ربما كان تنظيم “القاعدة” من ألمع التنظيمات الإسلامية المسلحة على الساحة، ولكن ذلك لا يعني انه الحامل الوحيد للخطاب الإسلامي الراديكالي. فالعالم الإسلامي يعج بتنظيمات إسلامية مسلحة لكل منها خطه السياسي والعسكري (سواء حمل راية المقاومة والتصدي للمحتلين، او المواجهة مع الغرب الكافر والجهاد لنشر الإسلام بالقوة). طبعاً هناك فوارق بين الاتجاهين، ولن ندخل هنا في الفرق بين الإرهاب والمقاومة، رغم ان المقاومة المسلحة إشكالية بحد ذاتها لجهة تأثيرها السلبي على الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت بالحجر، او لجهة تعطيلها الحياة السياسية والاقتصادية كما في لبنان لعدم امكان الفصل بين التنظيم العسكري والعمل السياسي البرلماني. لكننا سنناقش الموضوع من وجهة نظر تقول ان “حماس” و”حزب الله” وكل التنظيمات المسلحة تصب موضوعياً في خانة خطاب راديكالي عنفي كأي تنظيم إسلامي مسلح في العالم يحمل الثقافة الاستبدادية والأحادية والإشكالية في العلاقة مع الآخر والحوار معه، بالاضافة الى مقدسات وثوابت وخطوط حمر في خطاب وفكر كل منهما، لذلك سنفترض ان السؤال الكبير والمهم الذي طرحته “قضايا النهار” سيأخذ الشكل الآتي:
هل للأصولية الإسلامية والتطرف والعنف المسلح أياً كان مبرره شعبية في العالم العربي؟
الجواب برأينا وببساطة هو نعم لثلاثة عوامل رئيسية:
1- في كون الإسلام المكون الثقافي الأول لشعوب هذه المنطقة
ربما لم يتح لدين في العالم ان ينال الأرضية الشعبية التي نالها الإسلام في المنطقة العربية وخارجها (في ما صار يعرف بالعالم الإسلامي)، وإن اختلف أسلوب فهم الدين وتفسير نصوصه التي تحتمل وجوهاً عديدة، فتراوح الفهم للإسلام ونصوصه نتيجة لذلك عند رجال الدين والحكام والمفكرين والشعوب بين خطاب معتدل وخطاب راديكالي أصولي متطرف. ويمكننا مثلاً ان نرى كيف أن إشكالية فهم النص يمكن ان تحدث انقساماً إلى اتجاهين بين المسلمين:
الأول فكر محاور بعيد عن التعصب يرى له مرجعية في آيات قرآنية مثل (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…) أو (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء…) وفي ذلك دحض وتناقض مع الاتجاه الثاني الذي يتخذ من آيات تحض على قتال غير المسلمين مبرراً لنشر التطرف بعد أكثر من 1400 عام على بدء الدعوة.
2- في الدور التاريخي لغياب الديموقراطية
لم تعرف المنطقة العربية إلا فترات قصيرة واستثنائية من الديموقراطية لم تكن كافية لإحداث تغييرات في بنيتها الفكرية والاجتماعية المتخلفة، وعلى ذلك صارت ثقافة الاستبداد والوصاية والقمع الاجتماعي والسياسي هي السائدة، وصارت المرجعيات الدينية والسياسية المستبدة أساس القرار وصانعته. وفي بيئة متخلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً كهذه تتشكل الأرضية القوية لنمو التطرف وثقافة الاستبداد وإلغاء الآخر وإقصائه ولو بالقوة والعنف ولو اتخذ اسم المقاومة إلا انه سيكون ذا فعل عكسي وتخريبي كما في العراق وفلسطين. فالمقاومة مفهوم بحاجة إلى إعادة إنتاج وتعريف وفهم بما يتناسب مع روح العصر وثقافته الديموقراطية، وهذا مالا نراه في فكر التيارات الأصولية المسلحة.
أضف إلى ذلك ان الفكر الغيبي المسيطر كفيل بنفي أي تفكير منطقي وعقلاني وعلماني خارج العقل، ولذلك ترى الشعوب العربية في “القاعدة” وكل التنظيمات المسلحة معبراً عن فكرها وثقافتها السائدة، ولا يؤخذ في الاعتبار ديماغوجيا ووهم هذا الخطاب السلفي المسيطر من إندونيسيا حتى المغرب العربي، ولا يمكننا القول مثلاً إن الشريحة الاجتماعية المسلمة التي فرحت بضربات 11 أيلول كانت قليلة بل العكس حتى لو يتم إعلان ذلك. وهنا يجري تحويل الدين إلى ثقافة ترى في القتل وإزهاق أرواح الأبرياء انتصاراً مظفراً لها ولحامليها.
3- أميركا وإسرائيل والعداء للغرب
طبعاً كان لسياسة أميركا المنحازة لإسرائيل ودعمها لها، وسياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين دور كبير في تأجيج روح العداء للغرب وحتى لشعوبه، وهنا تكرست مشكلة العرب مع الآخر وأعيد إنتاجها كأزمة تصدّر إلى الغرب على هيئة تنظيمات إرهابية وتفجيرات تحصد أرواح آلاف الضحايا الأبرياء في نيويورك ومدريد ولندن. ولكن نضيف إلى ذلك انه إلى جانب دور أميركا وإسرائيل السلبي جداً في هذا الموضوع لو لم تكن البنية العربية جاهزة لهذه الثقافة ولا مانع عندها من إلغاء الآخر جسدياً لما وصلت الأمور إلى هذا الحد من العنف، خاصة ان الموضوع لم يعد ذا علاقة بسياسة يومية بقدر ما هو ذو علاقة بوجود إسرائيل وقتل المدنيين الذي اعتمدته التنظيمات الفلسطينية في الانتفاضة الثانية، وهذا ما أكده انقلاب “حماس” في غزة على سبيل المثال لا الحصر.
وختاماً نقول كل هذه العوامل مجتمعة تلعب دورها في وجود الاساس الصالح والخصب لنمو الإرهاب والعنف وثقافة القتل والموت، ربما كان احد هذه العوامل ذا تأثير أكثر من غيره، ولكن المهم ان للتنظيمات الإسلامية المتشددة قاعدة شعبية لا يستهان بها يمكنها ان تشكل عنصراً ضاغطاً وحتى مخرباً ضمن البلد إذا تم الاحتكام للشارع خارج نطاق المؤسسات والدولة، طبعاً يبقى تنظيم “القاعدة” حالة نوعية في التطرف والإرهاب لم يشهد التاريخ مثيلا لها، وله قاعدته ومناصروه وللأسف حتى من ضمن الإعلاميين والكتاب ووسائل الإعلام ولو لم يعلن ذلك صراحة (وقد أشار الأستاذ محمد علي الأتاسي إلى ذلك في مقاله ضمن هذا المحور)، إلا ان السمة العامة التي تسم هذه القارة العربية من أقصاها إلى أقصاها تبقى الأصولية والعنف والموت الذي تحول إلى منهجية يومية في العراق وفلسطين، والاستبداد الذي فعل فعله في هذه البلاد وشعوبها، مما جعلها تتأخر قروناً عن اللحاق بركب العالم الديموقراطي الذي حل إشكاليته مع الدين منذ قرون وفصله عن السياسة وبنى دولاً ديموقراطية حديثة ومجتمعات متمدنة لا يبدو ان هذه المنطقة قريبة من الوصول اليها على الأقل في المدى المنظور.
annahar.writer@gmail.com
* دمشق