قبل يومين جمعتني الصدفة بأحد الشبان السوريين الآتين من مدينة حماه الى بيروت. الشاب الذي كانت معالم التأثر والارتباك بادية عليه، يستعد للمغادرة الى استراليا او الى ابعد نقطة عن سورية للالتحاق بأقارب له كانوا هجروا الوطن اثر احداث حماه عام 1982. لم يكن انتقاله الى لبنان يسيرا ولم يكن مستحيلا فهو لعمره البالغ 25 عاما كان شديد القلق من ان يتم اعتقاله بسبب سنّه او بتهمة كونه من مدينة ترمز الى المدن والبلدات العاصية على سلطة الاسد. لكنه وصل اخيرا الى بيروت، وإن بطرق اقتضت بعض “الفهلوة” من السائق المتنقل بطريقة غير شرعية، وباحتراف، بين البلدين الجارين، وببعض الحُفنات من الرشوة التي تفتح القلوب والحدود.
هو لم يدّعِ انه انخرط في الثورة، وان كانت ملامح الخوف من النظام السوري واساليبه تنضح من كلّ كلمة او التفاتة يقوم بها. تحدث عن قصف ليلي عنيف على المدينة في الآونة الاخيرة، وعن الحياة الطبيعية شبه المتوقفة فيها، حين تقع ليلا الى سلطة الثوار ونهارا تحت سلطة الامن السوري والمجموعات الخاصة في الجيش والنظام.
يقول إنّه خرج من المدينة بإلحاح من اهله، بعدما شاهدوا اقرانه الشبان اما اعتقلوا او قتلوا او خرجوا الى التخفي او الى خارج البلاد، في ما يشير الى ظاهرة متنامية لـ”مجهولي المصير”. وهؤلاء لا يعرف إذا كانوا في السجون او قتلوا او غادروا البلاد او انضموا الى الثوار.
“الجيش الحرّ” موجود في المدينة كما يقول، والفرق النظامية الخاصة موجودة، وهي من يقوم بعمليات الاعتقال العشوائي والمنظم. اما كيف يتم التمييز بين الطرفين المسلحين، فيقول صاحبنا انّ الناس يعرفون بعضهم. فالفرق التي تتكفل بمدينة حماه من قبل النظام صارت معروفة ليس من الزيّ فحسب، بل لهجة عناصرها التي ترمز الى المناطق الآتين منها. لم يقل انهم من الطائفة العلوية جهارا، لكنّ ذلك كان واضحا من كلامه.
يتحدث بسخرية عن المراقبين الدوليين الذين زاروا المدينة: “الناس صاروا حذرين من وجودهم لأن اي تواصل مباشر من قبلهم مع المراقبين، اذا صودف وجودهم النادر، تليه مباشرة عمليات اعتقال لكل من كان على مقربة منهم او حاول التحدث اليهم”.
الثقة بالمراقبين مفقودة لجهة فاعليتهم في الحد من عمليات القتل والاعتقال وتدمير البيوت والممتلكات. كما ان الثقة بالموقف الدولي وامكانية ان يخفف عن الشعب السوري ما يلقاه باتت شبه معدومة كما ينقل ابن حماه من اجواء الناس في المدينة. كما ان تقبل فكرة استمرار النظام الحالي غير واردة، وثمة اتجاه طائفي متنام بقوة يعززه اصرار “النظام” على التترّس بهويته الطائفية وزجّ العديد من ابناء الطائفة العلوية في ارتكابات لتزيد من التفاف ابناء الطائفة حوله.
في كل الاحوال ثمة تسليم بأن التغيير في سورية ليس قريبا، ولعل خطورة ما يرتكب في حق هذا البلد، هو ان الاطراف الدولية او الاقليمية تستثمر في عملية ادامة الصراع وتعليق التغيير الى اجل غير مسمى. ففي حين تبدي الادارة الاميركية اطمئنانها الى حتمية سقوط نظام البعث، ربما بسبب طبيعته المتكلسة وغير القابلة لأيّ تغيير فعلي، تستمر ايران في دعم “النظام” مدركة انه غير قابل للاستمرار ايضا ولكنها قادرة على تأخير انهياره.
الاستثمار الايراني والاميركي في سورية اليوم هو استثمار للازمة، ما يتيح للاميركيين، الذين صاروا داخل سورية عبر مجلس الامن، دورا اساسيا في ادارة الازمة وانهائها وما سيليها في التوقيت المناسب لهم، ويتيح لايران فرصة إعادة ترتيب اولوياتها السورية واللبنانية والسيطرة المياشرة على خطوط الامداد الى لبنان. وفي كلتا الحالين تراقب الادارة الاميركية توسع الشرخ العربي الايراني من جهة، والتراجع المستمر للنفوذ الايراني لدى السنّة من الجهة الأخرى. ولا تبدو ايران متضررة منه ما دامت تمتلك القدرة على استقطاب الشيعة العرب وبعض الاقليات بالخوف ومن دون كلفة.
ربما هذا يفسر ما يشاع اليوم في اوساط حزب الله عن أنّ الولي الفقيه السيد علي الخامنئي قال بحسم لبعض ممثليه من اللبنانيين، ردا على سؤال عن الخيارات البديلة في حال سقوط الرئيس بشار الاسد: “لا خيارات بديلة فكروا فقط كيف تدافعون عن الرئيس الاسد ونظامه”.
إشغال المنطقة بالصراع السني – الشيعي، والاعلاء من شأن المذهبيات وخصوصيتها، يمكن ان يوفرا الوظيفة التي اعتمدتها بعض الانظمة كل على طريقته، الا وهي تعليق المطالب بالحرية والديمقراطية على مشجب الصراع مع اسرائيل.
لكنّ المخيف في الشرخ السني -الشيعي ان الجميع يجد له الذرائع اوالمسوغات… باسم المقاومة والممانعة والاقليات حينا، وباسم الاعتدال والعروبة والاسلام والاكثرية، وصولا الى “الاميركان”.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد