بعد حديثه في الجزء الاول من مقالته عن مرحلة النجف في حياة الإمام، يتناول الكاتب في الجزء الثاني والاخير عودة الإمام إلى لبنان وتبلور رؤيته الإصلاحية ومرتكزات لمشروعه الإصلاحي الكبير.
“لقد كان الشيعة منذ كان لبنان، سكنوا سهوله والجبال وعمّروها بالعرق والدماء”.
(الإمام السيد موسى الصدر)
“ان لبنان هو لبنان: هو هذه الحالة الفريدة من العيش المشترك والحياة الواحدة، وهذه الصيغة التي ارتضيناها جميعا.. في لبنان ليس هناك طرح يتناول اصل الصيغة، فالصيغة هي هذه! والذي يريد ان يغنيها، والذي يريد ان يرشدها، والذي يريد ان يحضنها، نحن نكون في غاية الشكر والامتنان له.. ولكن السؤال هو: هل نريد حقا لبنان ام لا نريده؟ هل نريد نظاما جمهوريا ديموقراطيا برلمانيا ام لا؟ نحن قلنا نعم للبنان، وقلنا نعم لنظام جمهوري ديموقراطي برلماني”.
(الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين)
مشروع الصدر الإصلاحي اللبناني
عاد الإمام الصدر الى لبنان عام 1959 (أي عشية انتهاء الثورة والثورة المضادة وبداية العهد الشهابي) وفي رأسه وعقله مشروع بحجم معنى لبنان ودوره كما وصفه شمس الدين.
قرأ الإمام الصدر تقارير بعثة ايرفد (“حول حاجات وامكانيات التنمية في لبنان” ـ صدر عام 1960) وتابع بدايات التجربة الشهابية في مجال الدراسات التنموية والتخطيط الاقتصادي والانعاش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهو استند الى هذه التقارير والمتابعات لفضح هول الواقع الذي عاشته وتعيشه مناطق تمركز فيها البؤس والحرمان والفقر (الجنوب وبعلبك ـ الهرمل وضواحي بيروت).
ولم يكتف الإمام بالدراسات والتقارير، فهو ساح في طول البلاد وعرضها وانتقل من بيت الى بيت ومن قرية الى قرية في رحلة استكشاف ميدانية جعلته قريبا من نبض الناس وهمومها. وهو الامر الجديد في الوسط الديني الشيعي اللبناني الذي كان يكتفي بالوعظ والارشاد (وله في ذلك كلمة لطيفة: “اذا كانت شغلتي هي الصوم والصلاة فقط ومسائل الزواج والطلاق، فانني سأرحل الى بلد آخر، فأرض الله واسعة.. انني صاحب رسالة مؤتمن من المرجع الاعلى” ـ أي السيد الحكيم).
وقد تحرك الإمام في طول البلاد وعرضها معايشا آلام الناس وحرمانهم، ناسجا علاقات المودة والمحبة والانسانية الحميمة مع كل الفئات. وتلك كانت اول بذور رؤيته المميزة لاي مشروع اصلاحي: الناس البسطاء الفقراء الشرفاء هم الاساس. وهو انشأ الجمعيات والمؤسسات، وحاضر وناقش وتحدث في كل الامكنة من المساجد والكنائس الى البيوت والنوادي والمراكز الثقافية، مركزا على وظيفة الدين في الاستقامة الاخلاقية وفي الصدق وفي المحبة والتعاون. وتلك كانت القاعدة الثانية في رؤيته الإصلاحية. وشارك في اطلاق الحركة الاجتماعية (مع الاب غريغوار حداد)، وحوارات الندوة اللبنانية (مع ميشال الاسمر والاب يواكيم مبارك والاب جورج خضر والشيخ صبحي الصالح) وندوة الدراسات الانمائية (مع الدكتور حسن صعب)، ناهيك عن عشرات الجمعيات والمنتديات التي كان لها لاحقا الفضل والدور في بناء كوادر المحرومين (معهد الدراسات الاسلامية ومهنية جبل عامل على وجه الخصوص) واطلاق المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي.
وهو كان يؤمن بالعمل البسيط المثابر لانجاز تغييرات بنيوية، وتلك ميزة ايرانية كان اللبنانيون يفتقرون اليها. فها هو ذلك الإمام الكبير يعمل مع عشرات المتطوعين على اعادة تأهيل وتفعيل مسجد صور ونادي الإمام الصادق فيها ثم جمعية البر والاحسان الخيرية، ثم في جمع التبرعات والمساعدات لإنشاء مشروع القضاء على التشرد والتسول في مدينة صور، ثم في ايواء وتعليم الايتام ومساعدة المحتاجين وصولا الى تأسيس مهنية جبل عامل ومدرسة البنات (بيت الفتاة) ومدرسة الخياطة والتفصيل ومدرسة محو الامية، وغيرها من المشاريع الصغيرة البسيطة التي أرست القاعدة الثالثة للرؤية الإصلاحية: العمل المثابر والمتواصل والتقدم ببطء وانما بثبات في تحقيق الانجازات مهما كانت صغيرة، للمراكمة والبناء عليها.
واول نص مسجل وموثق للامام (على حد اطلاعي) هو خطابه او بيانه الاول بصفته ناظرا عاما لجمعية البر والاحسان في صور (صدر بتاريخ 31/12/1961) وفيه يستعرض الإمام اعمال الجمعية خلال عام 1961 اي منذ مباشرته العمل فيها، حيث يقول: “وباشرنا العمل معا في اوائل سنة 1961 بتطوير القانون الاساسي والنظام العام فاصبحت الجمعية تعاونية تركزت فيها طاقات جميع المواطنين في صور وصدقاتهم تقريبا”… وهنا القاعدة الرابعة في المشروع الإصلاحي للصدر: تركيز طاقات الجميع في مشاريع محددة.. وقد بلغ عدد اعضاء الجمعية في عام 1961 حوالي الالف من الرجال والنساء.
وفي كلمته عن اعمال الجمعية للعام 1962 (31/12/1962)، يدحض الإمام الفكرة القائلة بان الجمعية طائفية تسعى لخدمة فئة معينة من المواطنين، ويؤكد انها لا تفرق بين الناس وهي تقوم باداء واجبها الاجتماعي في علاج مشكلة الفقر والمرض والجهل في صور من دون النظر الى الطائفة او المذهب، الا انه يؤكد ايضا قيام الجمعية بدورها الخاص في الوسط الاسلامي الشيعي (اقامة الشعائر، ادارة الاوقاف، مراقبة المسجد والمجالس الحسينية الخ..)، وهنا القاعدة الخامسة في مشروعه وهي ان انتماء الجهة الإصلاحية الى هذه الطائفة او تلك او هذا المذهب او ذاك لا يؤدي بالضرورة الى طائفيتها، فالعبرة في الخطاب وفي المشروع وفي النية وفي العمل من اجل اصلاح البلاد والعباد.
لقد عمل الإمام الصدر، ومنذ اللحظة الاولى، على ارساء دعائم مشروعه على ركيزة تتمثل في العمل على الاستفادة من كل العناصر الايجابية في لبنان بهدف توفير الشروط المؤدية الى بناء شخصية سياسية مؤمنة ومتوازنة لشيعة لبنان (على حد وصف الدكتور حسن الضيقة في أول وأهم تقويم لمسيرة الصدر)، شخصية واثقة سوية تكون قادرة على مواجهة التحديات، وتساهم في انهاض حركة الناس (كما كان يحب الإمام ان يقول وهو يقصد المجتمع الاهلي والمدني على السواء) على قواعد التعاون والتضامن والاعتماد على الذات والمبادرة والتنظيم المؤسسي. ولا شك ان الإمام وبفضل اطلاعه الواسع وعلاقاته الاوسع ودراساته العميقة في حوزات النجف وقم كما في جامعة طهران الحديثة، ومن خلال ممارسته العملية مع الناس وبين الناس ومن اجل الناس، وقراءته للتقارير الرسمية والدولية، وتشخيصه الخاص للواقع اللبناني والشيعي فيه تحديدا، قد اكتشف فرادة هذا الواقع من جهة، والامكانات الايجابية الضخمة التي يزخر بها من جهة اخرى، فعمل على البناء عليها وتطويرها. ولا ننسى انه بدأ مع قمة توهج المشروع الشهابي ومرحلته التاريخية التي تميزت ببناء المؤسسات وبافساح المجال امام ادارة جديدة تحديثية وبتوسيع شبكة الخدمات العامة والتزام التنمية والعناية بالمناطق المحرومة وتوسيع التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية.
وقد ارتكز الإمام الصدر على هذه الحالة التي افرزت طبقة وسطى مدينية وريفية حديثة التكوين واسعة ومستقرة ومتعلمة ومتحفزة للعمل الاجتماعي والثقافي. والإمام عاصر صعود وسقوط الشهابية، وهنا نقطة تستحق التوقف عندها نظرا لما كان لانهيار هذه الطبقة الوسطى الشيعية المتعلمة والناشطة من تأثير على تحولات حركة “امل”، وذلك منذ كارثة سقوط النبعة والتهجير القسري للشيعة من كل ضواحي بيروت الشمالية (1976)، مرورا بشتى المعارك في الحرب الاهلية، وقد كان الشيعة وقودها الاساسي، ووصولا الى الاعتداءات الصهيونية المتلاحقة والتي اكملت عملية تهجير وتفسيخ وافقار وتشريد عشرات الالاف من الشيعة (لم يدرس أحد ما حدث للحيوية المدنية ـ السياسية للشيعة بتأثير الحرب الاهلية وحروب العدوان الاسرائيلي في الجنوب، كما بتأثير المال الافريقي والخليجي بعد طفرة النفط في السبعينات).
ولذا فان الإمام هدف في دعوته للارتكاز على القوى الايجابية الى محاصرة الاخطاء والنواقص المحسوبة على الزعامات التقليدية السياسية والدينية (طبعا ينسى البعض الاقطاع الديني الذي حارب الصدر حتى الرمق الاخير لانه ينتمي الى سياق الإصلاحية الدينية الدستورية الشيعية في النجف وقم) والى منع تفاقمها اوتكرارها او انتشارها في المجتمع بناء على ما عرف عنه من هدوء طبع وسلام وصفاء فكر ومن تواضع ومعرفة (وهذه صفات لا نعرف لماذا يحاربها بعض رجال الدين من الشيعة اليوم) اعانته على تجسيد مقولته في البناء لا الهدم، والوصل لا القطع، وفي الاستفادة من كل التجارب والخبرات وذلك في منهج تجريبي واضح لا لبس فيه (أي انه لم يحمل ايديولوجية ثورية جاهزة للتطبيق على لبنان) اذ انه هو القائل: “ان في الاسلام بذورا للتطوير وجعل الاحكام منسجمة مع حاجات الانسان في كل زمان ومكان.. وان المشكلة الكبرى في قضايا الشريعة الاسلامية انها بقيت قرونا طويلة معزولة عن الحياة العامة ولذلك فهي تحتاج الى تجارب قبل التنفيذ” (مجلة المجاهد الجزائرية ـ في 12/8/1973).
لقد وعى الإمام ان ما يطلبه لا يمكن الوصول اليه عبر اي نهج يتسم بضيق الافق: فلا المراهنة على الدولة ومؤسساتها وما تتصف به من فساد واختلال ومن سوء استغلال للسلطة (أكلة الجبنة على حد وصف الرئيس شهاب وقد نجحوا في اجهاض تجربته، من بين عوامل اخرى ليس هنا مجال بحثها)، ولا العمل على تأسيس حزب سياسي معارض او الانكفاء ضمن اطار طائفي منغلق، هو ما يلبي طموحات المحرومين..”ففي هذا الجو من الاهمال والحرمان والدونية التي تعيشها الطائفة الاسلامية الشيعية تنامت ارادة تبحث عن وطن حقيقي تتساوى فيه طوائفه ومناطقه” (من مؤتمر صحفي للإمام في 15/8/1966). رأى الإمام ان حالة الاختلال والفساد حالة عامة لا تقتصر على رأس الهرم بل هي تخترق بنية الاجتماع اللبناني من اعلى قمة السلطة وحتى قاعدة المجتمع الاهلي، ففي اعلى القمة فساد الادارة والرشاوى وتوازنات المصلحة والمحاصصة وتعيينات المحسوبيات والتزلم والانتهازية السياسية واقطاع سياسي ـ مالي ـ وديني ـ متحكم. اما في القاعدة فان بنية المجتمع الاهلي تخترقها انشدادات فكرية وثقافية وسياسية مرتهنة اما لقوى دولية ظالمة واما لحسابات اقليمية متضاربة واما لمصالح قبلية وعشائرية وطائفية ومناطقية ولزبائنية ضيقة ومتناحرة (وهذا التوصيف أستعيره مرة اخرى من الدكتور حسن الضيقة).
لم يكن في ذهن الصدر صياغة مشروع فئوي مذهبي او تقزيم مشروعه الوطني العربي الاسلامي الانساني وتحويله الى رهينة لمطالب اجتماعية او اقتصادية او سياسية، او رهينة لظرف سياسي او لضرورة اقليمية او لتحالف قوى محلية ـ اقليمية (على ما يفعل البعض اليوم للاسف). لم يبحث الإمام عن حل سياسي سهل وسريع يمكنّه من دخول مسرح الصراع السياسي بسرعة لكن على حساب مشروع التغيير الشامل المتكامل، انما عمل على بناء حركة تتسم بشمولية وتعددية الايقاعات وتبتعد عن الاحادية قدر الامكان، فهدفه كان التحريك الايجابي لكل العناصر الايجابية في بنية الاجتماع اللبناني من خلال تحريك ايجابي للمجتمع الاهلي المحروم وللطائفة الشيعية تحديدا. لم يكن مشروع حركة المحرومين مشروعا لتيار او حزب او طبقة او مطلب، بل كان مشروعا لتحريك ايجابي لكل العناصر الايجابية يسمح بدخول المحرومين من كل الطوائف والمناطق الى مسرح التغيير. ولعل هذا البعد التغييري في حركة الإمام هو ما غاب فهمه عن اليسار التقليدي يومها او لعلهم فهموه ولذلك خافوا الإمام وحاربوه.
انطلق الإمام من حقيقة “ان للطائفة الشيعية امكانات وطاقات كثيرة وكبيرة لا يستفيد منها لبنان ولا ابناء الطائفة الا بجزء يسير منها وذلك لعدم التنظيم” (مجلة “الاسبوع العربي” 19/5/1969)، ومن كون “التنظيم شرطاً اساسياً لنجاح كل عمل، والمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى سيؤدي الى تنسيق الطاقات الاسلامية الشيعية اللبنانية ومنعها من الهدر والاصطدام… ومن الطبيعي ان هذا السعي سوف يقابل بصورة حتمية بتعاون الطوائف الشقيقة والسلطات المسؤولة وسوف يعالج الحيف المزمن اللاحق بهم.. واؤكد ان هذا التنظيم لن يفرق اطلاقا بين المسلمين بل سيسهل مهمة التوحيد الكامل عن طريق الحوار والتفاهم… والمجلس سوف يسعى لتنسيق نشاطاته كلها مع باقي الطوائف اللبنانية الشقيقة وتعميق وحدة المسلمين واحكام روابط الاخوة بين اللبنانيين وتوطيد الوحدة الوطنية” (صحيفة الرقيب: 2/6/1969).
لقد اراد الإمام اطلاق الطاقات الايجابية للنخب الشيعية الواعية وللجماهير المحرومة وذلك على قاعدة العدل والتشيع الاصيل وفي خدمة الانسان والوطن، وذلك من خلال ايجاد مناخات نفسية وفكرية وسياسية وتوحيدية تتجاوز شتى الانقسامات. كانت حركة المحرومين لتغيير الذهنية وتغيير الواقع، “ومن اجل ان لا يبقى محروم واحد في لبنان او منطقة محرومة”.. انطلق مشروع الإمام “من الايمان الحقيقي بالله وبالانسان وبحريته الكاملة وكرامته… لتشكيل حركة وطنية تتمسك بالسيادة الوطنية وبسلامة ارض الوطن وتحارب الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان” ( من الميثاق التأسيسي لحركة المحرومين). وهذا ما جعل الاستاذ غسان تويني يكتب: “ثورة الشيعة وهي ثورة طائفية باسم سائر الطوائف ومن اجلها جميعا.. وهي تتجاوز القضايا السياسية التقليدية الى القضايا الاجتماعية والاقتصادية… فقضية الحرمان والظلم، وقضية الارض الحقيقية” (النهار 18/3/1974).
وفي البيان الذي صدر بتوقيع 190 مفكرا ومثقفا من جميع الطوائف: “ان هذه الحركة اذا سميناها افتراضيا حركة طائفية هي الحركة الطائفية الوحيدة في لبنان التي تحمل جوهرا تقدميا… ان اهمية الحركة التي يقودها الإمام الصدر انها عرّفت قطاعا عريضا من قاعدتها بوعيها بامكاناتها وبقدراتها على التغيير”. (النهار 26/11/1974).
وتحت عنوان “حركة الإمام الصدر بين الشيعية واللبنانية” كتب المرحوم العلاّمة الاب يواكيم مبارك: “اعتقادي الشخصي ان شيعية الإمام وحركته لا تحتاجان الى نكران ولا الى تبرير.. فعلاوة على اننا لا نشك بوطنية الإمام وشمول حركته، احسب هذه الشيعية ضمانة كبرى للاصالة وربطا من عمق التاريخ اللبناني بأعماق العالم العربي… فجدلية هذا التاريخ قائمة باستمرار، تتجاوز الطائفية بفضل الدعوة التي اتخذت لبنان معقلا للتجدد الذاتي وموئلا للتفاعل الحر ورباطا لكل فتح خير (النهار 14/12/1974).
خطوط عمل ومرتكزات
هكذا اسس الإمام لاطروحته ولمشروعه على قاعدة توفير شروط الحوار الدائم والتفاعل الثابت والتواصل الحميم بين مختلف الطوائف والتيارات وشتى الشرائح والفئات في المجتمع اللبناني، فكان المشروع التاريخي لشيعة لبنان يرتكز على خطوط عمل ثلاثة:
أ ـ وحدة المسلمين الشيعة في لبنان انطلاقا من ان التشيّع هو حركة صادقة منضبطة بموازين الشرع وعلى قاعدة التوحيد والعدل والحق، منفتحة على تغيّرات العصر وتطورات الزمان والمكان، لا دوغمائية متحجرة ولا ايديولوجية شمولية، ولا مؤسسة منغلقة تقوم على المصالح الذاتية او الخاصة او على الحسابات السياسية النفعية او على تقاسم النفوذ والمغانم او على التعصب المذهبي والتوتير المناطقي والانعزال عن الاخر الشريك في الوطن او الانطواء على الذات واجترار الماضي او الانكفاء على المكتسبات وعن المشاركة وعن الاندماج الوطني او الاستقواء والغلبة والتعالي والاستئثار. ولا بالتأكيد على تبعية عمياء لمركز شيعي خارجي أكان في ايران ام في غيرها. لم يكن هناك في لبنان من هو أكثر لبنانية من الإمام الصدر، ولا أكثر عروبة او تشيعا او اسلاما.
ب ـ وحدة المسلمين اللبنانيين ضمن الاسلام بمختلف مذاهبه، وذلك ايضا على قاعدة التوحيد والعدل والحق وعلى اسس الحرية والكرامة والمساواة والاندماج والتكامل والتعاون: “ووحدة الكلمة هذه ينبغي ان لا تظل شعارا مرفوعا او كلمة مكتوبة بل يجب ان تكون ومضة الفكر وخفقة القلب ودرب السلوك… انها البعد الاساسي للمستقبل”. (من كتابه الى مفتي الجمهورية اللبنانية 1/10/1969).
ج ـ وحدة اللبنانيين جميعا واطلاق الحوار الايجابي البنّاء مع الشركاء في الوطن، اذ ان وحدة الشيعة ووحدة المسلمين خطوة ناقصة اذا لم تقترن بوحدة اللبنانيين لبناء وطن حقيقي ودولة عادلة: “فليس الخطر في تعدد الطوائف بل في تحول التعدد الى سلبية.. ان من يظن ان وجود الطوائف في لبنان هو من اسباب ضعف الاحساس الوطني والقومي فقد ينظر الى هذا الامر من خلال زاوية ضيقة… بل الطوائف المختلفة المنظمة منطلقات للتعاون ونوافذ حضارية على مكاسب لمليارات البشر في هذا العصر وفي العصور الماضية” (من خطابه عند انتخابه رئيسا للمجلس في 30/5/1969). والإمام هو القائل بان “التنوّع الطائفي والتعايش الاسلامي المسيحي ثروة حضارية يجب التمسك بها”، وهو صاحب مقولة لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه التي دخلت بندا اول في مقدمة الدستور، وهو قال ايضا (لمن ينسى): “لبنان ضرورة انسانية حضارية باحترامه للقيم الانسانية وللمذاهب والعقائد والثقافات”، اي انه قيّده بشرط احترام القيم الانسانية، وهو القائل ايضا: “ان الحريات هي الدعامة الاساسية لكيان لبنان”. هذا الإمام الاسلامي الشيعي يتحدث بوضوح عن الكيانية اللبنانية الخاصة فلا يجعلها منطلق مسيرته وحسب، بل يجعلها اساسا قبلة عمل وتحرك ونضال الشيعة في لبنان كما في العراق وغيره. فهو اول من قال وعمل من اجل اندماج الشيعة في اوطانهم.
تأسيساً على ما خطوط العمل الثلاثة المذكورة أعلاه صاغ الإمام مشروعه الإصلاحي الكبير وفق المرتكزات التالية:
1 ـ حماية استقلال لبنان وسيادته ووحدته واحترام حقيقة كيانه وطنا نهائيا لجميع بنيه، والحفاظ على العيش المشترك والحوار الدائم بين طوائفه.
2 ـ حماية الديموقراطية اللبنانية القائمة على اساس التوازن والتوافق والمشاركة، وعلى قاعدة صون الحريات الخاصة والعامة (“الحريات هي الدعامة الاساسية لكيان لبنان”).
3 ـ حماية المواطنية السليمة (دولة عادلة لمواطنين احرار كما قال الإمام شمس الدين) اي مساواة الافراد في دولة تقوم على القانون والمؤسسات، الى جانب التعددية والخصوصية الطائفية (حق الطوائف في الاطمئنان الى وجودها ودورها لا يجوز ان يكون على حساب حق المواطن او فوق القانون والمؤسسات).
4 ـ حماية هوية لبنان وانتمائه العربي في اطار علاقات الاخوة والتعاون والتضامن وضمن الاطر والمنظمات العربية والاسلامية والدولية، وخصوصا مع الشقيقة سوريا.
5 ـ حماية الاجماع حول مقاومة الاحتلال والعدوان الاسرائيلي واخراج هذا الاجماع من التجاذبات السياسية ومن المزايدات الصبيانية..(تشكيل هيئة نصرة الجنوب في 13/5/1970 برئاسة الصدر ونيابة الكاردينال البطريرك خريش ومعهما حشد كبير من رجال الدين والفكر والسياسة ومن مختلف الطوائف والمناطق اللبنانية).
6 ـ العمل على المشاركة في تدعيم القضايا العربية والاسلامية مع الحرص التام على أمن وسلامة واستقرار وسيادة لبنان، ومن خلال الارتباط الدائم بالاجماع العربي والاسلامي وبصيغ التضامن والمشاركة العربية ـ الاسلامية الاوسع، فلبنان مع العرب وامامهم في كل ما يقررونه، ولكن ليس لوحده نيابة عنهم او لحسابات بعضهم.
7 ـ عدم الانجرار وراء دعوات الاستقواء والغلبة او الاستنفار والتعبئة او الرد بالمثل حتى ولو على ابشع انواع الاعتداءات والمجازر. والإمام هو صاحب مواقف الاعتدال والتهدئة والتفاهم والعفو والمصالحة والسلم ونبذ العنف بكل اشكاله (حتى اللفظي منها) رغم ما لاقاه من اتهامات تخوينية ومن حملات تشهير وتكفير ايام النبعة وتل الزعتر وحارة الغوارنة والسبت الاسود وغيرها، ولسان حاله في ذلك قول الله عز وجل: ولا تزر وازرة وزر اخرى.
8 ـ محاربة سياسات التقسيم والادارات المحلية الطائفية والاصولية الدينية كما العلمانية الشاملة، ليس بالنكايات او العصبيات وانما بالعمل الإصلاحي: فقد طرح الإمام سياسات ايجابية بديلة تؤدي الى الحفاظ على وحدة لبنان وهو اطلق دعوات الحوار والتفاهم واجتماعات القمم الروحية كما الحوار الوطني الشامل والجامع.
9 ـ اعادة الاعتبار للقيم والاخلاق وللرشد والحكمة، وللتوازن والتعقل، وللعدل والكرامة، في العمل السياسي والاجتماعي باعتبار ان ذلك جزء من الرسالة الدينية.. فالدين كان لاجل الانسان وليس العكس.. وفي الان نفسه رفض الانجرار الى التعصب او التحزب الضيق او اعتبار الدين او التشيع حزبا خاصا او ناديا مغلقا.
10 ـ عدم الانجرار وراء الكسب الحزبي او المذهبي او السياسي او الى الجماهيرية والشعبوية الرخيصة على حساب مصالح الوطن والشعب، وكم وقف الإمام من مواقف العقل والسماحة ذهبت عكس صراخ وضغوط الجماهير المتوترة وافقدته بعض الشعبية (الى حين) في بعض الاوساط خصوصا في لحظات انفلات العنف والعصبيات الدينية والعشائرية والحماس: “انا لست لمصالح خاصة، ولا تقبلوني ان كنت كذلك… كما ان خبرتي في مجال المصالح الخاصة هي اقل بكثير من الزعامات والقيادات السياسية الموجودة والضرورية… وانا لست ايضا مع الاحزاب التي ترفع شعار “الله اكبر… واسلاماه!!” من اجل كسب بعض الاعضاء والمقاتلين… لا! نحن فقط مع الحق وللحق… وقعنا على الموت ام وقع الموت علينا.. فاننا لا نبالي ما دمنا على الحق… وهنا نلتقي مع التاريخ… مع احلامكم… مع رؤيتكم.. مع طموحكم التاريخي..”.
ان هذا المشروع التاريخي هو الذي سمح للامام الصدر ببلورة التيار الوطني الشيعي اللبناني، المعتدل، المستنير، الحضاري. وسمح له بالتالي باستنهاض “كل العناصر الايجابية في الوطن لبلورة المشروع الوطني العربي الاسلامي الانساني لشيعة لبنان: مشروع الحوار والمصالحة والسلم الاهلي والوطن النهائي ضمن العدالة والكرامة والمساواة بين الجميع ومن اجل الجميع” (محمد مهدي شمس الدين).
المشروع الإصلاحي وتجربة الحرب الاهلية
جاءت الحرب الاهلية اللبنانية زلزالا ضرب الكيان اللبناني برمته، وهو اصاب مسيرة الإمام الصدر ومشروعه في الصميم وهدد بانهياره لولا صبره وشجاعته ولولا مواصلة الإمام شمس الدين للمشروع وتطويره ونقله الى افاق انسانية ولبنانية وعربية جديدة (خصوصا في مرحلة ما بعد الطائف والتي حملت البصمات الواضحة للمرحوم الشهيد رفيق الحريري الذي قال عنه الإمام شمس الدين: “انه الطائف الناطق”).
لم يكتف الإمام الصدر بدعوات التهدئة (نداؤه التاريخي في 14 نيسان 1975 “الى اللبنانيين: احفظوا وطنكم لبنان وفي قلبه مكان للثورة الفلسطينية، والى الفلسطينيين: احفظوا قضيتكم التي جعلت من قلب لبنان عرشها… والى المسلمين والمسيحيين: استيقظوا جميعا وانبذوا الدخلاء… فليسجل المسيحي اللبناني من جديد موقف الفادي، وليجدد المسلم اللبناني سلوك الرسول الكريم”. وهو لم يكتف بتشكيل “لجنة التهدئة الوطنية” واجتماع الـ77 الشهير في مقر المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى بالحازمية (18 نيسان). ولمن يستذكرون الإمام اليوم ويتذكرون كلماته وخطبه نذكرّهم لعل الذكرى تنفع المؤمنين، بان الإمام كان صاحب شعار “السلاح زينة الرجال” في مهرجان بعلبك الشهير، الا انه لم يتهرّب من المسوؤلية عند اندلاع الحرب الاهلية بل قال قولته الخالدة “نعم السلاح زينة الرجال حين يرفع فقط ضد الاحتلال”، داعيا الى نبذ العنف والى الحوار السلمي الديموقراطي سبيلا لتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية وتأمين السيادة والشرعية، في زمن كان فيه العنف الثوري والشرعية الثورية هما المعيار والاساس. وهو لم يكتف بالاقوال بل هو قام بخطوة تاريخية لا سابق لها تمثلت في اعتصامه الشهير في مسجد العاملية (27/6/1975) متعبدا صائما معلنا: “نعتصم لنفرض على المواطنين الاعتصام عن السلاح الذي يستعمل ضد اللبنانيين.. اننا نريد ان نخنق صفحة العنف بصفحة العبادة والاعتصام والصيام”.
هذا هو خط الإمام الصدر وهذه هي دعوته ومسيرته. كلمة طيبة وحوار دائم وانفتاح ورفض للعنف ولمنطق السلاح، انه غاندي لبنان والعرب. ولمن ينسى نعيد تذكيره بموقف الإمام من حماية المسيحيين في المناطق الاسلامية ودعوته لاعادة كل المهجرين وفورا ولحفظ الاقليات في كل الوطن: المسلمون في المناطق المسيحية، والمسيحيون في المناطق الاسلامية. وهل ننسى القاع ودير الاحمر ورأس بعلبك وعيناتا وشليفا والقدام؟؟. وهو عبّر في ندائه التاريخي الى اللبنانيين (23/1/1976) عن صرخة الالم والغضب لما الت اليه الاوضاع: “لقد انهار المجتمع اللبناني وانهارت الاخلاق وتدهورت القيم والكرامات … فتعالوا نعود الى ضمائرنا وعقولنا ونرجع الى الحق والعدالة”. نعم: الحق والعدالة لمن ينسى من الشيعة انها هي معنى واصل التشّيع! وفي تأبين الشهداء الذين سقطوا في النبعة وتل الزعتر يصرخ الإمام بشيعته: “اسمعوا… اسمعوا…. انا اقول لا!! كل طلقة تطلق على دير الاحمر والقاع وشليفا تطلق على منبري ومحرابي وصدري واولادي.. وهذا الاسلوب الذي اعتمده لا يرضي الجماهير، فالجماهير موتورة، محزونة، متألمة، مجروحة، تريد ان تنتقم، تريد ان تثأر وتحفظ كرامتها، والسيد موسى يقول لا!!.. نحن خطنا خط القيادة …كنا مختلفين مع اصحاب الجاه والنفوذ فاختلفنا ايضا مع الاحزاب ومع الناس… وصبرنا وسلكنا طريقنا”.
وفي مناسبة اخرى يقول بما يشبه النبوءة: “هناك العشرات من التقارير الامنية في العالم، 12 منها يقول لي انت اول من سيتعرّض للاغتيال بعد كمال جنبلاط… انا ايضا في الدق!! لا يهم!! اولسنا على الحق، كما قال ابن الحسين لوالده عليهما السلام….فقال له الحسين: بلى!! فقال ولده: اذن لا نبالي اوقعنا على الموت ام وقع الموت علينا…. نحن هذه طريقنا.. هذا شرفنا… رغم كل شيء”.
هذا هو الإمام الصدر وهذا هو مشروعه. قال كلمة الحق حتى لو اغضبت الجماهير. العدل ولو على النفس او على ذي قربى!! وليس الانتشاء بصراخ الجماهير. كان علويا وحسنيا وحسينيا بامتياز. الحق والعدل اولا واخيرا وليس الرضوخ لاهواء الجماهير مهما كانت هذه الجماهير محزونة او معبأة او متوترة، لا بل ان هذا هو معنى القيادة والإمامة والتشيّع الاسلامي.
وعلى هذا الطريق طرح الإمام الصدر مشاريعه الإصلاحية والحوارية والسلمية، ودعا الى وضع نهاية للحرب الاهلية. فوجد ان ذلك يتحقق بدعم اي خطوة او مشروع لبناني او عربي يوقف القتال اولا. سارع الى القاع ودير الاحمر لمنع التعدي عليهما صارخا: “احميكم بعمامتي وجبتي، افديكم بنفسي وصدري” (ابنه صدري). ووقف في المجلس الشيعي في 13ايلول 1975، والنفوس تغلي، يقول عن الاسس الجديدة لبناء الوطن: “ان انفجار الوضع يؤدي الى سقوط لبنان..لم يتفق اللبنانيون منذ الاستقلال وعند اقرار تأسيس لبنان الكبير على مبادئ الوطنية الاساسية فاجتنبوا البحث فيها خوف الانقسام وعوضوا عن ذلك بالمجاملات واستعمال الكلمات ذات المعاني المتعددة واختيار انصاف الحلول لمشاكلهم حتى كاد ان لا تحس بوحدة الشعب اللبناني”، داعيا الى الحوار الوطني الشامل، وممهدا له بعقد اول قمة روحية جامعة في 4/10/1975 وهي اكدّت على “وجوب استمرار تعايش الطوائف اللبنانية والدعوة الى الحوار ووقف القتال ورفض التقسيم والتمسك بالسيادة الوطنية”.. وكان الإمام قد خاطب القمة بقوله: “الخطر يهدد كيان لبنان وطابعه الحضاري المميز ويهدد سلامة البلدان العربية الشقيقة كما ان القضية الفلسطينية معرضة للخطر الكبير…وما وقع على ارض لبنان من اعمال تشجبها المسيحية والاسلام”.
وفي 27/11/1975 اعلن هو والإمام شمس الدين ورقة العمل الشيعية للحوار الوطني والإصلاح وفيها مقترحات الإصلاح السياسي والاجتماعي ومبادئ بناء لبنان الجديد. أيد دعوات المصالحة والسلم كافة ومن اية جهة صدرت. ايّد الوثيقة الدستورية وايّد محاولات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لوقف العنف وبدء الحوار الوطني. وايّد المبادرة السورية الاخوية واعطاها كل الدعم رغم الحملات التي استهدفته، الا انه لم يتوقف عند مجرد التأييد للمبادرة السورية. وهذا ما ينساه الذين يحاولون اليوم استخدام اسمه وحضوره ومواقفه لتبرير ما لم يستطع الرئيس الاسد تبريره حين اعترف بالاخطاء الكثيرة التي تسبب بها تدخل الاجهزة الامنية السورية في الحياة السياسية اللبنانية.
لقد كان الإمام الصدر هو اساس لطائف اول ننساه حين نؤرخ للحرب، هو طائف 1976 الذي قام على مبادرة عربية (مسنودة دوليا) لانقاذ لبنان. فهو الصديق الوفي والمخلص للثورة الفلسطينية رغم ما ناله من بعض تياراتها لم يتخل لحظة عن قداسة تلك الثورة وعن تشبيه رئيسها عرفات بانه حسين هذا العصر. وهو الصديق الوفي لسوريا كان يعلم معنى الصداقة والوفاء ومستلزماتهما واولها النصح والنصيحة الاخوية الصادقة الصدوقة لا المداهنة والنفاق والاستقواء، وعدم التفريط بالولاء للوطن. وهو الانسان العربي المسلم المتألم للصراع السوري ـ الفلسطيني، والسوري ـ اللبناني، والفلسطيني ـ اللبناني، لم يحمل عصا سوريا ضد الذين عارضوه واساءوا اليه، ولم يشتغل على خط الاستفادة من سوريا لضرب الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، بل هو اشتغل على خط الحوار والمصالحة. ولم يستخدم ذلك ايضا لاضعاف الطرف المسيحي او على حسابه، بل هو اراد مصالحة شاملة تضم الجميع، ومن اجل ذلك فانه لجأ الى العرب.
لقد ادرك الإمام ان وفاقا عربيا يليه قرار عربي على مستوى القمة هو الحل للصراع المندلع وهو الضمانة لتطمين كل الاطراف. ولذا تنقّل الإمام بين مصر والسعودية والكويت وسوريا في الفترة من 23 آب وحتى 13 تشرين الاول 1976 متصلا في الان نفسه برئيس الجمهورية وبقيادة منظمة التحرير الفلسطينية (وهو لم يقطع علاقته بها وخصوصا ابو عمار وابو جهاد) وبالجبهة اللبنانية (القيادة المسيحية يومذاك) ساعيا مع الجميع الى تحقيق وفاق عربي يفضي الى قرار بوقف الحرب في لبنان. وقد اثمرت مساعيه انعقاد مؤتمري القمة في الرياض ( 16/10/1976) ثم القاهرة (25/10/1976) وفيهما تقرر انهاء الحرب وارسال قوات ردع عربية، نعم قوات ردع عربية لمن نسي او يتناسى ولا يتذكر الا ما يفيده، ولمن ينسى ان القوات العربية السورية دخلت من ضمن قوات عربية وبقرار عربي ومن اجل اهداف حددتها قمتا الرياض والقاهرة، وكان ذلك طائفا عربيا ـ لبنانبا صنعه الإمام الصدر ولم يكتب له النجاح بسبب تدهور العلاقات العربية ـ العربية بعد زيارة الرئيس السادات للقدس (1977) وما تلاها من انقسام العالم العربي (ثم توقيع مصر اتفاقية كامب دايفيد 1979)، فدخل لبنان مرة اخرى مرحلة الخطر وكان ذلك بداية لاجتياح اذار 1978.
ادرك الإمام بان الخطر على الجنوب كبير واكيد وبانه مفتاح اعادة تفجيرالاوضاع اللبنانية الداخلية في اكثر من اتجاه، وان عدم دخول قوات الردع العربية والجيش اللبناني الى الجنوب وعدم تمكن السلطة الشرعية من بسط سيادتها على الجنوب سيكون بداية لمحنة جديدة هي الاخطر على كيان لبنان وعلى مستقبله ومصيره. ركّز السيد تحرّكه مع المسؤولين اللبنانيين والسوريين والعرب ومع قيادة الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية ومع الخاصة والعامة حول مصير الجنوب وخطر الاحتلال والكارثة المقبلة، فدعا الى اعادة سلطة الدولة على الجنوب والى ضبط العمل الفلسطيني بقرار عربي على مستوى القمة. وكانت مجموعات افواج المقاومة اللبنانية تخوض المعارك في الجنوب بقيادة الشهيد الدكتور مصطفى شمران وبتنسيق اساسي مع القوات المشتركة من خلال الكتيبة الطلابية التابعة لفتح والتي كان الإمام يمنحها ثقته ويمدحها في خطبه العلنية.
ومع اجتياح آذار 1978 ونشوء دولة سعد حداد والشريط الحدودي المحتل، بدأ الإمام الصدر جولة جديدة على العالم العربي مطالبا بابعاد لبنان عن الصراعات العربية ـ العربية وبفصل الوضع في الجنوب عن الصراع في الشرق الاوسط وذلك حفاظا على وجود لبنان واستمرار صيغته واستقرار كيانه، ليس بالخطب الفارغة، وانما بالمواقف التاريخية التي تحفظ لبنان واهله ولو على حساب الايديولوجيا والعنتريات الحماسية، ومن خلال تقديم التنازلات للمجتمع اللبناني وليس التشبيح عليه وتمنينه بالمقاومة كلما طالب بالديموقراطية او بالسيادة. ولم يكن الإمام ليعتبر السيادة مسيحية او المقاومة شيعية. وهو اعتبر ان استمرار القتال والمواجهة في الجنوب وحده يستلزم قرارا عربيا على اعلى مستوى فدعا الى قمة عربية طارئة تعالج الموضوع وتعمل على تنسيق الموقف، وهو حصل على موافقة مسبقة من ياسر عرفات وخليل الوزير ومن الرئيس الياس سركيس ومندوب لبنان في الامم المتحدة الاستاذ غسان تويني، فانطلق في تحرّكه العربي من سوريا الى الاردن فالسعودية والجزائر، ومنها الى ليبيا التي لم تكن على جدول زياراته وانما كان متجها الى مصر ومنها الى روما وباريس وهدفه شرح ضرورة عقد قمة عربية ووضع خطة عربية مشتركة لانقاذ الجنوب وحماية لبنان وسلمه الاهلي.
ذهب الإمام الى ليبيا وهو يعلم خطورة خطوته هذه، ولكنه كان مستعدا للتضحية القصوى في سبيل لبنان، اليس هذا هو الدرس الحسيني الذي ارادنا ان نحفظه؟؟، والحقيقة الناصعة الجلية ان خطته التي اراد ان تكتمل بقرار عربي وبدعم اوروبي (توسيع انتشار وعمل قوات الامم المتحدة) كانت سبب اختطافه وتغييبه. ولا بد هنا من اعادة تذكير الذين يحترفون النسيان، حتى لا نقول الكذب من دون خجل، ان رؤية الإمام الصدر للمقاومة وللمواجهة مع اسرائيل الشر المطلق لم تكن ابدا الا رؤية عربية شاملة، اي انه كان دائم الدعوة الى خطة عربية شاملة ينخرط فيها لبنان مع كل العرب. وكان دائم التشديد على ضرورة وجود استراتيجية عربية للمواجهة حربا ام سلما يضطلع فيها لبنان بدوره ضمن اطار عربي اشمل يحقق معنى السيادة ويطمئن كل اللبنانيين، وهذا كان نفس موقف الإمام شمس الدين، وهذا الموقف (لمن ينسى او يتناسى) هو الذي استخدم لتبرير الحرب مع الهيمنة والتسلط الفلسطيني اعوام 1978 ـ 1982 ثم مع حزب الله حول القرار 425 في الجنوب اعوام المحنة الشيعية الكارثة 1988 ـ 1990، ام اننا نسينا ايضا لماذا جرت حرب الضاحية واقليم التفاح؟، وهنا انقل كلاما خطيرا قاله الإمام شمس الدين بعد اكثر من 15 سنة من مواقف الإمام الصدر، وفي عز شموخ المقاومة، بعد تفاهم نيسان 1996، وهو كلام يعيد تأسيس الرؤية التاريخية للامام الصدر:
“ان ما اراه الخيار الوحيد امام الشيعة في لبنان والخليج وفي كل مكان، مع اختلاف الشروط، هو خيار تحقيق الكرامة والحد الاعلى من المصالح، وحفظ دينهم وفهمهم وحرية سلوكهم وممارستهم بقدر الامكان في ظل الشروط القائمة فعلا في المنطقة والعالم…ان ذلك لا يمكن ان يحصل اذا كنا مصدر خوف للاخرين.. لان الخوف منا لا يجعلنا متناقضين مع الانظمة، بل يجعلنا، وهذا اسوأ ما يكون، متناقضين مع الشعوب بالذات، نتناقض مع شركائنا في الوطن…ان علينا نحن الشيعة ان نبني حالة الفة نفسية بين المجتمع غير الشيعي والشيعة.. وهذا الامر يحتاج الى تواصل والى اعتراف متبادل ويحتاج الى ان لا يكون الشيعي مصدرا للخوف بل مركزا للامان… ليس المطلوب اظهار تشيّع الشيعة، فهذا ظاهر الى درجة الوجع… المطلوب ان يكون الشيعة مواطنين مندمجين في مجتمعهم ومقبولين في مجتمعهم بشكل كامل… لقد كان هذا الخط ديدن الائمة وسياستهم ولم يكونوا في ذلك موالين للانظمة… تلك كانت رسالتهم السياسية وادارتهم السياسية… لانه ليس المطلوب احداث فتنة في المجتمع، بل من المحرّم احداث فتنة في المجتمع!!!! يقال الان مثلا ان الوحيدين الذين بقفون في وجه تسوية الشرق الاوسط هم الشيعة… هذا الامر بمقدار ما يفتخر به بعض الشيعة وقصار النظر يشكّل خطرا حقيقيا على الشيعة… لا يجوز باي حال من الاحوال ان يبدوا الشيعة وحدهم في مقابل ما يسمى مشروع سلام الشرق الاوسط… اما ان يشاركهم فيه غيرهم والا فلا داعي لان يظهروا انهم وحدهم عشاق ليلى… اما ان يكون لهم شركاء في عشقها او لا داعي لان تكون معشوقة على الاطلاق!!!!!، وانتم تعلمون ان من يتأخر عن اهل البيت يفقد ايمانه.. ومن يتقدم عنهم ايضا يفقد ايمانه….. وكما ان المتخلفين المتخلين هم مخالفون للحكم الشرعي.. كذلك الذين يريدون ان يكونوا مسلمين اكثر من النبي وشيعة اكثر من علي …”. (من لقاء الإمام شمس الدين مع اقطاب المعارضة الشيعية السعودية ـ دمشق ـ النص الكامل في كتاب الغدير رقم 4 ـ الامة والدولة والحركة الاسلامية)..
ان المعيار الاساس الذي طرحه الإمامان الصدر وشمس الدين للتعامل مع اشكالية الوطنية والعروبة هو وصيتهم للشيعة بان “لا ينظروا الى انفسهم كفئة متميزة عن سائر شركائهم في الوطن…. وبانه يجب عليهم ان يندمجوا اندماجا كاملا في محيطهم الوطني والقومي والاسلامي من خلال الانخراط في ارقى درجات الالتزام الاخلاقي بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام وطاعة القوانين” (من حديث للامام شمس الدين في الكويت ـ 27/1/1994).
خاتمة وعبرة
ينسى الناس اليوم وخصوصا الذين يتحدثون عن الاسلام والتشيع وعن العروبة والثورة، ان الإمام الصدر وقف وتصدى للديماغوجية وللحماس الاجوف وللفتاوى الصادرة من دون فقه او تقوى او ورع.
ان هذا الكلام لا يستهدف غير النصيحة وهو كلام يتوجّه الى قيادة وكوادر “حزب الله” وحركة “أمل”، الذين ضربوا المثل الساطع في التضحية والفداء وفي الشعور بالمسوؤلية وفي الدفاع عن الوحدة الوطنية وعن السيادة والاستقلال وعن العروبة الحقة الحضارية الديموقراطية يوم اهدوا الانتصار التاريخي في الجنوب الى كل لبنان وكل العرب والذين اعترف لهم العدو قبل الصديق. ان الشعب اللبناني وان المستقبل يحتاج اليهم والى تضامنهم والى نضالهم والى وحدتهم مع اخوتهم واشقائهم، والى الاستقامة على الحق والعدل وعلى الحرية والمسوؤلية التي كرّم الله بها الانسان. ان الامانة للتشيع ولعلي والحسين ولدروس كربلاء تجعلنا في صف المظلومين وفي خندق المواجهة مع الظلم والظالمين وهو الموقع الذي نريده لهم الى جانب كل الشرفاء اللبنانيين.
(*) كاتب واستاذ جامعي
المشروع الإصلاحي للإمام السيد موسى الصدر 2
رحمك الله ياشهيد هكذا هم الرجال والا فلا ولعن الله الذين كانوا السبب في اختطافه والقذافي اولهم وصدام الجرذ الثاني وقلبي كله حسرة علية