القادرون من اللبنانيين على تصور مستقيم لما يسمى الشأن العام، يفتقدون الدولة، أو صورة مأمولة لها، في هذه الأيام. وهم، في وحشة هذا الافتقاد، يعمدون، زرافات أو وحداناً، إلى طرح مسائل الإصلاح السياسي في بلادهم، دفعة واحدة. ذاك أمر يكرره هؤلاء كلما اعترضت حياتهم ـ وهي في اضطراب شبه دائم ـ أزمة كبرى يشعرون معها بعجز دولتهم القائمة عن إدارة دفة البلاد فيها أو يخشون على هذه الدولة من الانهيار (أو ما يشبهه) تحت وطأة صدماتها. إذ ذاك يستشري الخوف في نفوسهم من انتهاء مقاليد البلاد إلى أيدي الفوضى وإلى تيار عنف دموي لم تزل صوره جلية في الذاكرة الشخصية لمعظمهم.
من نحو ثلاثة أعوام، عاد هذا الخوف إلى الاستشراء بعد أن كان إلى تراجع مدة عقد ونصف عقد تقريباً. ومن نحو ثلاثة أعوام، تزداد خشية كثرة من اللبنانيين من الوقوع، على رغم أنوفهم، في حرب داخلية، ويبدون حائرين في كيفية التفادي منها. ومن سنة وبضعة أشهر، تبدو الحرب الخارجية التي فرضت على بلادهم وكأنها تستجمع عواقبها لتنقض عليهم مجدداً ـ أو لتفرض عليهم الانقضاض بعضهم على بعض ـ في صورة حرب داخلية.
في دوامة هذه الخشية، يعود الإشكال المتصل بالدولة، بقوة مجددة، إلى بساط البحث… تعود الدولة «حبيبة» لمن يرغبون في معنى جامع للانتماء إلى لبنان، على ما زعم شاعر منهم. وهذا، في واقعه، حب لسلطة تتمكن من الحكم فعلاً، أي من الإمساك فعلاً بمقاليد البلاد عبر تدبير المشكلات الكبيرة والصغيرة وعبر تدبر المخارج من الأزمات، من غير أن يبدو الحكم مجرد حيلة اجترحتها طوائف للتحكم بطوائف…
كان هذا «الحب» (وقد شهدنا حالة من حالاته في أواخر حرب 1975ـ 1990) قد استيقظ مجدداً في الحمى «الاستقلالية» التي واكبت الخروج السوري من البلاد. ثم إنه أخذ يحتدم مع تجمّع النذر المشيرة إلى الاحتمال الأخطر: وهو أن يكون اللبنانيون قد أصبحوا عاجزين (أو كانوا كذلك من غير أن يدروا) عن تحصيل «دولة» لأنفسهم أي عن حكم أنفسهم بأنفسهم. فإن هذا الاحتمال كان قد أخذ يلوح في أفق أزمة النظام التي بسطت ظلها على البلاد مع الخروج السوري ثم عبرت عن نفسها، على نحو جد فاقع، بذهاب البلاد إلى حرب مهولة، من غير أن تسأل «الدولة» رأيها في ذلك.
وذاك أن هذا المعنى الجامع أصبح يبدو عصياً على التحصيل بفعل الشعور أن المطروح على البلاد من خيارات سياسية كبرى قد شق، من جديد، خنادق بعيدة الغور، لا بين القوى السياسية الكبرى في البلاد وحسب، بل أيضاً بين الجماعات الأساسية التي يتشكل منها المجتمع اللبناني وتمسك تلك القوى بمقاليد تمثيلها في مؤسسات النظام السياسي. فباتت الخطوة من هذه الجهة نحو تلك أو من تلك نحو هذه مسكونة بمخافة سقوط الجماعة كلها وتضعضع مقامها من البلاد بعد تردي مقام من يمثلها في الصيغة السياسية. هذا التعذر الجديد لما يطلق عليه بعض محللي نظامنا اسم «التسوية» أو «التوافق» (ويعتبرونه إكسير حياة البلاد والنظام) ليس مجرد تكرار لأزمات كبرى فائتة شهدتها البلاد. وإنما هو محطة (نرجح أنها الأخيرة) في تاريخ هو تاريخ الطائفية السياسية ونظامها.
وذاك أن لهذه الطائفية «تاريخاً» بأقوى معاني الكلمة: أي بمعنى امتناع الإعادة في سياق تكويني ـ حدثي يبدأ من بداية ويتجه نحو نهاية . فإذا وجد الشبه (وهو موجود) بين أزمة وأخرى لجهة التشادّ بين قوى طائفية اجتماعية متوثبة وأخرى متشبثة ولجهة انضواء الأزمة في مجابهة إقليمية دولية واستقواء أطرافها المتقابل بأقطاب تلك المجابهة، الخ.، فإن الشبه مفتقد بين الأزمة وسابقاتها لجهة التكوين السياسي الاجتماعي للطوائف وما يليه من إمكانات ومن مطامح وقابليات تتعلق بالصيغة السياسية ولجهة الموازين المتحولة للنظام برمته ولجهة خروجه قادراً أو غير قادر على سياسة البلاد وحكمها في مرحلة مقبلة ولجهة الميسور من شروط مزكية، في الداخل وفي الخارج، لهذه القدرة ـ إذا وجدت ـ أو من أخرى مبددة لها في أقرب الآجال… واللبنانيون ـ بمن فيهم المؤرخون ـ قل أن نظروا إلى نظامهم بهذه العين. فمن وقع منهم على بداية لهذا النظام لم ينظر إلى شروط استقراره أو استمراره ولا إلى تجمع النذر بنهايته. ومن بشر بهذه النهاية فعل، في أكثر الحالات، لأن النظام لا يرضيه (والسخط يسهل التبكير إلى اجتراح النهايات) ولم يفعل لأن النهاية ـ مرغوبة كانت أم مرهوبة ـ أصبحت مقروءة، فعلاً، في الوقائع.
عليه كان أخذ اللبنانيين أنفسهم بالحزم المناسب لحالتهم يفرض طرح أسئلة مزعجة جداً تبعدهم عن التسليم بالصيغة العفوية للسؤال الذي يجمل مشكل الدولة كلما طرح: أية دولة يريد اللبنانيون؟ فإنما توجد، في الحالة اللبنانية، على التحديد، أسئلة أخرى لا يستقيم طرح هذا السؤال دون طرحها. مَن من اللبنانيين يريد «تلك» الدولة فعلاً؟ بأية قوى فاعلة في البلاد تتمثل هذه الإرادة وتحوز إمكاناً للتحقق، فتكون «إرادة» فعلاً، لا مجرد «أمنية»؟ مَن هم «اللبنانيون»، أصلاً، حتى يجوز افتراض هذه الإرادة فيهم؟ هل يوجد «لبنانيون» جامعون لشرائط إرادة بهذا العموم هي إرادة الدولة ذات السيادة… أي إرادة سيادة القانون (وهو هنا الدستور، أولاً) بما هو حد لسيادة النوازع «النابذة»، من الداخل والخارج، في تدبير الشؤون الوطنية؟ من هم «اللبنانيون»، بهذا المعنى، وأين هم من «القدرة» على الإصلاح السياسي بما هي قدرة على جعل «حبيبتهم الدولة» موضوعاً لإرادة ثم واقعاً لا موضوعاً لمحض الغزل؟… فإن لم يكن هؤلاء «اللبنانيون» موجودين فكيف يوجدون؟ وإن كانوا قلة عاجزة فكيف يصيرون كثرة فاعلة؟ وهل من سبيل إلى ذلك أصلاً؟
من سنة ,2002 جهدتُ في المقالة التي أدرجها نواف سلام في كتاب (خيارات للبنان)، الصادر في تموز ,2004 عشية تمديد الولاية الرئاسية، ألا أنسى هذه الأسئلة القصوى… وكانت المقالة، في الأصل، ورقة وضعتها بالفرنسية وألقيتها في مؤتمر بيروتي انعقد في أيار ,2002 أي قبل صدور الكتاب المذكور وانطلاق قطار المصائب بنيف وسنتين. ثم إنها نشرت، بالإنكليزية، بصيغة أولى غير مستكملة، في كتاب آخر، صدر في فرانكفورت في سنة .2003 جهدت إذن أن أتخذ الأسئلة القصوى مرجعاً لأسئلة أخرى أقرب مدخلاً إلى موضوع الإصلاح السياسي وفكرة الدولة: إلى تطبيق اتفاق الطائف والخروج من الطائفية السياسية، إلى تكوين المجتمع السياسي الراهن وإمكان اضطلاعه بمهام الإصلاح السياسي، إلى كيفية إنشاء مصدر حسي (أي اجتماعي ـ سياسي، لا نظري أو دستوري وحسب) لشرعية السلطة المركزية وشرعية مركزيتها تحديداً، إلى تعذر فصل السلطات ما دام رؤوسها يمثلون طوائف متشاركة فيها جميعاً، إلى الأدوار الخارجية في تحديد الأحجام السياسية والمالية والعسكرية للقوى السياسية الطائفية وما يمثله ذلك من تحصين للطائفية السياسية بالطائفية الاجتماعية ومن حد مضروب للنمو الديموقراطي لقوى الإصلاح ومن دفع إلى تمديد أزمة النظام المتمادية وتصعيدها حتى الانفجار أو الانهيار…
(*) خلاصة تقديم لورقة للكاتب سبق نشرها في كتاب (خيارات للبنان)، إشراف نواف سلام، دار النهار للنشر، بيروت ,2004 وذلك تحت عنوان «الطائفية: ملامح لإصلاح معلن». وقد أعد هذا التقديم لندوة عقدت في مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية حول موضوع الإصلاح في لبنان، وذلك في 3 كانون الأول .2007
(السفير)