رمزت الخيمة، في شائع الوعي العربيّ، الى محنة الشعب الفلسطينيّ في 1948. فالفلسطينيّون، كما هو معروف جيّداً، خسروا بلدهم وبيوتهم ولجأوا الى البلدان المجاورة التي أنزلتهم الخيم. ومن الخيم كان المخيّم الذي غدا وحدة السكن الفلسطينيّ في الشتات المجاور وبؤرته.
لم تكن الإقامة في المخيّم عملاً اختياريّاً بطبيعة الحال. فالظلم والقهر هما ما أنتج المخيّم وما منحاه هويّته النضاليّة ومعناه الذي اخترق الأغاني والقصائد، القصص والفولكلور.
لكننا ربما استطعنا ان نلمس مآل التعفّن الذي انتهت اليه الراديكاليّات العربيّة من خلال معنيي المخيّم: ذاك الفلسطينيّ الذي ولد في 1948 وذاك البيروتيّ الذي ولد قبل عام.
فالأوّل فُرض فرضاً على من صاروا أهله، فيما الثاني حصل طوعاً واختياراً: قوى «سياسيّة» وأهليّة شاءت ان تُخرج نفسها من بيوتها وتقيم في مخيّم، وأن تَخرج من المدينة، ثم تدخلها عنوة، دخول فاتح غير مدينيّ، يغرز المخيّم غرزاً في لحم المدينة كما يُغرز الخنجر في الصدر، مثلما شاءت أن ترسم نفسها ضدّاً ونقيضاً لدورة الاقتصاد والتجارة الوطنيّين.
طبعاً ليس كلّ ما في هذه المدينة، وما في هذا الاقتصاد، يستحقّ الثناء. غير أن واجب القادم الى المدينة أن ينصت إليها ويتعلّم منها، تماماً كما يتقيّد المنتسب الى مدرسة بنُظمها، فيما يكون واجب المدينة، وبالقدر نفسه، استقبال هذا الوافد والانكباب على تعليمه ودمجه، وهو ما يفعله المعلّم النزيه. وفي الحالات جميعاً فإن القطع مع المدينة والاقتصاد ومقاطعتهما طوعاً وتطوّعاً لا يفعلان إلا تأخير إصلاحهما ودفع الإصلاح عموماً الى مكانة متردّية في الأولويّات. ذاك ان من يحيل قلب المدينة مخيّماً إنما يعلن نفسه خصماً للمدينة برمّتها. وهو اذ ينقل ذاته بذاته من موقع المعارض الشرعيّ الى موقع المناضل ضدّ المدينة، يكون قد اختار التواطؤ مع بؤسه وهامشيّته. ففي البيئة هذه عبثاً يُبحث عن صورة أرقى للمدينة، أو عن تصوّر أفضل للاقتصاد، إذ الرغبة، هنا، من طبيعة تدميريّة تتّجه الى إزالة القائم من غير ان تكون معنيّة بما يقوم بعده. فإذا ما ابتدأت حرب السنتين بتدمير قلب بيروت، فإنها أنشأت معادلة تربط التوتّر بدرجة أو أخرى من هذا التدمير. وما إحالة القلب ذاك الى مخيّم سوى نسخة مخفّفة من إحالته، أواسط السبعينات، الى ركام.
وفي هذه الغضون، ومنذ 1969 و «اتفاق القاهرة»، كانت ولدت لـ «المخيّم» وظيفة أخرى هي السلاح، والسلاح المقصود لا يزيل غبناً اجتماعيّاً نازلاً بسكانه، وهو غبن لا يُمارى فيه، كما انه، بالطبع، لا يحرّر فلسطين. أما لبّ الوظيفة تلك فلا تتعدّى تصديع وحدة السلطة وإقامة سلطة موازية لها.
وكان ضرب الدولة البادئ يومذاك باسم المخيّم مقدّمة لضرب المدينة، بعد سنوات قليلة، باسم «حزام البؤس»، أي المخيّم في صياغة أخرى.
مذّاك والروافد تصبّ في عدمٍ يزدهي بأسماء كثيرة، واحد من أسمائه استيلاء «فتح الإسلام» على مخيّم نهر البارد وصولاً الى تدميره وتهجير ساكنيه، وواحد من أسمائه استيلاء «حزب الله» وخيمه على المدينة وإحالتها مكاناً للأشباح. وفي الحالات كلّها تُختتم حقبة من تاريخنا على هذا النحو، حقبةٌ كان الهدف في بدايتها تحويل المخيّمات مدناً، فلما لم يُكتب النجاح للمشروع هذا، بدا البديل الوحيد جعل المدن مخيّمات.
(الحياة)