ثمة ارتياح واضح يمكن ان تراه على وجوه الكثيرين من أبناء المخيم الفلسطيني في عين الحلوة، هذه المرة لمس أبناء المخيم ان المصالحات بين القوى الاسلامية ومنظمة التحرير الفلسطينية جدية خلافا للمرات السابقة التي كانت بمثابة رفع عتب ورمي كل طرف الكرة في ملعب الآخر.
والناس عادة في المخيم لا تطمئن إلى المواقف السياسية الصادرة عن هذه القوى حين تتحدث عن حفظ امن المخيم وترتيب اوضاعه فيما هي تمارس نقيضه على الارض. هذه المرة ثمة تفاؤل، والسبب ميداني وهو إزالة الدشم بعد اكثر من 15 عاما على انشائها، دشم كانت تفصل بين حيّين او قل بين شارعين داخل المخيم، حي البركسات الذي تسيطر عليه حركة فتح، وحي الطوارئ الذي تتمركز فيه عصبة الانصار، الفصيل الاسلامي الاقوى في المخيم.
واكب هذه الاجراءات الميدانية “طاولة حوار”، سياسيا جمعت الى ممثلي الفصائل الفلسطينية في المخيم ممثلي الهيئات المدنية وعددا من الفعاليات، والخلاصة: تثبيت الوضع الجديد والانطلاق الى معالجة قضايا تتصل بالحياة اليومية متداخلة الاتجاهات بين فقر واحباط، بين انتماء وارتباط، وتحديدا تنظيم اوضاع اسواق المخيم وحركة السير وتنظيم مواقف السيارات، وهي عناوين شكلت دوما مفاتيح تفجير عسكري في المخيم.
اذا سألت مواطنا فلسطينيا اليوم عن اكثر ما يسيء اليه داخل المخيم، كان جوابه من دون تردد: السلاح. لم يعد الفلسطيني عموما يرى في سلاح المخيم وظيفة تنافس الاقتتال الداخلي. مرد هذا القول ان السلاح المنتشر داخل المخيم حصد المئات من ارواح الفلسطينيين خلال العقدين الماضيين من دون ان يكون له اي دور على صعيد مواجهة الاحتلال او تحرير فلسطين. هو سلاح اقليمي بدرجة كبيرة إستثمر من قبل بعض المجموعات للعبث بأمن المخيم في معظم الاحيان، وأمن لبنان احيانا.
ما الذي غير الاحوال واحدث هذا التحول؟ وكيف نجح الحوار لأول مرة بين فصائل المخيم؟
الى المناخ الشعبي في المخيم المتململ من هذا السلاح ووظيفته، ثمة خوف تنامى في الآونة الاخيرة لدى البعض، وتحديدا “عصبة الانصار” وحركة فتح، من ان التوتر بينهما قد يفتح الباب امام تسلل بعض العناصر المتشددة الراغبة في استخدام وجودها في المخيم كقاعدة انطلاق، مستثمرة مناخ الفتنة السنية – الشيعية الذي يتمدد في المنطقة وصولا الى لبنان.
تلَمّس هذان الفريقان الفلسطينيان خطر ان يتحول المخيم الى ساحة تصفية حسابات على خلفية ما يجري في سورية ولبنان، في ظلّ خطوات توجسا منها شرا، اهمها دخول عناصر فلسطينية آتية من دمشق تحت لواء “القيادة العامة” بزعامة احمد جبريل، وغيرها من المجموعات المعروفة بولائها للنظام السوري والتي اثار قدومها تساؤلات حول الدور الموكل اليها في المخيمات، علما ان هذه المجموعات يتعاظم حضورها في مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا في بيروت و”البداوي” في الشمال.
الفلسطينيون عموما ينسجمون اكثر من اي وقت مضى مع معايير الدولة ويريدون للمخيم ان يكون تحت سقف القانون والعدالة، وما جرى في “عين الحلوة” كان بفعل ارادة ذاتية، لم يشترك بإنضاجها اي طرف لبناني، لكن لم يقم اي طرف لبناني فاعل، إن على المستوى الرسمي أو حتى في الاطار الشيعي او السني، بالتدخل لمنع قطافها فلسطينيا.
لقد حققت خطوة الاتفاق الفتحاوي ـ الاسلامي وازالة الدشم ثم طاولة الحوار الفلسطينية نتائج ملموسة على الارض، وخطت بثقة نحو تحصين المخيم امنيا وسياسيا في مرحلة دقيقة وحساسة. فيما “طاولة الحوار” اللبنانية حققت قبل يومين اجتماع الفرقاء اللبنانيين حولها فقط. لكنها بدت، من خلال المناخ المسيطر على توجهات فرقائها الفاعلين، متراجعة من طموح استنهاض الدولة، الى صيغة المخيم. المخيم (بمعنى الإنفلات من عقال الدولة وضوابطها). بحيث بدت طاولة الحوار تعمّق وتكثّف صيغة الثلاثيات لحفظ سيادة الوطن. بدا هذا واضحا من خلال النأي بالدولة عن مقاربة قضية السلاح. وعبّر عن هذا النأي إستجداء رئيس الجمهورية الغطاء السياسي من اعضاء هيئة الحوار لتدخل الجيش حيث يجب لحفظ الامن والحدود.
هكذا وبعد المعادلة الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة، بعمامة ايرانية سورية ثمة ثلاثية مقابلة تجد معادلا لها على الارض شمالا: الأمن الداخلي والشعب ومقاومة النظام السوري بعقال سعودي – قطري وسلفي.
وعلى عكس ما يسود هذه الايام لبنانيا من اقامة المتاريس والدشم، يستيقط المخيم في لحظة توافقية على “فكرة دولة”، بينما يتّجه لبنان أكثر فأكثر ليصير مخيما لكلّ طائفة فيه فصيل وشارع تحتاني وفوقاني.
كاتب لبناني
alyalamine@gmail.com
البلد