في الهند اليوم معضلة حقيقية تتمثل في الإنفجارات السكانية الناجمة ليس عن تزايد معدلات المواليد بسبب تحسن الظروف الصحية وتوفر الخدمات الطبية والعلاجية، وإنما أيضا بسبب تحسن الإقتصاد وإرتفاع معدلات النمو السنوية (ما بين 7- 9 بالمئة خلال السنوات العشر الماضية)، وهو ما شجع الكثيرين من سكان الأرياف والمناطق النائية للنزوح إلى المدن الكبيرة بحثا عن فرص العمل المجزية، وأملا في تحسين أوضاعهم المعيشية (خلال السنوات الخمسة عشرة الماضية منذ شروع الهند في إصلاحاتها الإقتصادية نزح نحو مائة مليون نسمة، أي أكثر من إجمالي عدد سكان ألمانيا، من القرى إلى المدن).
وهكذا صارت كبريات المدن الهندية المعروفة، ولا سيما تلك التي برزت كقلاع تكنولوجية خلال السنوات القليلة الماضية، مكتظة عن بكرة أبيها إلى الدرجة التي صار معها البحث عن سكن لائق كالبحث عن إبرة صغيرة في كومة قش كبيرة. والملاحظ أن هجرة الأعداد الهائلة من سكان الأرياف إلى المدن لم تؤثر على القطاع الزراعي الهندي، بل صار هذا القطاع ينتج ستة أضعاف الناتج المفترض، محققا للبلاد نحو 6 تريليون دولار سنويا من تصدير الأرز والحبوب والبهارات والسكر والشاي والألبان والخضروات والفواكه.
ولعل أكبر دليل على صحة ما نقول حول الإنفجارات السكانية في الهند وتداعياتها هو ما تعيشه مدينة مثل “شيناي” (مدراس سابقا) الحاضنة لأكثر من 8 ملايين نسمة، والتي تعتبر رابع أكبر مدن البلاد، وقاعدة من قواعد صناعة البرمجيات الهندية. وعلى الرغم من كل الجهود الحكومية للسيطرة على التضخم السكاني في هذه المدينة، فإن مظاهر مثل زيادة رقعة المساكن العشوائية، والإختناقات المرورية، والإنقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي، يشعر بها كل زائر أو مقيم.
ومن هنا قرر عدد من شركات البلاد الخاصة تحمل مسئولياتها الوطنية، ومد يد العون للدولة لعلاج هذه المشكلة المؤرقة، فبادرت إلى فكرة تشييد مدينة عصرية جديدة ليسكنها الموظفون وأسرهم، مع توفير كل مستلزمات المعيشة اللائقة فيها من خدمات التسويق والتعليم والعلاج والترفيه والعبادة، إضافة إلى المسطحات الخضراء والبحيرات وملاهي الأطفال، ناهيك عن ربط تلك المدن بخدمات الكهرباء والمواصلات والإتصالات وشبكات النقل العام ومعامل معالجة مياه المجاري.
لقد وُصفتْ هذه العملية بـ”المشروع العملاق والرائد على مستوى العالم”، ليس لكونه جسد التعاون والتلاحم ما بين القطاعين الخاص والعام في أجمل صورة، وليس لأنه أوجد حلا جذريا لمشكلة مستعصية، وإنما أيضا لأنه سوف يعود بالفائدة على القطاعين معا، وسوف يجذب المزيد من الإستثمارات الأجنبية للبلاد (تــَواصل تدفق الإستثمارات الأجنبية إلى الهند بمعدل بليون دولار يوميا على مدى السنوات العشر الماضية).
ولعل السبب الأخير هو ما دفع شركة هندية خاصة رائدة كشركة “ماهيندرا” العاملة في مجالات مختلفة، إبتداء من إنتاج وتصدير المكائن الزراعية وإنتهاء بإنتاج الطائرات الخفيفة، إلى وضع يدها في يد شركة محلية أخرى كبيرة هي شركة “إنفوسيس” الموصوفة بـ “عملاق صناعة برمجيات الكمبيوتر”، والتي تحقق للهند إيرادات سنوية خيالية من تسويق منتجاتها في العالم، وذلك بهدف بناء مدينة عصرية نموذجية على مقربة من “شيناي” بتكلفة 620 مليون دولار ليسكنها نحو مائة ألف أسرة، مع تخصيص جزء منها لسكن موظفي الشركتين البالغ عددهم 12 ألفا، وعرض الباقي للبيع أو الإيجار.
ومنذ إطلاق هذا المشروع قبل بضع سنوات، تبين أنه صار يمّول نفسه بنفسه عبر الإيجارات العالية التي قدمتها شركات أجنبية مستثمرة في الهند مثل “بي إم دبليو” الألمانية، و “نيسان” اليابانية، و”جنرال إلكتريك” الإمريكية.
إن نجاح المشروع سالف الذكر شجع شركتي “ماهيندرا” و “إنفوسيس” على تكرار تجربتهما في أماكن أخرى من البلاد، فإختارتا ضواحي “جيبور” في شمال شرق الهند كمكان لبناء مدينة عصرية أخرى بالمواصفات السابقة. كما إختارتا أراض في ولايات “مهاراشترا” و”ماديا براديش” و “كارناتاكا” للإغراض نفسها، على أن تكتمل المشاريع كلها خلال خمس سنوات من الآن، علما بأن المساحة الإجمالية للمدن المراد بناؤها تصل إلى 750 كيلومتر مربع. وتقول مصادر الشركتين أن ما قامتا به في “شيناي” لم يكن سوى البداية، وإنهما يطمحان إلى بناء 20 مدينة عصرية في السنوات القادمة.
هكذا يغير الهنود صورة بلادهم بالعزيمة والإصرار والتخلي عن الجشع وحب إكتناز الأموال أوإنفاقها على التوافه الذي يسيطر على عقول الأثرياء ورجال المال والأعمال في البلاد النامية الأخرى، مؤمنين بأن زيادة رقعة الحواضر بخلق مدن متطورة وعصرية وفق خطط مدروسة ومحكمة هو خير للجميع، ومتمسكين بمبدأ أن “المدن الحديثة تولد ثروات مضاعفة على المدى البعيد”، هذا ناهيك عن أن العمل في مجمله رد لجمائل الوطن، وحماية له من الإحتقانات والتذمر في أوساط الطبقة الوسطى المتنامية.
وهذا الأمر، بطبيعة الحال، لم يكن ممكنا لولا وجود رؤية متقدمة عند القطاع الخاص الهندي مضمونها أن الهند التي كبرت كثيرا، بفضل الإصلاحات الإقتصادية أي منذ طلاقها للإشتراكية المقيدة وتبنيها لنهج الإقتصاد الحر في أوائل التسعينات من القرن الماضي، يجب أن تظل كبيرة وتواصل مسيرتها إلى الأمام، وتتجاوز كل أشكال التحديات والمعوقات، خصوصا وأن البلاد تملك المواهب والأفكار الخلاقة، والإمكانيات المتنوعة ماليا وتكنولوجيا وعلميا، فضلا عن أحلام شعبها وطموحهم في معدلات رخاء وإزدهار أعلى.
إن دور الدولة في الهند صار اليوم مقتصرا على التنسيق بين المشروعات الحالمة التي يضعها أمامها المخلصون من أثرياء البلاد ممن صاروا في السنوات الأخيرة أرقاما يشار إليها بالبنان في مختلف دول العالم، إبتداء من جزيرة موريشوس حيث توجد إستثمارات هندية معتبرة وإنتهاء ببريطانيا. فحينما ينجح هؤلاء في الإستحواد بالكامل على كبريات الشركات الصناعية التابعة لدولة “الراج” التي إستعمرت الهند وسرقت خيراتها على مدى قرون من الزمن، وينجحون في تطوير تلك الشركات بصورة أفضل من أصحابها الأصليين، فليس من المستحيل عليهم أن يواجهوا معضلات بلادهم الداخلية، ويتفانوا في إيجاد الحلول الخلاقة لها، ويبدعوا في مسائل التخطيط العمراني وتوليد الطاقة الرخيصة وغيرها من المسائل ذات الصلة ببناء المدن والحواضر الجديدة.
وفي هذا السياق من المهم إستحضار ما جرى في مدينة “بونا” الواقعة في ولاية “مهاراشترا”. ففي هذه المدينة التي لا تبعد عن مومباي (قاعدة الهند الإقتصادية وكبرى موانئها) كثيرا، والتي أحد أسباب إكتظاظها بالسكان هو تزايد عدد الجامعات ومعاهد العلم فيها من تلك الجاذبة للطلبة الأجانب من دول العالم الثالث، تم وضع خطة لبناء مدينة عصرية تبعد عن حدود المدينة القديمة بحوالي 30 كيلومترا، على أن يبدأ العمل في عام 2010 وينتهي في عام 2016 . في هذا المشروع إقتصر دور الدولة على تقديم التراخيص اللازمة للمستثمرين، ومنحهم أرضا من الأملاك العامة بمساحة 100 كيلومتر مربع (20 بالمئة من الكلفة الإجمالية)، فيما ضخ القطاع الخاص الهندي ممثلا بشركتي “بهارات فورج” و “تاتا موتورز” نحو بليون دولار من أجل تنفيذ المشروع وفق ما هو مخطط له.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh