عشية عقد المجلس النيابي اللبناني في جلسة انتخابية رئاسية (في 23 من الشهر الجاري) تبدو مناشدة التكتل الشيعي – العوني الانقياد لأحكام الدستور، وحضور الجلسة المزمعة، وانتخاب الرئيس العتيد من بين المرشحين المعلنين او غير المعلنين، ضرباً من العبث. فمشادة الثلثين والنصف زائد واحداً، نصاباً قانونياً لجلسة انتخاب الرئيس، وهي المسألة التي تشغل الحياة السياسية المحلية والحركة الديبلوماسية الدولية المحمومة المتصلة بها، ليست مشكلة دستورية، على ما يعلم الضالعون فيها من الأحزاب والحركات والتيارات كلها. ومناقشتها تدور في حلقة يستحيل الخروج منها. والاجتهاد فيها، قياساً على سابقة، ممتنع، شأنها شأن استقالة الوزراء الشيعة (الى ارثوذكسي لحق بزملائه) الخمسة في أواخر السنة الماضية.
وعلة الحلقة المفرغة، والامتناع من الاجتهاد والقياس، هي ان أحكام الدساتير تقضي اولاً في قواعد الإجراء والإبرام والتعاون (أو التضافر) والسلامة والتقــــييد. ولا تقضي في التعطيل والتنصل إلا من باب الربط الاستثنائي والحدي.
وتفترض القواعد هذه اصلاً ثابتاً هو تولي الولايات والمهمات، وليس في الإحجام عن توليها، وتركها. ومشادة التكتل الشيعي – العوني، «الدستورية» والسياسية، تتنقل بين نمطين أو نوعين من الحجج والأدلة لا يستقران على قرار، ولا يقبلان الحسم على أي وجه من الوجوه. فسند استقالة الوزراء الخمسة، وترتب تعطيل مجلس الوزراء عليها، على زعم التكتل، هو مادة «ميثاقية» ترهن شرعية السياسات بوفاق ميثاقي بين الطوائف اللبنانية.
ولكن المادة العامة والناظمة هذه لم ينجم عنها أثر في إحصاء الأحوال الست التي تعتبر فيها الحكومات مستقيلة. وليس إغفال استقالة وزراء طائفة كلهم من الإحصاء الدستوري اللبناني سهواً ولا إهمالاً. فاحتساب مثل هذه الاستقالة يصح في دســـتور فيديرالي، أو ائتلافي، معلن. وليست الدولة اللبــــنانية فيديرالية. وعــلى هذا، فإجماع وزراء طائفة من الطوائف على إرادة تعـــطيل الحكم، إما مسلك فيديرالي، ويخالف روح الدستور مخـــالفة شـــقاقية، وإما فعل لا تترتب عليه مفاعيل دستورية، على ما حصل. وفي كلتـــا الحالين، ينتهك إجماع وزراء الطائفة الشيعية على الاســـتقالة «الروح» المــــيثاقية. فهو ينسب الى وزراء طائفة، مفردين، حق نقض استنــسابياً ومـــعطلاً لا تخولهم إياه النصوص ولا الأعراف.
وما يصدق في شأن الاستقالة الطائفية والجماعية يصدق في نصاب الانتخاب الرئاسي. وعلى نحو قريب من إحصاء أحوال الاستقالة ونفاذها، وخلو الإحصاء هذا من إجماع نواب طائفة (لا يبلغون ثلث عدد الوزراء!) على الاستقالة، تشترط مادة من الدستور، المادة 79، نصاب الثلثين، وتلزم به: «عندما يطرح على المجلس مشروع يتعلق بتعديل الدستور لا يمكنه ان يبحث فيه، أو أن يصوت عليه، ما لم تلتئم أكثرية مؤلفة من ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً، ويجب ان يكون التصويت بالغالبية نفسها». فحيث الثلثان شرط لازم، نصت المادة عليه من دون لبس. ويشفع بتعظيم عدد المقترعين على تعديل الدستور وقوعُ الاقتراع على نص أو مضمون، وليس على شخص، مهما علا دوره في مراتب «الرئاسات». فينبغي، والحال هذه، تضييق شقة الخلاف على نص ينظم عمل المؤسسات والهيئات. واجتماع ثلثي أعضاء المجلس، وليس أعضاء نصاب انعقاده الظرفي، ضروري في هذا المعرض. ولا يصح في الأشخاص، أو أصحاب الوظائف والولايات، ما يصح في قواعد العلاقات. فالأشخاص محل منازعة وخلاف وانقسام. ويجوز، تالياً، ويتوقع الخلاف عليهم. وهو لا دافع له، ولا مناص منه، على ما يعلم المشرعون وغيرهم.
فافتعال المشادة، وحملها على الدستور، ورهن المصير الوطني والأهلي بحلها على النحو الذي يرتئيه التكتل الشيعي – العوني، والترجح في مناقشتها بين العلة الدستورية والعلة السياسية، تنذر بمضاعفات وتداعيات تخرج انتخاب الرئاسة كله من الخلافات الجزئية، وتخرج التباين السياسي من إطار وطني مشترك يسعف الاحتكام الى الدستور في حله.
والحق ان مقدمات الخلاف – من قرار مجلس الأمن 1559 وتمديد ولاية اميل لحود واغتيال رفيق الحريري الى الجلاء السوري والانتخابات النيابية ونتائجها والاغتيالات المتعاقبة والمحكمة الدولية اللبنانية والعلاقات السورية – اللبنانية والحرب الحزب اللهية – الإسرائيلية وتجميد مجلس النواب واحـــتلال الساحتين والقرار 1701 – هذه المقدمات، أو الحلقات المتعاقبة من سياق الخلاف المتلبد والمحموم، بادرت إليها او استدرجتها السياسات التي يتعهدها اليوم التكتل الشيعي – العوني. ويلغي منطق هذه السياسات الدستور، والاحتكام إليه، والاجتهاد فيه، من غير بقية. ويقحم على العلاقات السياسية والأهلية اللبنانية أسوأ ما ولدته العلاقات هذه في أحلك أيامها وما لم يسبق لها ان ولدته.
فاشتراط الاتفاق على رئيس الجمهورية («التوافق» أو «الوفاق») من خارج عمل الهيئة الناخبة الاعتيادي، أي في أعقاب تعطيل الهيئة الناخبة ودورها، وقصرها على تسجيل أو تدوين ما انتزع بالقوة، يســــتكمل مقدمات الخلاف، ويتوجها بفرط عقد الدولة الوطنية. والحق أن فرط عقد الدولة جار منذ انفجار الأزمة في صيف 2004 وخريفه.
وكانت تولت السيطرة الحزبية الــــسورية إدارة هذا الفرط، في الخفاء والعلن، منذ عقود. وتوقع إسهام الجهازين المتصلين والمتضافرين، الداخلي الشيعي – العوني، والخارجي الإقليمي السوري – الإيراني، في «حل» ينتهي الى انتخاب رئيس لبناني في مجلس النواب – بينما الاغتيالات مستمرة، وحرب نهر البارد لم تضع اوزارها، واحتلال ساحتي بيروت الوسطيتين قائم، وندب المــــندوبين الى اغتـــــيال القوات الدولية لم ينقطع ولم يفتر (في النـــــطاق «الداخلي») – لا يفتقر الى المنطق ولا الى العقل، على خلاف الظاهر ربما. فالجــــــهازان، من غير المساواة بين أطرافهما، قادران على الإسهام في الانتخاب مقدار ما هما قادران على تعطيله في مقر المجلس النيابي. ولا يترتب على تيسير الانتخاب، ولا على تعطيله «حل» متماسك. فالتماسك مصدره القواعد الدستورية. وهذه ابطلها الجهازان منذ الطعن في الانتخابات النيابية (وكان ميشال عونه هو البادئ).
وأما خارج هذه القواعد، وهذا الخارج هو حلقات الأزمة المتعاقبة والآخذ بعضها برقاب بعضها الآخر وتلابيبه، فلا تماسك سياسياً يرجى أو يتوقع. وعلى هذا، فلا تناقض ولا تدافع بين ترك الجهازين مجلس النواب ينتخب رئيساً من غير رضاهما، ولا يشاركان في انتخابه، ويصران على انتخابه بغالبية مطلقة وخارج مقر المجلس إمعاناً في الإزراء به وبناخبيه، وبين تعليق تشكيل الحكومة الآتية على شروط مثل تمثيل التكتل الشيعي – العوني بنسبة 45 في المئة من الوزراء، ودوام احتلال الساحتين وتعليق اجتماعات المجلس النيابي ومداولاته، ومحاصرة النواب بالتهديد بالقتل. وليس هذا أقل ضرراً من الحكومتين والرئيسين، أو من الحكومتين ورئيس لا طريق له الى بعبدا والمقر الرئاسي. فالمخيلة «السياسية» المنفلتة من عقال القواعد لا حسيب عليها ولا رقيب، أو هي مخيلة لا رباط عليها، على القول العامي.
وأهل الجهازين هذين هم من يسعى الداخل والخارج في محاورتهم، ومفاوضتهم، وبلورة «حلول وسط» معهم، ولا سيما مع الجهاز الخارجي والإقليمي منهما. ومحاكاة المحاورة والمفاوضة والبلورة في متناول اهل الجهازين. وهم يحاكونها ويقلدونها في المحافل المتاحة، وهي كثيرة، كلها. ولكن حدود المحاكاة والتقليد ظاهرة. وهي استعادة اللبنانيين هيئة الدولة، وطي صفحة الولاية الملحقة بعاصمة سلطنة أو حلف سلطنتين، وتخطي دور المسرح الاحتياطي أو الثانوي في حروب عالمية يحلم بها المرشدون والمراجع والحرسيون.
كاتب لبناني
الحياة