عام 1968، دخل لبنان في مرحلة المواجهة الحاسمة بين السلطة الشهابية والحلف الثلاثي. خاض الزعماء الموارنة كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميل، معركة المصير السياسي لكل منهم في مواجهة الحكم العسكري والاستخباراتي، الذي كان أسقط شمعون في الشوف واده في جبيل عام 1964. ربح الحلف الثلاثي وفاز القادة الثلاثة، كل في دائرته، وحصدوا مجتعمين حصة الاسد في مواجهة النهج.
لكن العودة اليوم الى 1968 من منظار تاريخي مختلف، تعطي صورة هذا الفوز منحى مختلفا. كان لبنان في تلك المرحلة يعيش معركته الخاصة الداخلية، والمواجهة المسيحية – المسيحية، بين رئاسة شهابية – مارونية، وحلف الزعماء الثلاثة الاكثر قوة وحضورا في المجتمع الماروني، من دون الالتفات الى وقع نكسة 1967 وتداعياتها على الساحة اللبنانية.حملت النكسة رياح الثورة الفلسطينية الى عمق الداخل اللبناني. ووسط تحالفات كانت تغزل بين الانظمة العربية بمعزل عن القادة الموارنة الغارقين بالنصر المحلي، مرر اتفاق القاهرة، الذي كان ولا يزال سبب غرق لبنان في الرمال المتحركة.
قبل عامين من انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970 ، وصل الموارنة الى الاستحقاق منتشين بنصرة الحلف، ومشرذمين بفعل انفراط عقدهم الداخلي، فيما الاحلاف العربية ترخي بثقلها في الاستحقاق الانتخابي، وتعقد المؤتمرات خارج الحدود اللبنانية لترسم لهم مصيرا مقلقا بدأ في الاردن، وانتقل الى لبنان عام 1973 . حينها كرت سبحة الانهيارات، وبدأ الموارنة يفقدون تدريجا موقعهم في السلطة، بعد تخل تدريجي عن الجيش وعن حمايته فسقط آخر معقل حيوي لدعم نظام الجمهورية الآتي من رحم ميثاق 1943.
اليوم تترابط حلقات ما يحدث في المتن الشمالي وفي نهر البارد وفي السجال حول اتفاق الطائف، لتشكل سلسلة واحدة، يغرق فيها القادة الموارنة، فيما تتكثف المشاورات العربية وترسم ملامح اتفاقات جديدة مع اسرائيل، حربا او سلما، ويعاد رسم خريطة المنطقة، ويدور البحث بين ايران وفرنسا وسوريا وواشنطن، وتعقد اجتماعات رباعية في القاهرة تبحث في سبل حل الازمة اللبنانية، والموارنة غارقون في تحقيق نصر مبين على مقعد نيابي.
فغبار معركة المتن حجب من خلال السجالات العنيفة المتبادلة الرؤية عن حقيقة ما يدور في نهر البارد، وعن حقيقة استشهاد الضباط والعسكريين وجرح المئات منهم. ومن يذهب الى نهر البارد ويشهد من الداخل حقيقة ما يجري وتحوّل المعركة من مجرد رد فعل تلقائي على المجزرة التي لحقت بـ27 عسكريا ذبحوا في اول يوم من المعركة في ايار الفائت، يدرك ان ما استعاده الجيش من قدرة على ترجمة دوره جديا في معركة تشبه معركة “المسجد الاحمر” في باكستان او معارك الفلوجة في العراق، بامكانات لا تقارن بقدرة الجيشين الاميركي والباكستاني، قادر على احداث متغيرات حقيقية في الساحة الداخلية، لا صلة لها بالافكار الرئاسية. ولعل القادة المسيحيين اليوم هم اول من يجب عليهم اعلاء الصوت لعدم حجب الرؤية عما يدور في البارد، رغم شرعية تخوفهم من انعكاس هذا التضامن على احتمالات صعود العسكر الى الحكم بعد التجارب المريرة السابقة.
وهنا خطورة ما يجري في المتن اليوم، وخطورة ما يجب على القادة المسيحيين التنبه له، وهو كلام تحرص على تكراره الدوائر الكنسية والسياسية المستقلة. فالجيش يواجه خطرا اصوليا، ولو متقاطعا، بحسب الاكثرية، مع النظام السوري، في تجربة قابلة لان تتكرر في الناعمة وقوسايا وغيرهما، في حين ان قدرته على القيام بهذه المعركة أقلقت أكثر من طرف محلي، اذ اثبت انه يمكن ان يكون ضامنا لوحدة البلد وكيانه في شكله الحالي بعد الطائف، بعيدا من الحسابات الرئاسية الضيقة. علماً ان الجيش سيضطر تحت وطأة معركة المتن حاليا الى التحضير لمواجهة متنية سياسية يجبر معها على ” تعزيز قوته العسكرية الموجودة اصلا في المتن على خلفية التصعيد الكلامي الاخير بين الجميل وعون، وسيضطر الى سحب بعض من عديده في المناطق الاكثر هدوءا لمتابعة الوضع الميداني في المتن، بدءا من بداية الاسبوع، وصولا الى ما بعد اليوم الانتخابي، وستشهد المنطقة وضعا عسكريا سيكون ملحوظا في ضوء التعزيزات الجديدة والدوريات الامنية”.
دخان المتن والطائف
وعلى خط آخر، تغطي معركة المتن حقيقة ما يدور حول اتفاق الطائف، الذي يبحث في كواليس السياسة العربية والفرنسية والايرانية، وان اختلفت الرواية حول من طرح الفكرة اولا، الفرنسيون كما يقول السيد حسن نصرالله ، او الايرانيون كما يقول التقرير الديبلوماسي الذي رفعه السفير جان كلود كوسران حول محادثاته في ايران ووصلت نسخ عنه الى المعنيين في الاكثرية. ومعلوم انها ليست المرة الاولى يثار هذا الموضوع الذي طرح في كانون الثاني الماضي، من دون ان يلقى أي ردة فعل من جانب المعارضة. اذ ان الوزير محمد فنيش قال في احدى جلسات مجلس الوزراء ( النهار 11/1/ 2007) “ان الطائف عفا عنه الزمن”، اثناء نقاش حول المناصفة في الوظائف، ما اثار استغراب الوزراء في حينه، واثاروا ما قاله الرئيس نبيه بري ان “عقد جلسة برئاسة نائب رئيس المجلس هو بمثابة “اعدام” لهذا الاتفاق، مذكرا بظروف صياغة وثيقة الوفاق الوطني، وما قاله رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد ان “التلويح بعقد جلسة نيابية خارج مجلس النواب وبرئاسة نائب رئيس المجلس، ليس الا نزقاً شيطانياً من شأنه اذا انزلقت اليه المجموعة الانقلابية اليوم ان يعيد الاوضاع في البلاد الى اسوأ مما كانت قبل اتفاق الطائف”. والكلام الشيعي اعتبر في وقته مستندا الى خلفية ما ذكرته صحيفة ” كيهان” الايرانية ان الشيعة اصبحوا في لبنان 40 في المئة، في حين ان نسبتهم في لبنان 29 في المئة ( احصاء اللبنانيين 1907- 2006 يوسف شهيد الدويهي).
ولعل الفائدة الاولى من هذا السجال هو ان أي محاولة اليوم لتعديل الطائف ستكون محكومة بالفشل، ولو أتت على يد بعض المسيحيين الذين تدارسوا اخيرا احتمالات تعديل الطائف لمصلحة تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية.
المتن بين الاستنفار وسعي المطارنة
لا يقلل احد اهمية المقعد النيابي في المتن الذي خلا باستشهاد النائب بيار الجميل، ولا سيما ان المتن دفع حتى الان ثلاثة شهداء من جبران تويني المتني والبيروتي في آن واحد، الى الجميل وجورج حاوي، وصولا الى محاولة اغتيال الوزير الياس المر. ومعركة المتن حيوية بهذا المعنى، وكأن هذه الدائرة تختصر العمق المسيحي في جبل لبنان الذي تكرّس في يوم من الايام لكسروان، فصارت عنوانا للكباش حول المعارضة والسلطة عام 2002، وصارت اليوم عنوانا للدفاع عن صلاحيات رئاسة الجمهورية المهمشة في مقابل الحفاظ على سيادة لبنان واستقلاله. لكن هذا الكباش ، مرشح لان يتحول الضربة القاضية لما تبقى من امن المجتمع المسيحي وحيويته الديموقراطية، في وقت تشتد فيه التشنجات على الساحة المتنية الى حد ينذر بالخطورة الكبيرة. وخصوصا ان الفريقين يحاولان استجماع قواهما الى اقصى حد من اجل تسجيل فوز ساحق، في حين ان قواهما الذاتية الصرفة باتت متقاربة، مع الاخذ في الاعتبار كل المتغيرات التي حصلت منذ استشهاد الجميل الابن الى اليوم. فوفق القراءة التي اجراها الباحث يوسف شهيد الدويهي عن وضع القاعدتين المتنافستين في المتن اليوم، استنادا الى اربعة استطلاعات للرأي اجريت على مدى ستة أشهر، اظهرت ان نسبة المؤيدين للجميل و”القوات اللبنانية” ارتفعت منذ عام 2005 الى اليوم بنسبة تزيد على 12 في المئة من اصوات الناخبين، ولا سيما في الوسطين الماروني والكاثوليكي، لتصبح نسبة مؤيدي الجميل في المتن 4296 في المئة، في مقابل 2940 في المئة ، وهو المعدل الذي حازته لائحة المعارضة( في مواجهة عون) عام 2005. ويذكر ان نسبة ناخبي الموارنة في هذا القضاء تبلغ 76462 ناخبا وفق لوائح عام 2007، ويبلغ عدد الناخبين الكاثوليك 16574 ناخبا. ويقابل هذا الارتفاع في المقلب الآخر تكتل القوى السياسية في المعارضة مع عون من مؤيدي النائب ميشال المر ( عدد الناخبين الارثوذكس 24.927 الفا) والكتلة الارمنية ( ناخبو الارمن الارثوذكس 26.676 وناخبو الارمن الكاثوليك 7.322) التي اعتادت ان تصب اصواتها كتلة واحدة، والقوميين السوريين والناخبين الشيعة (عددهم 4.307 اصوات اقترع منهم نحو 40 في المئة عام 2005) فترتفع بذلك نسبة مؤيدي عون مجتمعين الى 52.41 في المئة من الاصوات. في حين انه قبل عشرة ايام من المعركة لا يزال 3809 اصوات محسوبين في خانة المترددين للتصويت لمصلحة اي من الفريقين، وهو ما يعني ان أي فوز للمرشح العوني لن يكون محتما من دون ان تصب جميع اصوات المر( المزدوجة مع القاعدة الكتائبية) واصوات الارمن في صناديق مرشحه، وإن كتلة اصوات المر والارمن هي التي تتحكم في المعركة، وهو امر يعرفه الجميل وعون تماما، ويعرفه المر الذي لا يرغب في كسر الجرة مع الجميل لكنه لا يستطيع تشتيت اصوات مؤيديه بين مرشحين اثنين، وهو امر كان يمكن ان يحدث في انتخابات عامة وليس فرعية، التي في أي حال ستكون نسبة المشاركة فيها اقل من الانتخابات العامة، اذ يتوقع ان تسجل فيها بحسب الدويهي 47.88 في المئة، في مقابل 51.21 في المئة لعام 2005. ومن المفيد التذكير بأن انتخاب المتن الفرعي عام 2002 سجل نسبة مشاركة لم تتعد 46.10 في المئة. وارتفاع المشاركة هذه السنة سيكون مرهونا بحدة المواجهة واستنفار العصبيات العائلية والسياسية ودخول الحلفاء على الخط، مما ينتج معركة سيكون للفائز فيها مقعد نيابي وسيكون فيها للمسيحيين خسارة جديدة تضاف الى لائحة الانهيارات الطويلة، ما لم يلتزم عون كلام البطريرك الماروني الواضح امس، بدعوته صراحة الى ترك المقعد النيابي لعائلة الجميل. ووصفت اوساط بكركي امس كلام صفير بانه ” نداء اخير” وواضح حول مسار المعركة، فيما أكدت اوساط لجنة المطارنة انها مستمرة في مساعيها، مشيرة الى ان عون لم يقفل الباب على اي مسعى وان اليوم قد يشهد تطورات وردا واضحا من جانبه على كلام البطريرك
النهار