كنا نعتقد أن أزمة وجود المرأة في بلادنا قد بلغت ذروتها في تسعينيات القرن المنصرم وتحديدا إبان حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت) وبُعيد قيادة السيارات من قبل بعض بنات الوطن،
كما اعتقدنا أن ما شهده وضع المرأة من انفراج على يد الملك عبدالله، يمثل بداية مرحلة المراجعة لخطاب المرأة السائد ومساءلة كل ما كان ساكنا وراكدا في موضوعها، وحين ظنت المرأة أن المياه الراكدة أخذت تباشر حراكها، وأنه تم الاعتراف بوجودها في المجتمع إنسانا فاعلا ومشاركا في الحراك الاجتماعي وليس مجرد متقبل له، ما لبثت أن اكتشفت أن هناك كثيرا من الوقائع التي تترصد هذا الوجود وذلك الحضور، وتسعى جاهدة لتهميشها وإبعادها متذرعة بالدين ومتهمة المرأة بانتهاك حمى الفضيلة، وينشط خطاب سلطوي قامع منشؤه العجز عن استيعاب ما يحدث في موضوع المرأة ورفض الحوار بشأنه والإصرار على إمساكه وحده دون سواه بهذا الملف الشائك مستندا إلى مرجعية ليست بالضرورة مرجعية مبنية على مفاهيم إسلامية صحيحة بقدر انتمائها لفقه العادات والتقاليد والراهن الاجتماعي.
من الأسئلة التي تثار هنا هي: لماذا يرفض بعضهم أي انفراج في موضوع المرأة؟
لماذا يصرون على عودة بلادنا إلى زمن السكون والركود؟ هل سبب ذلك أن قضية المرأة تزدهر وتلقى قبولا في مجتمع السكينة والركود فتصبح قضية القضايا وعندها يكون خطابهم فقط هو الخطاب المهيمن؟ ألا يوجد في المجتمع قضية أخرى تستحق الاهتمام سوى قضية المرأة وجودا وحضورا وتفاعلا؟ فأين قضايا يموج بها مجتمعنا في خريطة وعيهم وهي قضايا على درجة عالية من الخطورة والأهمية؟ أين هؤلاء من المخدرات التي تفتك بمتعاطيها من الشباب؟ أين هؤلاء من انحراف بعض الشباب وهروب بعض الفتيات من بيوتهن؟ أين هؤلاء من زنا المحارم ومن اغتصاب الأطفال الصغار من أقرب الناس إليهم؟ أين هؤلاء من البطالة التي تعاني منها أعداد كبيرة من أبناء وبنات الوطن؟ أين هؤلاء من قضايا التستر التي يمارسها ضعاف النفوس وفاقدو الشعور بالانتماء إلى لوطن؟ أين هؤلاء من الغش التجاري ومن العمالة الوافدة التي تسيطر على جزء كبير من الاقتصاد الوطني؟ أين هؤلاء من سلب أموال المواطنين الكادحين بمشاريع وهمية من قبل لصوص المتاجرة بالأموال؟ أين هؤلاء من قضايا الدعارة والجريمة المنظمة التي يقوم بها مواطنون ووافدون؟ بل أين هؤلاء من تردي الخدمات التي تمس صحة المواطن وعيشه وتعليم أبنائه كما في وزارات الصحة والتجارة والتربية والتعليم؟ ثم إذا كانت المرأة تشغل كل هذا الحيز من وعيهم وتفكيرهم، فلماذا لا يتناولون القضايا التي تمتهن فيها المرأة وتسحق كرامتها من قبل الآباء والأشقاء والأزواج؟ لماذا لا يطالبون بسرعة البت في قضايا الطلاق التي ترفعها المرأة ضد زوجها الذي تعاني هي وأولادها من ظلمه وعنفه وتستمر معاناتها سنوات وسنوات دون أن تنال حقها في تفريقها عنه، وعندما يطلب أولياؤها تفريقها عن زوجها دون رضاها يحدث ذلك بسرعة البرق كما شهدنا مؤخرا؟ كم امرأة سلب زوجها أموالها وتزوج أخرى وأخرجها وأولادها إلى قارعة الطريق، كم رجل طلق زوجته وطردها من بيته هي وأولادها فعانوا فقرا وفاقة لأن الزوج رفض أن يصرف عليهم، كم رجل عاش عالة على زوجته وعلى أهلها ثم طلقها وتزوج أخرى ليمارس معها الأسلوب ذاته، بل كم رجل سيّىء السلوك والسمعة يذيق زوجته وأولاده الذل والهوان ولا يقوم بواجباته تجاههم ولا يجدون من ينصفهم منه، كم امرأة طلقت وحرمت من رؤية أبنائها وضاع عمرها في المحاكم مطالبة بحقها في رؤيتهم، بل كم من فتاة حرمها أخوتها من ميراثها الذي كفله لها الدين ولم تجد من يرده لها، كم من أب ظالم منع ابنته من الزواج حتى يستمتع براتبها فيمضي بها العمر ويضيع حلمها في تكوين أسرة وإنجاب أطفال ، كم من أب جاهل زوج ابنته الطفلة من كهل ثري كي يستمتع بالثمن الذي تقاضاه مقابل التضحية ببراءة ابنته، بل كم من حوادث العنف التي تمارس على النساء والبنات من قبل الأزواج والآباء وزوجاتهم وصل بعضها حد القتل، كم من رجل شبق يعدد الزوجات ويطلق ويترك لدى كل عائلة زوجته إحدى بناتها، شابة مطلقة وأبناء يحكون قصص جحود أبيهم وأنانيته وتخليه عن حقوقهم، قصص كثيرة تحكي مأساة المرأة في مجتمع ينتمي أهله إلى دين كرم المرأة وأعطاها حقوقها لكنهم تجاهلوا الدين فأهانوها وسلبوا إنسانيتها وانتهكوا كرامتها؟ فأين الوعاظ والدعاة وخطباء المساجد من هذه القضايا؟ أم هي قضايا لا تمثل أهمية لهم؟
الآن وقد انتهى معرض الكتاب في مدينة الرياض، يحق لنا أن نتأمل الخطاب الذي رافقه الكامن في ثنايا الثقافة التي أنتجته تلك التي تقف وراء المنزلق الحضاري الذي تعاني منه بعض المجتمعات الإسلامية في هذا الزمن ونحن منهم، إنه خطاب التشدد ليس غير، الخطاب الذي يتغذى على مقولات ماضوية لا تستند إلى ما جاء به القرآن ولا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه طبيعة خاصة في المجتمعات التي تنكفىء على نفسها بمعزل عما يموج في العالم حولها من حراك ثقافي واجتماعي!!
لقد راجت مقولات في الآونة الأخيرة عبر مقالات وبيانات احتجاجية تعترض على حضور المرأة وتحض على عزلها وعدم إعطائها فرصة المشاركة في الأنشطة الثقافية والفكرية في بلادنا سواء بحضور بعض الفعاليات الثقافية كما في معرض الكتاب ومهرجان الزهور- الذي استؤنفت التعبئة ضده – وحضور المرأة الإعلامي في قناة الإخبارية ونشر صورها في الصحف، ومن ذلك ما نشر مؤخرا في الصحف المحلية من احتجاج بعض أعضاء مجلس الشورى على وزارة الثقافة بشأن ما سمي اختلاط في معرض الكتاب وظهور المرأة الإعلامي!
وإذا ما أخذنا في تفكيك تلك المقولات التي تأتي على رأسها مقولة الاختلاط فإننا نجد أن مفهوم الاختلاط بين الرجال والنساء مفهوم حديث لم يرد في كتب اللغة بهذا المعنى، كذا لم يرد في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي، والاختلاط غير الخلوة، وعليه يكون الاختلاط هو اجتماع النساء والرجال في مكان واحد وفي وقت واحد كما في المسجد وفي السوق ودور العلم وغيرها، وكان الاختلاط يحدث في الإسلام وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه، ولكنه وضع له ضوابط، وقد نصت جميع المذاهب على جواز دخول المرأة المساجد مع الرجل وكذلك دور العلم، وكلنا يعرف قصة المرأة الحسناء التي كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان بعض الصحابة يصلي في آخر صف حتى يراها ويتقدم بعضهم حتى لا يراها، فأنزل الله فيهم قوله (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) الحج 24ولو كان الاختلاط في ذلك الزمن غير جائز لمنعت النساء من حضور الصلاة مع الرجال أو لجعل لهن مكان خاص كما يحدث الآن، ولا ننسى أنه طوال التاريخ الإسلامي كانت المرأة تصلي وتطوف بالكعبة وتسعى بين الصفاء والمروة إلى جانب الرجال، وفي بعض المواسم يشتد الزحام حد الاحتدام ولو كان ذلك غير جائز لاخترعوا وسيلة تمنع الاختلاط في المسجد الحرام والمسجد النبوي ، كأن تخصص أوقات للنساء وأخرى للرجال أو توضع حواجز أو مداخل خاصة، أو ما شابه ذلك من الوسائل التي أصبحنا وحدنا نملك حق اختراعها . والغريب أن المرأة في بلادنا تختلط في الأسواق مع العامة والدهماء من باعة وسائقين وعمال وغيرهم ممن يُخشى على المرأة من بعضهم لو تصادف وجودها معه وحده، ولكنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عندما يسمح للعائلات رجالا ونساء بزيارة المعارض كمعرض الكتاب الذي لا يرتاده إلا النخبة من الأكاديميين والمثقفين وطلاب الجامعات، فكيف يُعترض على ذلك وهو على النحو الذي أشرنا إليه فضلا عن أن مدته محددة بأيام معدودة، في حين لا يجدون غضاضة في الاختلاط في الأسواق التي تنتشر في طول البلاد وعرضها وفي أحياء راقية وشعبية على السواء يرتادها الصالح والطالح!!
وكلنا قرأ كتب التاريخ الإسلامي وعرف أن المرأة تذهب للحروب فتشارك في القتال (أم عمارة وأمية بنت قيس الغفارية وخولة بنت الأزور) وتداوي الجرحى (رفيدة الأنصارية )، وكانت تعمل في الاحتساب فقد ولى عمر بن الخطاب امرأة اسمها الشفاء على سوق المدينة وسمراء بنت نهيك الأسدية سوق مكة، أفلا يعد ذلك اختلاطا حدث في صدر الإسلام ولم يعترض عليه أحد؟!
كما لا يوجد في الإسلام غضاضة من الاختلاط في المنزل بين الأهل والأقارب والأصدقاء بوجود المحارم من الرجال وتناول الطعام معا فلقد قال الله تعالى (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) النور 61 . ولقد دعا عمر بن الخطاب الذي اشتهر بالغيرة الشديدة على النساء زوجته لتأكل مع الضيف الغريب، فقد روى الطبري أنه (جاء رسول من الأقاليم ليقابل عمرَ فدعاه إلى الغداء في بيته فدخل فنادى زوجته “يا أم كلثوم .. غداءنا” فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق قال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟ قالت : إني أسمع عندك حس رجل ولا أراه من أهل البلد . قال : نعم، قالت: لو أردت أن أخرج إلى الضيف لكسوتني كما كسا الزبير امرأته وكما كسا طلحة امرأته، فقال لها: أما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر؟ قالت ما يغنيني ذلك شيئا . فقال للضيف: كل فلو كانت راضية لأطعمتنا أطيب من هذا) تاريخ الطبري ج 5ص 2716. ومعنى هذا أن عمر يدعو زوجته أم كلثوم لتحية الضيف الغريب والأكل معه وهي ترفض ليس لحرمة الاختلاط بل لأنها لا تملك ثوبا يليق باستقبال ضيف في بيتها وهي زوجة خليفة المسلمين! إنه من المخجل أننا ما زلنا نناقش قضايا حسمها الإسلام لكننا نصر على تغليب رؤيتنا النابعة من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية !
ولعله من باب الطرافة أن نذكر أمام هذه الصور المشرقة للرعيل الأول من المسلمين، ما جاء في موسوعة المجتمعات المدنية من أن الحاكم بأمر الله الفاطمي أجبر النساء على لزوم بيوتهن ومنعهن من الخروج للشوارع، وألزم الباعة المتجولين بالوقوف بعيدا عن الأبواب واتخاذ خشبة بذراع طويلة في نهايتها ما يشبه الملعقة يرسل عبرها ما تريده المرأة من بضاعة فتأخذها ثم تضع ثمنها في الملعقة فلا ترى البائع ولا يراها !
إن السؤال الذي يلح هنا هو لماذا انحرفت النظرة إلى المرأة هذا الانحراف المشين في العصور التالية وحلت محل تلك الصور المشرقة في صدر الإسلام؟ وما الذي رسّخ تلك النظرة المتخلفة في مجتمعنا حتى أصبح الشك في المرأة هو القاعدة والثقة هي الاستثناء؟ لقد صرح أحدهم لصحيفة محلية أن المرأة المتبرجة ينبغي محاسبتها لأنها تثير الفتنة في الأماكن العامة ! فلم يوضح حدود ذلك التبرج ولا ماهيته، مما يجعل الباب مشرعا لأي متهور أن يعترض على وجود امرأة ما في سوق أو مطعم لأنه رأى منها ما بدا له أنه تبرج ! كما امتنع أحدهم من إلقاء محاضرة في أحد المستشفيات حتى تخرج جميع الحاضرات ومعظمهن من طبيبات المستشفى ! إن إقصاء المرأة يعد ممارسة عنصرية وانتهاكا صارخا لحقوق الإنسان تجرمه (بالجيم) المجتمعات الحديثة.
كما يحق لنا أن نتساءل : لماذا يصر بعضهم على مناقشة وضع المرأة من خلال النصوص الضعيفة وآراء بعض الفقهاء المتشددين متجاهلا موقف الدين الصحيح والواضح من قضية المرأة؟ فهل يعني هذا أن خطابهم مأزوم تنقضه الحجج والبراهين الصحيحة؟ أم هو الخوف من انهيار هذا الفكر المتشدد وتهاويه أمام الحقائق الدينية الناصعة؟ أم هو اعتراف خفي بهشاشة فكرهم وعدم قدرته على الصمود في ضوء المتغيرات الراهنة داخليا وخارجيا؟
إنه لابد لنا من التعامل مع ذلك الفكر المتشدد بروح نقدية ورؤى عقلانية منبعثة من حقائق الدين ومن روحه، لابد من التحرر من قبضة المقولات التي يزعمون قدسيتها بطمسها وتنقية ذاكرتنا منها ومن الاجتراء على الدين بتقويله ما لم يقله.
إنه مما يدعو للأسى أنه في الوقت الذي ينشغل فيه العالم الإسلامي والدول العربية المجاورة لنا بأسئلة تتعلق بولاية المرأة العامة وتوليتها المراكز القيادية وزيرة وسفيرة وعضو برلمان ومديرة جامعة وأخيرا قاضية، ننشغل نحن بسؤال يفغر فاه هازئا بنا : هل يجوز أن تختلط المرأة (التي يكسوها السواد من رأسها إلى أخمص قدميها) بالرجال في معرض الكتاب وفي مهرجان الزهور؟ وهل يجوز أن تعمل المرأة (التي لا يظهر منها سوى وجهها وكفيها) مذيعة في قناة الإخبارية؟ إنه وعلى الرغم من مرور ما يقارب الخمسين عاما على إقرار تعليم البنات أثبتت المرأة خلالها قدرة مذهلة على التخصص في أكثر الحقول العلمية صعوبة ودقة إلا أنه ما زال هناك من يصر على حبسها في أدوارها التقليدية!!
وأخيرا لا أملك إلا أن أحيي وزير الثقافة والإعلام على إفساح المجال للمرأة لحضور معرض الكتاب في أيامه الأولى بعد أن اعتدنا منذ سنين على تخصيص الأيام الأخيرة لنا، بعد أن يستحوذ الرجال على نصيب الأسد ويتركوا لنا الفتات، كم مرة عدنا نتجرع مرارة الخيبة لأن القائمة التي بذلنا جهدا ووقتا في إعدادها لم تسعفنا في الحصول على ما نريده من كتب.
alhassnaa_2000@yahoo.com
* الرياض