انها خيبة الانكفاء من هدف توحيد الامة ونهضتها الى التمترس خلف مقولة الخطر السني القادم على الشيعة وسواهم من الاقليات في المنطقة العربية، ومن الدعوة الى اشراك كل عناصر القوة بالامة العربية والاسلامية في تحرير القدس، الى التشكيك بمصداقية وصدق كل عربي ومسلم لا يسلم بكامل تفاصيل المشروع الايراني وقيادته لعملية المواجهة مع العدو.
فإما تسلّم بالرؤية والمنهج والسلوك واما انت مشكوك في أمرك ومتآمر على القضية الأم، والمثال على ذلك ما نالته قيادة حركة حماس (المدللة سابقا من ايران والممانعة) عندما حاولت النأي بنفسها عما يجري في سورية واعادت تموضعها في العلاقة مع مصر، فتعرضت لحملة تشكيك لم تتوقف ويمكن ملاحظتها، في دوائر سياسية واجتماعية توالي ايران، واستحضر البعد المذهبي للحركة لتفسير هذا النأي، لأن اقتصار التفسير على هذا البعد هو ما يتيح شيطنتها لدى الجمهور الشيعي الموالي للمشروع الايراني. وبه وحده يمكن محو، بكلمة، عقد ونصف العقد من التحالف او التسليم الكامل لحركة حماس بالمشروع الايراني في فلسطين وعلى حدودها. وسحبت كل الشهادات التي نالتها حماس من ايران واتباعها كنموذج للمقاومة الفلسطينية يجب اتباعه.
وحمّى العصبية المذهبية تستكمل مهمتها مع الثورة السورية، وتبدأ بنشر ثقافتها وقيمها في دوائرها لتزيد من انغلاقها، وتعمد الى نبذ عملي لكل سلوك وحدوي. هذا في الواقع ومن خلال رصد الكثير من النقاشات في دوائر شيعية موالية للمشروع الايراني على امتداداته العربية وفي محاولة بائسة لتبرير تأييد نظام الرئيس بشار الاسد في معركته ضد الثورة الشعبية في سورية. هو الشعور المرَضي بالتفوق، او الاستكبار الذي يصل حد الاعتقاد الواهم بان المواطن الشيعي الموالي او المؤيد لهذا المشروع (والعلويين اخيرا) هو الاكثر صدقا واخلاصا في الدفاع عن قضية فلسطين واكثر ادراكا لمصلحة الفلسطينيين حتى من الفلسطينيين انفسهم، وهو بالتالي من يحق له وحده تحديد المخلص والمتآمر. وهو سلوك ومنهج وطريقة وحيدة لتبرير الجرائم التي ترتكب ضد الشعب السوري لدى فئات مجتمعية.
أولئك المواظبون ليل نهار على تصعيد الحالة المذهبية والغرق في ثقافتها واستحضار ادبيات الخوف من المذاهب الاخرى، وتجيير (عقيدة ظهور الامام المهدي المقدسة لدى المسلمين الشيعة)، ينشغلون في تفسيرات واسقاطات لتبرير مواقف سياسية آنية وظرفية، ولاسقاط المسؤولية الدينية والانسانية عن هذا الدم النازف من الشعب السوري، الى حد تبريره. لعلهم يلتفتون الى ان منسوب العداء تجاه فئات واسعة من الامة العربية والاسلامية واتجاه شركاء في الحيّز الوطني، بات عمليا يتجاوز العداء لاسرائيل. وباتت اسرائيل فعليا في الوعي المذهبي المتنامي اقل خطورة من الآخر المسلم او الخصم السياسي الوطني. وجواب الكسالى والغارقين في عصبيتهم جاهز “انهم يكرهوننا”
ومهما كانت الشعارات عدائية ضد العدو الاسرائيلي، ثمة واقع مغاير مفاده ان فكرة الامة والوحدة ببعديها الوطني او العربي، او الاسلامي حتى، لم تكن الا كلاما لا ينبع من قناعة راسخة او من هدف فعلي. إذ كيف يمكن ان تتم التغطية على كل هذه الثقافة الدينية والسياسية التي باتت تنظر الى الآخر في الامة كعدو فقط لأنه لا يسلم تسليما كاملا برؤيتها السياسية او الفكرية او المذهبية او الوطنية. نقول تغطية حتى لا نقول ترويجا مشبوها.
في سورية اليوم بات مبررا في زمن الحمّى المذهبية ان تقوم في هذا البلد دولة علوية، والذريعة قائمة: يريدون ان يقتلونا. وتتهاوى كل ادبيات الوحدة وشعارات الامة والعروبة وتتلاشى كل خطابات التحذير من الاستعمار الذي يريد ان يقسم بلادنا الى دويلات مذهبية، ننخرط في هذا المشروع ونحن نلعن الغرب واسرائيل.
وليس بعيدا ثمة من يريد ان يحدد للشعب السوري اولوياته. يريد له ان يسلم بالنظام الاستبدادي فقط لأن هناك شبهة تقول إن هذا النظام معاد لمخططات هذا الغرب ولاسرائيل. ولو افترضنا ثبوت هذه الشبهة، فمن قال ان الشعب السوري يقبل بمصادرة حقوقه السياسية والمواطنية في سبيل هذا العداء، ومن قال ان فلسطين ثمنها الاستبداد، والتحرير ثمنه مصادرة الدولة والمجتمع، بل من قال ان اولوية تحرير فلسطين تتقدم على حرية الشعوب… وأكثر من ذلك من قال ان فلسطين يمكن ان تنالها شعوب مكسورة ومقيَدة ومصادرة ومسلوبة الارادة.
انها حمَى المذهبية التي لا يمكن الحد من مخاطر النافخين بها في منطقتنا الا بالانحياز للقيم الانسانية والدينية ولقيم المواطنية. وكما قال امام البلاغة والمتقين في وصيته لولديه الحسن والحسين: “كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً”.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد