في أوطاننا الإسلامية والعربية ما يزال الشيعة في بعضها يتعرضون لسياسات التمييز والتهميش. يقول الشيعة عامة وخاصة، أنهم على الدوام مهمشون لولائهم آل بيت النبي (ص)، إلا أن للحقيقة وجهاً آخر على ما أظن. لا بد أن للشيعة بعض العقائد والأحكام التي تجعلهم غير قادرين على التفاعل الايجابي مع حكومات البلدان التي يقطنوها فضلا عن الأغلبية السكانية من المسلمين السنة. إن قيم المواطنة والحقوق غائبة عن الثقافة الدينية والوعي الديني الشيعي والسني على السواء وعوضاً عنها تسيطر القيم الدينية المبنية على المواقف المسبقة والتصنيفات العقائدية المتسمة بالتعنت وقذف الآخر المخالف.
لقد قرأت في بعض التراث الشيعي الكثير من الفتاوى والمواقف والآراء التي تتحفظ على التعامل مع “السلطان” والأكثرية السنية، وتصف الأكثرية بالمخالف والجمهور والعامة، وقد انعكست هذه المواقف السلبية على علاقة الشيعة مع الأكثرية الإسلامية التي تنتمي إليها الأغلبية الساحقة من حكومات الدول العربية والإسلامية.
لا شك أن خطابنا الاجتماعي تشوبه نبرة دينية عالية جدا، تبتعد عن القيم المعاصرة والمفاهيم الإنسانية المشتركة لتغلب على حياتنا الاجتماعية وعلاقتنا بالآخرين القيم العقائدية المتسمة بالتنازعية والمشاحنة في اغلب الأحيان. إن الخلاف والاختلاف بين الشيعة والسنة ليس وليد فترة زمنية وإنما هو صراع تناقضي تضادي مستمر منذ أكثر من ألف عام. إن العلاقة بين الأقلية الشيعية والأكثرية السنية وفي مقدمتها مؤسسات الدولة إذا ما كانت ذات منحى عقائدي، فإن الخلافات والصراعات المشحونة بالعنف الدموي وفتاوى التكفير والاستبعاد والاستنقاص والتحفظ ستكون حاضرة بين الطرفين بما يجعل الأغلبية تضطهد الأقلية، لتكون العلاقة توجساً دائماً وعداء مستمراً تغذيها النبرة الدينية التصادمية الحاضرة دائما في كل موقف ومعترك. لذلك عمدت الدول المتقدمة إلى صياغة قواعد جديدة للعلاقة ما بين الطوائف الدينية والسياسية والاجتماعية تتمثل في دستور يتجاوز الحالة الدينية التي يغلب عليها النزاع والمشاحنة ويتصف أتباعها بالنزعات النفسية المعقدة. وقد نجح الغرب في ذلك واستطاع القفز على المعطيات الدينية والتاريخية وخلق واقع جديد متصف بالتعددية والانفتاح وحول القيم الأخلاقية والإنسانية إلى قوانين ملزمة للجميع، الأمر الذي ساهم بفاعلية في دفع شعوب الغرب نحو التطور والارتقاء على كافة الأصعدة بعدما جمدت الصراعات الدينية عبر تحييد الجماعات الدينية المتطرفة وعزلها دستوريا.
في بلادنا العربية والإسلامية ومنها المجتمعات الشيعية في المملكة السعودية بالقطيف والاحساء وغيرها تبقى العلاقة ما بين الأكثرية السنية بما فيها مؤسسات الدولة تستند على المفاهيم الدينية التقليدية، والحالة الدينية في اغلبها وأعمها تصادمية خلافية، مما جعل العلاقة بين الشيعية والسنة دائما متوترة وغير قابلة للانتقال لمرحلة جديدة. ذلك أن القواعد التي تستند عليها مبنية على أساس الدين، وكلاه عند الفريقين تعارضي تضادي. كنت قد استمعت إلى احد المشايخ وهو ينتقد موظفي الجمارك في احد المنافذ وكيف أن الموظف صادر منه كتاباُ في تفسير القران، وعندما سأله لماذا تصادر كتابي وهو مجرد تفسير للقران؟ قال أن واجبي الديني والأخلاقي يحتم علي مصادرته لان من كتبه من فرقة ضالة! قلت للرجل المعمم : لو انك مكانه وفي موضع القوة والسلطة لحتم عليك واجبك الديني أن تفعل ما فعل! فتكليفك الشرعي يأمرك بمحاربة السلفيين والوهابين وعدم نشر مذهبهم، ومثلما ينظرون ألينا على أننا أتباع مذهب فاسد فإننا ننظر لهم بنفس المنظار. كل ما في الأمر أنهم يمتلكون السلطة ونحن لا نمتلكها. كنت قد أهديت مجموعة من الشرائط لإحدى المكتبات، إلا أن القائمين على المكتبة رفضوا نسخها وتوزيعها وكان السبب أن محتوياتها لا تتفق مع توجهاتهم الدينية رغم كونها أخلاقية الموضوع ودينية النزعة!
لا يمكن من خلال الأسس الدينية تأسيس علاقة ما بين الأكثرية والأقلية بعيدة عن الطائفية والتصادم. لا بد لأجل إنشاء منظومة وطنية حية وناهضة صياغة قوانين كلية تتجاوز الأبعاد الدينية والمذهبية. في الولايات المتحدة لم تتمكن أجهزة الاستخبارات من إحصاء دقيق لعدد المسلمين لكون المستندات الثبوتية للمواطنين لا تشير إلى الدين أو القومية، ولا يعيش المسلمون في إحياء ومدن متراصة وإنما في وحدات سكنية بعيدة عن بعضها البعض في اغلب الأحيان وذلك لانفتاح تلك المجتمعات وعدم حاجة الأقليات والجاليات لإنشاء إحياء خاصة بها على النقيض تماما من مجتمعاتنا الإسلامية.
مثلما يمارس ضد الشيعة التمييز والطائفية، فأنهم في المقابل يتعاملون مع حكوماتهم والأغلبية السنية على أسس من التمييز ولكن من منطلق الضعف واستحكام عقدة المظلومية في الذهنية العامة والتركيبة النفسية الجماعية. عندما قررت أمانة المنطقة الشرقية تشييد جسر بين بلدة دارين بجزيرة تاروت ومدينة الدمام قال العامة من الشيعة في مجالسهم ودواوينهم بان الهدف منه ذو أبعاد طائفية! لا يمكن إنكار التمييز الطائفي الذي يتعرض له الشيعة على كل حال ولكن لا بد أن يدركوا أنهم طائفيين أيضا. فالتدين التقليدي السائد ليس سوى مجموعة من التناقضات والتعاليم التصادمية ذات النزعة الوثوقية المظلمة. عندما أجريت انتخابات المجلس البلدي في القطيف والاحساء اختار المواطنون الشيعة مرشحين من طائفتهم وفقا لأسس دينية وطائفية بعيدا عن المفاهيم الوطنية بالمقابل عندما عينت الحكومة الأعضاء الباقين اختارت أعضاء من طائفتها أيضا! إن سياسة التمييز الطائفي في تصوري ليست سوى صراع ديني امتدادي خفي يمارس بصمت بين طائفتين متنازعتين يستحكم في كلاهما روح العداء والبغضاء منذ مئات السنين. وواقع الحال آن هناك أغلبية مسيطرة وهم السنة، وأقلية مسيطر عليها وهم الشيعة، ومن البديهي أن الأكثرية تمتلك كافة مقومات القوة بما يكفي للسيطرة على الأقلية.
قبل عدة أيام أقدمت الحكومة السعودية ممثلة في أجهزة الأمن والبلدية والمحافظة على إزالة مصلى العيد في بلدة العوامية بالقطيف. هذا المصلى شيدته جماعة دينية معروفة بتشددها، هذه الجماعة لم تترك تيارا في الساحة الشيعية إلا وخاضت معه صراعا دينيا علنيا. فصلاتها مع التيارين الإصلاحي والتقليدي مقطوعة ومع بقية التيارات على غير ما يرام، وترفض إقامة علاقة مع السلطة على غرار التيارات الأخرى بذرائع دينية ومذهبية. إن هذه المواقف المتشددة لهذه الجماعة هو الذي دفع بأصحاب القرار والسيادة اتخاذ مثل هذا القرار، بعدما أقفلت هذه الجماعة كافة سبل الحوار والحل، يقول احد مسئولي بلدية القطيف إن الجهات المختصة تحاول منذ أكثر من سنة ونصف حل هذه المشكلة إلا أن القائمين على المصلى يرفضون ويريدون بقائه كأمر واقع! إن عناد السلطة ومواجهتها بهذه الطريقة والكيفية ليس من الحكمة في شي. إن تشييد مبنى على ارض عامة ومحاولة فرضه كأمر واقع وأنت غير قادر على ذلك ومتكئ فقط على سلطتك الدينية ليست سوى معركة خاسرة بمختلف الجوانب والأوجه. فلنفترض إن الأرض التي إنشئ عليها المصلّى ارض وقفية رغم عدم وجود مستند قانوني، أو ليس البناء بحاجة إلى موافقة حكومية؟ أو ليس من حق السلطة أن يكون لها وجه احترام وتقدير، شئنا أو أبينا، رضينا أم كرهنا، لأنها أمر واقع مفروض لا محال ووجوده لا بد منه حفظا للمال والعرض والنفس؟ أو ليس من الحكمة العمل بالأنظمة السارية رغم إجحافها بحقوق الأقلية عوضا من خوض مواجهة خاسرة معروفة نتائجها سلفا؟ خاصة وان الطائفة الشيعة في هذا الفترة وعلى الأقل في القطيف يمكنها بناء مساجدها وحسينياتها بسهولة ومرونة قياسا على الفترات اللاحقة. إلا أن النبرة الدينية التصادمية متغلغلة في ثقافتنا الجماعية، وخاسرها الأكبر الأمة بطوائفها المتعددة.
توالت أنباء أن النساء بكين على هذا المصلى، وانه لإحساس ديني جميل ولكن هلا بكيتن على حقوقكن الإنسانية والدينية والاجتماعية والقانونية المسلوبة منكن من قبل الدينيين الحاكمين؟ وقبل فترة وجيزة طالبت أكثر من300 امرأة السماح لهن بحضور صلاة الجمعة في احد المساجد بالقطيف، وانه لحق ديني خالص.. ولكن هل من الممكن أن تطالب هؤلاء النساء بحقوقهن المسلوبة وإنسانيتهن المنتهكة وكرامتهن المسحوقة بنفس الوتيرة؟ إن واقع المرأة يرثى له بكل المعايير والمقاييس!
أزيل المصلى، وكانت ازالتة نتيجة معركة خاسرة خاضتها هذه الجماعة الدينية، والضحية هو المجتمع الخاضع للقيم الدينية التقليدية التي يبثها الدينيون من خلال وسائلها إعلامهم المختلفة.
إن الشيعة والسنة أقليات دينية ومذهبية في الغرب. ولكن هل سمع أحدا أن الشيعة أو السنة يتعرضون للاضطهاد والتميز والحرمان من الحقوق في إحدى البلدان الغربية؟ ذلك أن تلك البلدان لا تتعامل مع موطنيها على أسس دينية ثبت إخفاقها في التأسيس لمجتمع مدني مسالم. ومن الملاحظ أن البلدان العربية التي لا تسيطر عليها الجماعات الدينية بشكل مؤثر وفاعل، بعيدة كثيرا عن التوترات الطائفية والنزاعات المذهبية والحس المذهبي غير نشط في الحياة اليومية للمواطنين.
ستبقى التوترات الطائفية في بلادنا وبقية البلدان الإسلامية دائمة وحاضرة ما دام التدين التصادمي جاثما وحاكما على القلوب والعقول. فان امسك بالسلطة سنة سيضطهدون الشيعة بعناوين دينية متعددة تستند للإرث التاريخي البائس بين الطائفتين. وان قبض على السلطة شيعة سيمارسون سياسات التميز ضد السنة كذلك كردة فعل على مسلسل مستمر منذ مئات السنين وهكذا دواليك في صراعات لا أمد لها، تكون ضحيتها الشعوب الإسلامية التائقة للحرية والعدالة. إن وضع أسس جديدة لحياتنا تحيد التعاليم الدينية التضادية وتجعل السيادة للنظم المدنية والتشريعات القانونية الحديثة المبنية على أسس المواطنة وروح الانتماء للأمة والوطن القطري، كفيلة يشل فاعلية الجماعات المتشددة من كافة الأطراف وتحييدها بما يكفل وحدة وطنية بعيدة عن المفاهيم والعقائد الدينية التي تنظر للآخر نظرة عداء وإقصاء وتهميش وازدراء. إن مجتمعانا تسيطر عليها القوى الدينية في كافة مستويات السلطة والتأثير، سواء كان سنية أو شيعية، وستكابد نتائج الخلافات الجوفاء والطائفيات المتحجرة والقيم الرجعية وآثار سياسات التمييز والقهر، في مسلسل لا نهاية له، سيقضي على البقية الباقية من إنسانيتنا ونزعاتنا البشرية المضيئة. يا ترى هل هناك ثمة أمل في أن نفيق من سباتنا ونعي الكارثة الحضارية التي نعيشها؟ هل من الممكن في يوم ما أن نبني حياتنا على أسس وقيم إنسانية نبيلة يكون محورها وأساسها وركنها الإنسان بعيدا عن دينه ومذهبه ولونه وجنسه؟
raedqassem@hotmail.com
* السعودية