تشهد المناطق الشيعية اللبنانية، منذ بداية الثمانينات، تبدلاُ مستمراُ في النظم والعادات الإجتماعية والقناعات السياسية يصب بمعظمه في مصلحة إتجاهٍ ديني مستجد. وقد استطاع هذا التبدّل أن يقلب مفاهيم المجتمع الشيعي، ويغيّر عاداته، ويُِحِل مكانها عادات أخرى تتماشى مع المفاهيم الوافدة، وكل ذلك تحت شعار “الصَحوة الدينية”.
ولا ريب أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران قد ساهم في هذه “الصحوة” التي اجتاحت المجتمع الشيعي وانعكست على صُعُد الحياة الإجتماعية والسياسية كافة. ولا يخفى على المهتمين أن هدف هذه “الصحوة” التي ترتدي لباس الدين والتي تبنّاها وروج لها البعض، هو سياسي بامتياز يخدم طموحات المنتِج السياسي، الذي خطط للحصول على موطئ قدم له في موازين القوى العالمية.
ووجدت هذه المفاهيم صدى كبيرا لها في المجتمع الشيعي، الذي لمس في هذا التبدل “إنقلاباً” أضفى على حضوره نوعا من القوة المغرية. فركب تياره طوعا وأملا في تحقيق أحلام وطموحات كانت سابقا ضربا من المستحيل. وتحوّل المجتمع الشيعي بذلك، رغم تأرجحه في أوقات سابقة بين تيارات يسارية ووطنية مختلفة، إلى مجتمع ديني خالص. وأصبح الوجود الحقيقي والسيطرة الفعلية فيه حاليا تقتصر على هذا الإتجاه الديني الذي يواجه حضورا سياسيا ودينيا من قبل فئات أخرى تخشى على تاريخها وحاضرها من الضياع مستقبلا في مدّه الجامح.
يتوزع أفراد المجتمع الشيعي في تأييدهم للإتجاهات الدينية-السياسية على ثلاث فئات رئيسية:
الفئة الأولى: (حزب الله) الذي احتكر الدين والسياسة معاً. وقد أدرك أن العاطفة الدينية، أو المذهبية، هي المفتاح السحري لدخول المجتمع من أوسع أبوابه، فاستنهض المشاعر الدينية لدى الأفراد بأسلوب ذكي ونجح في قولبتها لتخدم تطلعاته ومكاسبه. واستطاع، بواسطة سلطان المال المتوفر بغزارة لديه، أن يشتري عقول وقلوب أعداد كبيرة من فئات هذا المجتمع. كما أن “الإنجازات الوطنية العظيمة” التي حقّقها كانت كفيلة بأن تُفرغ له ساحة الميدان وتجمع حوله العدد الأكبر من المناصرين والمؤيدين.
الفئة الثانية:(حركة أمل) ورغم الخلفية الدينية التي انطلقت منها، وهي تعتد بأسبقيتها في هذا المجال، إلا أنها حرصت على عدم طرح شعارات دينية أو مذهبية استفزازية. لكن الفئة الأولى استطاعت لاحقا أن تخطف منها الوهج الديني الذي انطلقت منه وسعت إلى إلغائها عبر سلسلة من المعارك الحربية والضغوط السياسية إلى أن نجحت في تحجيمها أو تقزيمها وتحويلها إلى تابع لا حول له ولا قوة.
وبين تمكّن الأولى وتراجع الثانية، برزت فئة ثالثة (جماعة المرجع السيد محمد حسين فضل الله). وهي فئة دينية خالصة آثرت عدم الدخول في دهاليز السياسة الداخلية، لكن ذلك لم يَحمِها من حروب الإلغاء التي هبت عليها.لكنها تمكنت من فرض نفسها. وهي لم تًسمِّ نفسها حزبا او تيارا أو ما شابه، إنما اتبعت سياسة مؤسساتية دينية فأكثرت من “المبرّات” والجمعيات الخيرية والمكاتب الخدماتية والمدارس الدينية وانتشرت هذه المؤسسات في المناطق الشيعية كافة.
غالبا ما يستخدم حزب الله الفئتين الشيعيتين إياهما متاريس سياسية ودينية أحيانا يتلطى خلفها لتمرير مشروعاته المعروفة أو فرضها، دون أن ينسى قمعهما إذا دعت الحاجة، في ظل استياء جمهوريهما من احتكاره للزعامة الشيعية ومصادرة قرار الطائفة واستدعائهما لمؤازرته في الظروف الحرجة فقط.
ففي أحداث 7 أيار مثلا، حاول حزب الله أن يبرهن أن عناصره يتمتعون بقدر عالٍ من الإنضباط والرزانة حين انتشروا في أحياء بيروت من أجل “حماية المقاومة” أو إجهاض محاولات القضاء عليها كما يدعي دوما، بينما سمح، أو أوعز من تحت الطاولة، إلى عناصر غير منضبطة في “حركة أمل” أن تنتشر في الأحياء البيروتية وتمعن في أعمال السرقة والسلب والنهب والتجاوزات التي ذكرتنا بأيام الحرب الأهلية.
وهذا، في حين لا تكل مئذنة “مسجد الحسنين” التابع للسيد فضل الله، في الضاحية الجنوبية، عن تقديم المدائح وفروض الطاعة والولاء لـ”محور الممانعة والمقاومة”، كممر إجباري للبقاء على قيد الحياة الشيعية.
لماذا تحرّكت “أمل” في جنوب لبنان مؤخراً؟
في ظل هذا الواقع، ظهر مؤخرا في مناطق الجنوب بالتحديد، حراك لافت لـ”حركة أمل”، تمثل أولا في تغييرات لافتة أجرتها الحركة على صعيد توزيع المسؤوليات وترتيبها، والإستعانة بأشخاص “غير منظَّمين”، وتكليفهم بمسؤوليات متقدمة، في محاولة لضخ دم جديد في جسمها التنظيمي.
المجلس الشيعي لحزب الله؟
الحراك هذا أزعج حزب الله واستنفر قياداته، وجمهوره أيضاً، الذي يعتبر أن ساحة الجنوب له وحده، وأن “حركة أمل” هي واجهة سياسية لا عمل لها سوى زيادة رصيده فقط! و ممنوع عليها بالتالي الحفاظ على خصوصية معينة تزاحم برامجه ومخططاته الخاصة! كما أن تصدي بعض رجال الدين في “المجلس الشيعي”، المحسوبين على الرئيس بري، لمحاولات الهيمنة التي بدأها حزب الله لاقتناص آخر معاقل “حركة أمل” في المؤسسات الرسمية الشيعية دليل على تنامي رغبة حزب الله في مصادرته لحضور “حركة أمل” من الذاكرة الشيعية. وهذا، بينما يبقى رجال الدين المحسوبون على فضل الله مستبعدين من هذه المؤسسة أو لا مكان لهم فيها.
فضل الله: اغتاله الحزب سياسياً قبل سنوات من وفاته
ورغم شهر العسل الطويل الذي بدأته قيادات الأطراف الشيعية منذ تشكل المعارضة اللبنانية في 8 آذار 2005، يبدو أن أجواءه لم تظلل مؤيديها. فبقي “ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”!
يقول أحد مؤيدي “الحركة” إننا بلا شك “نعيش في بطن الحوت”!
بينما يرى مؤيدو المرجع فضل الله أن مرجعهم قد اغتيل سياسيا ودينيا من قبل حزب الله قبل وفاته بكثير.
هذه الأجواء برزت بشكل جلي في الإنتخابات النيابية الأخيرة. فمن يقرأ النِسَب التي حصل عليها نواب حزب الله في بعض المناطق الشيعية، يجد أنها أعلى بكثير من النسب التي حصل عليها نواب حركة أمل على اللائحة نفسها والتي كان من المفترض أن تكون متقاربة جدا إن لم نقل متساوية بفعل التحالف “المُعمَّد بالدم” بين الطرفين. وهذا ما يعكس وجود إنقسام حقيقي وحسابات خاصة بين جمهوري “الحزب” و”الحركة” لا تستطيع السياسة التغلب عليها.
على صعيد البلديات، رغم أن الفريقين شكلا رافعة لبعضهما للدخول إلى بلديات كانت فيما مضى مقتصرة على لون سياسي واحد، إلا أن عدم الإنسجام العلني بينهما جعل من أعضاء البلديات التابعين لكليهما في البلدات الخاضعة لسيطرة أحدهما “شهود زور” في العمل البلدي، أو زيادة عدد ليس إلا.
جمهور أمل يمتعض من تهمة “الفساد”: الحزب حصد أموال إيران والمغتربين وشيعة الخليج!
ويمتعض جمهور حركة أمل من تهمة “الفساد المالي” التي تلاحق قياداته، والتي يلوح بها مؤيدو “الحزب” عند كل مفترق. في الوقت ذاته، تكشف الوقائع أن نسبة الأموال التي حصل عليها حزب الله منذ حرب تموز إلى اليوم، بدءا من الميزانية المخصصة له من إيران، مرورا بأموال المغتربين الشيعة، وصولا إلى التبرعات الآتية من شيعة الخليج، تفوق بكثير ما عملت على جمعه قيادات حركة أمل خلال العشرين سنة الأخيرة.
الخلاف السياسي هذا يرافقه خلاف على تصدر الزعامة الدينية.
لذلك تستعر “حرب المرجعيات” في المجتمع الشيعي من وقت لآخر، وتظهر أكثر ما تظهر في تحديد اليوم الأول من رمضان، وأول أيام عيد الفطر، ومؤخراً الخلاف على تحديد أول أيام عيد الأضحى خلال موسم الحج، وكذلك رأس السنة الهجرية ويوم العاشر من محرم.
حرب “مرجعيات” و”فتاوى”
حزب الله يتبع في هذه الحال روزنامة إيرانية، ويلتزم بفتاوى المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. ويلتزم جمهور حركة أمل بفتاوى المرجع العراقي السيد علي السيستاني. أما جماعة السيد فضل الله فتلتزم بالفتاوى الصادرة عن مكتب “السيّد” الخاص. وقد أدت حرب الفتاوى مؤخرا إلى ظهور ثلاثة مواعيد لبدء شهر رمضان وثلاثة أخرى لعيدي الفطر والأضحى وغيرها من المناسبات الشيعية السنوية، وفق الأجندة السياسية لكل مرجع من هذه المراجع.
المظهر الديني الموحِّد لهذه الفئات الثلاثة لم يعد بإمكانه إخفاء الصراع الدائر في ما بينها، والذي يتلخص بالحصول على عدد أكبر من الحصص السياسية في التركيبة الطائفية من جهة أو التفرد بالمرجعية الدينية من جهة اخرى. فكل فئة منها تدعي الأعلمية والأحقية في قيادة الطائفة على أساس ما هو عربي وغير عربي، أو ما هو داخلي أو خارجي، أو ما هو قديم أو جديد.
وقد ضاعت في هذه المعمعة أعداد من المثقفين والمتعلمين في الطائفة الشيعية، ممن لا يؤيدون أي من هذه الفئات، فحوصروا داخل منازلهم أو خارج مجتمعهم، وصُنِّفوا في خانة العداء والتآمر.
مواضيع سابقة ذات صلة في “الشفّاف”:
فساد في المجلس الشيعي؟: وثيقة إصلاحية تتهم نصرالله وبرّي بتغطية “مزرعة آل قبلان”!