الاغتيال الأخير ليس كغيره من أعمال الاغتيال. انه تحوّل نوعي في السلسلة. هو يستهدف فرط المعادلة الذهبية القائمة ضمن المؤسسة العسكرية والتي أمكن لهذه المؤسسة، استناداً لها، أن تحفظ البلاد في سنوات الأزمة الهيكلية والكيانية الثلاث الماضية، فلجمت حظوظ التناحر قياساً على تمادي أجواء التوتير والتعطيل والانشقاق، أو قياساً على الاشتباك الأمني المحصّل بالمداورة والابهام والالتباس (مسلسل الاغتيالات والتفجيرات، حرب تموز، موقعة نهر البارد).
تعني المعادلة الذهبية أن المؤسسة العسكرية قد «ترعى» في اطارها أثراً يأتيها من جهة «الشرق» وأثراً يأتيها من جهة الغرب، من دون أن تكون مضطرة للأخذ بأثر واحد دون آخر بشكل كلي ومطبق ولا رجعة فيه.
ما ينبغي وعيه اليوم والتصريح به هو أن هذه المعادلة الذهبية، على ضرورتها، صارت بحاجة الى شبكة حماية متكاملة، سياسياً وأمنياً، مدنياً وعسكرياً، وخصوصاً أن استهداف العميد الحاج مثّل استهدافاً للتوازن الذي يغمّز له بـ «شرق ـ غرب» داخل المؤسسة العسكرية.
تبرز الحاجة لاغناء المعادلة الذهبية وتحصينها. لا مناص من أن تتقيّد المؤسسة العسكرية بعقيدة قتالية ودفاعية تعي الخطر الاستراتيجي الذي تمثّله دولة اسرائيل على الكيان اللبناني. بيد أن شرط التقيّد هو حرص المؤسسة العسكرية على المبدأ الذي يشرّع وجودها كمؤسسة عسكرية في فضاء الدولة ـ الأمة، أي مبدأ حصرية تحكّم الدولة بمنظومة العنف الشرعي المنظّم، وثنائية توزّع المواطنين بين «مدنيين» و«عسكريين»، دون احتمال وجود طرف ثالث في هذه الشراكة. لأنه لو سلّمنا بطرف ثالث لا هو مدني ولا هو عسكري، فاما سنختاره من جمهرة المدنيين الذين يمتشقون السلاح، ويسمّون لأجل ذلك، اصطلاحاً، بـ«الميليشاويين»، واما سيأتينا من جمهرة من يفترض بهم خدمة الأمن بثياب الأمن، لكنهم بدلاً من ذلك يرتدون ثياباً مدنية، وهؤلاء هم «الأشباح» المنسلين من تراثنا المليء بالعيون وبالعسس، من الوشاة وكتاب التقارير، وينضم اليهم كذا أفّاق ولقيط.
ان لبنان منادى لصياغة الشراكة الحقيقية بين المدنيين والعسكريين. قبل ذلك لا يمكن الحديث عن مواطنية حقيقية. فاذا ما غابت الشراكة بين المدنيين وبين العسكريين، حضرت شراكة من نوع آخر هي التي تقوم بين ميليشاويين وأشباح الصغار والوشاية.
ما يحدث اليوم، بعد تمادي تعطيل عملية الاتيان بالعماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وبعد اغتيال العميد فرنسوا الحاج، هو أنه قد فرض على اللبنانيين الفصل الأكثر احتداماً في الأزمة: فاما المضي باتجاه يمهّد لشراكة المدنيين والعسكريين، واما تضخّم وانتشاء معادلة الميليشاويين والأشباح.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال «التنظير» لتحالف «سياسي» يبرم ضمناً أو جهراً بين العسكر وبين الاطار السياسي للحركة الاستقلالية. ان مثل هذا التحالف ممتنع، وتوهمه ضارّ في أقل تقدير، لأنه يمني الذات بأن ينضم العسكر الى المجتمع المدني وينخرط فيه، وهذا عبث ومحال.
بل ان المطلوب هو غير ذلك تماماً حتى يتيسّر للمجتمع المدني حماية المؤسسة العسكرية، والعكس بالعكس. ذلك أن كلاً من المجتمع المدني والمؤسسة العسكرية مهدّدين في بنيتهما ومستقبلهما من خلال استشراء ظاهرة «المجتمع المدني الديني المسلّح». قد تكون هذه الظاهرة خيراً في ذاتها أو شرّاً في ذاتها، لكن ذلك لا يهمّ، لأنها بالنسبة الى التركيبة اللبنانية تعدّ حالياً جسماً لا طاقة لهذه التركيبة على تحمّله، كما لا طاقة لهذه التركيبة على ترشيده.
تنبني هذه ظاهرة «المجتمع المدني الديني المسلّح» على خيارات أيديولوجية تنكر من حيث الأصل القسمة بين مدنيين وعسكريين، كما تنكر لزوم احتساب المؤسسات والحركات الدينية من ضمن المدنيين. تنبني هذه الظاهرة على قسمة أخرى بين مجاهدين وقاعدين، ومن ثم تقسيم القاعدين هؤلاء بين فئة تناصر المجاهدين وبين فئة تذم صنيعهم.
الصراع الدائر فوق أرض لبنان اليوم هو اذاً صراع بين منظومتين مختلفتين، واحدة تقسّم السكّان بين مدنيين وعسكريين، فينهض على أساس هذا التقسيم امكان المواطنية، وواحدة تقسّم السكّان استناداً الى عناوينهم في الدار الآخرة، بحيث تصير «الديموقراطية التوافقية» في عرفها ديموقراطية بين أهل الجنّة وبين أهل النار، وبالتالي شكلاً من أشكال صراع أهل الجنّة ضد أهل النار.
فمن يقنع هؤلاء الناس أن الفرز على أساس الجنّة والنّار ليس من مهام الحياة الدنيا، وأن رهن التركيبة اللبنانية بهذا الفرز هو شكل من أشكال فرطها؟! من يقنع هؤلاء الناس بفضيلة توزّعهم هم أيضاً بين مدنيين وعسكريين؟
(السفير)