؤس واليأس ومنطق عدم الاستقرار والدوائر المتداخلة والمفرغة، ومدائح النفاق، وعصابات القتل والسرقة والتهريب والإرهاب والجهلة واللصوص والمخربين وعبيدهم من التكنوقراط المخربين والغوغاء والدماء المسفوكة في جنبات البلاد.
لقد تمكن ومعه كافة أركان النظام بما في ذلك أعضاء الخلية الداخلية المركزية التي انشقت عنه في 2011م من إنجاز كل هذا الخراب الضارب في الأرض والأذهان.
في كل الأحوال صار من الواضح أن ما يجري من انفجارات متفاقمة واشتباكات في أرجاء متفرقة وواسعة من البلاد يؤشر إلى الشكل الطافح من أشكال تشظي مصادر القوة وتشظي السلطة وانكشاف جذرها الأصلي وتجليها كقوة عارية تحتضر وتنهار في رابعة النهار.
صنعاء