تم تشكيل العالم الحديث من خلال الاعتقاد بأن البشر يمكنهم التغلب على الموت وهزيمته.
كان هذا موقفا ثوريا جديدا. حتى أواخر العصر الحديث، رأت معظم الأديان والأيديولوجيات أن الموت ليس فقط مصيرنا المحتوم، بل مصدراً رئيسياً لمعنى الحياة. في عالم بلا موت – وبالتالي بدون جنة أو جهنم أو تناسُخ – لم يكن لأديان مثل المسيحية والإسلام والهندوسية أي معنى. بالنسبة لمعظم التاريخ، كانت أفضل العقول البشرية مشغولة بإعطاء معنى للموت، وليس محاولة إلحاق الهزيمة به.
الاعتقاد السائد هو أنه في يوم من الأيام سيقضي الله على الموت من خلال لفتة ميتافيزيقية كبرى مثل مجيء المسيح. ثم جاءت الثورة العلمية، وأصبح الموت بالنسبة للعلماء، ليس مرسوما إلهياً بل مجرّد مشكلة تقنية. فالبشر يموتون ليس لأن الله قال ذلك، ولكن بسبب بعض الخلل التقني، كتوقف القلب عن ضخ الدم، وتدمير السرطان للكبد، وتكاثر الفيروسات في الرئتين. لكن من المسؤول عن كل هذه المشاكل التقنية؟ فالقلب يتوقف عن ضخ الدم بسبب عدم وصول كمية كافية من الأكسجين إلى عضلة القلب، والخلايا السرطانية تنتشر في الكبد بسبب بعض الطفرات الجينية المحتملة، والفيروسات تستقر في الرئتين لأن شخصًا عطس في الحافلة، ولا شيء ميتافيزيقي له علاقة بكل ما سبق.
يعتقد العلم أن كل مشكلة تقنية لها حل تقني! لسنا بحاجة إلى انتظار مجيء المسيح من أجل التغلب على الموت، فزوجان من العلماء في المختبر يمكنهم القيام بذلك، في حين أن الموت، تقليديًا، كان تخَصٌّصَ الكهنة واللاهوتيين الذين يرتدون اللباس الأسود، بينما أصبح الناس بمعاطف بيضاء في المختبر. إذا عانى القلب، فيمكننا تحفيزه باستخدام جهاز تنظيم ضربات القلب أو حتى زرع قلب جديد. إذا انتشر السرطان، فيمكننا قتله بالإشعاع. إذا تكاثرت الفيروسات في الرئتين، فيمكننا إخضاعها ببعض الأدوية الجديدة.
صحيح أننا لا نستطيع حل جميع المشاكل التقنية في الوقت الحاضر، لكننا نعمل عليها. لم تعد أفضل العقول البشرية تقضي وقتها في محاولة إعطاء معنى للموت، وإنما بدلاً من ذلك باتت هذه العقول مشغولة في إطالة العمر. إنهم يحققون في الأنظمة الميكروبيولوجية والفيزيولوجية والجينية المسؤولة عن المرض والشيخوخة، ويطورون أدوية جديدة وعلاجات ثورية.
في نضالهم من أجل إطالة الحياة، حقق البشر نجاحًا ملحوظًا. على مدى القرنين الماضيين، قفز متوسط العمر المتوقع من أقل من 40 عامًا إلى 72 عامًا في جميع أنحاء العالم، وإلى أكثر من 80 في بعض البلدان المتقدمة. ونجح الأطفال على وجه الخصوص في الفرار من براثن الموت. حتى القرن العشرين، لم يستطع ثلث الاطفال على الأقل أن يصلوا إلى مرحلة البلوغ. استسلم الشباب بشكل روتيني لأمراض الطفولة مثل الحصبة والجدري. في إنجلترا في القرن السابع عشر، توفي حوالي 150 من كل 1000 مولود جديد خلال عامهم الأول، وحوالي 700 فقط وصلوا إلى سن 15 عامًا. واليوم، يموت خمسة فقط من أصل 1000 طفل إنجليزي خلال عامهم الأول. وفي العالم ككل، انخفضت وفيات الأطفال إلى أقل من 5 ٪.
نجح البشر للغاية في محاولة حماية وإطالة الحياة، لدرجة أن رؤيتنا للعالم قد تغيرت بطريقة عميقة، في حين أن الديانات التقليدية لا تزال تعتبر الحياة الآخرة المصدر الرئيسي لمعنى الحياة، بينما فقدت أيديولوجيات مثل الليبرالية والاشتراكية والنسويّة كل اهتمام بالحياة الآخرة.
ماذا يحدث بالضبط للشيوعي بعد وفاته؟ ماذا يحدث للرأسمالي؟ ماذا يحدث للنسويّة؟ من العبث البحث عن الجواب في كتابات كارل ماركس وآدم سميث وسيمون دي بوفوار.
الإيديولوجية الحديثة الوحيدة التي لا تزال تمنح الموت دورًا مركزيًا هي القومية. تعتقد القومية في لحظتها اليائسة بأن كل من يموت من أجل الأمة سيعيش إلى الأبد في الذاكرة الجماعية. ومع ذلك، فإن هذا الوعد غامض للغاية لدرجة أن معظم القوميين لا يعرفون حقًا ماذا يفعلون به، بل كيف “يعيش” هذا الفرد في الذاكرة؟ إذا كنت ميتًا، كيف تعرف ما إذا كان الناس يتذكرونك أم لا؟ سُئل وودي آلن ذات مرة عما إذا كان يأمل أن يعيش إلى الأبد في ذكرى رواد السينما، فأجاب: “أفضل العيش في شقتي”. وحتى العديد من الأديان التقليدية بدأت تغير مفهومها، فبدلاً من الوعد ببعض الجنة في الحياة الآخرة، بدأت في التركيز أكثر على ما يمكن القيام به من أجل الحياة الراهنة.
هل سيغير الوباء المواقف البشرية من الموت؟ على الاغلب لا. بل من المحتمل أن يتسبب “كورونا” في مضاعفة الجهود لحماية أرواح البشر. فرد الفعل الثقافي لمواجهة الوباء هو مزيج من الغضب والأمل.
عندما كان ينتشر الوباء – أي وباء – في مجتمع ما قبل الحداثة، مثل أوروبا في العصور الوسطى، كان الناس يخافون على حياتهم ويخشون من موت أحبائهم، وكان رد الفعل الثقافي على ذلك هو الإستسلام. قد يطلق علماء النفس على ذلك مسمى “العجز المكتسب”، بينما كان الناس يقولون بأن ذلك هو بفعل إرادة الله، أو هو قصاص إلهي نتيجة لذنوب البشر، وكانت العبارات السائد هي: “الله أعلم”، و”نحن البشر الأشرار نستحق ذلك”، و”كل شيء سيتحول إلى الأفضل في النهاية”، و”لا تقلق سيحصل أهل الخير على أجورهم في السماء”، و”لا تضيع الوقت في البحث عن دواء، فلقد أرسل الله هذا المرض ليعاقبنا”. فأولئك يعتقدون بأن البشر الذين يؤكدون بأنهم سيتغلبون على الوباء من خلال العلم، سيضيفون “خطيئة الغرور” إلى ذنوبهم الأخرى، بل، “من نحن لكي نحبط خطط الله؟”.
المواقف اليوم هي عكس القطبية التي كانت سائدة في الماضي.
كلما قتلت الكوارث الكثير من الناس، كحادث قطار أو حريق شاهق أو إعصار، فإننا نميل إلى اعتبارها فشلًا بشريًا يمكن منعه وليس عقابا إلهيا أو كارثة طبيعية لا مناص منها. إذا لم تقطع شركة القطار ميزانية السلامة الخاصة بها، إذا كانت البلدية قد تبنت لوائح أفضل لمكافحة الحرائق، وإذا كانت الحكومة قد أرسلت المساعدة بشكل أسرع، لتم إنقاذ هؤلاء الأشخاص. لقد أصبح الموت الجماعي في القرن الحادي والعشرين، سببًا تلقائيًا لرفع دعاوى قضائية وإجراء تحقيقات.
هذا هو موقفنا من الأوبئة أيضًا. فبينما سارع بعض الوعاظ الدينيين إلى وصف “الإيدز” بأنه عقاب من الله ضد “المِثليين”، فإن المجتمع الحديث أحبط مثل هذه الآراء، ونحن، هذه الأيام، ننظر بشكل عام إلى انتشار “الإيدز” و”الإيبولا” والأوبئة الأخرى الأخيرة على أنها إخفاقات تنظيمية. نفترض أن البشرية لديها المعرفة والأدوات اللازمة لكبح مثل هذه الأوبئة، وإذا خرج المرض المعدي عن السيطرة، فإن ذلك يرجع إلى عدم الكفاءة البشرية وليس بسبب الغضب الإلهي. “كورونا” ليس استثناءً في هذه القاعدة. إن الأزمة لم تنته بعد، ولكن لعبة اللوم بدأت بالفعل. فالدول المختلفة بدأت تتهم بعضها البعض بشأن المسؤولية في ظهور الوباء وانتشاره.
إلى جانب الغضب الناتج عن الموت، هناك قدر هائل من الأمل.
فأبطالنا ليسوا الكهنة الذين يدفنون الموتى ويبررون الكارثة، وإنما هم الأطباء الذين ينقذون الأرواح. أبطالنا الخارقون هم العلماء في المختبرات. وكما يعرف رواد السينما أن “سبايدرمان” و”وندر وومن” سيهزمان الأشرار في نهاية المطاف وينقذان العالم، نحن كذلك على يقين تمامًا أنه في غضون بضعة أشهر وربما عام سيأتي من هم في المختبرات بعلاجات فعالة وبـ”طعم” لـ”كورونا”، لكن السؤال الذي لا يزال على شفاه الجميع، بدءا من البيت الأبيض، مرورا بـ”وول ستريت”، ووصولاً إلى شرفات إيطاليا هو: “متى سيكون اللقاح جاهزًا؟”.
عندما يكون اللقاح جاهزًا بالفعل وينتهي الوباء، ما الذي ستجنيه البشرية من ذلك؟ جميع الاحتمالات تشير إلى ضرورة استثمار المزيد من الجهود لحماية الأرواح البشرية. نحن بحاجة إلى المزيد من المستشفيات والمزيد من الأطباء والممرضات، نحن بحاجة إلى تخزين المزيد من آلات التنفس والمزيد من معدات الحماية والمزيد من معدات الاختبار، نحن بحاجة إلى استثمار المزيد من المال في البحث عن مسببات الأمراض غير المعروفة وتطوير علاجات جديدة. لا بد أن نكون حذرين.
قد يجادل البعض بأن هذا هو الدرس الخاطئ، وأن الأزمة يجب أن تعلمنا التواضع. يجب أن نبتعد عن اليقين في قدرتنا على إخضاع قوى الطبيعة. العديد من هؤلاء الرافضين هم ممن لا زالوا يعيشون في إطار أفكار العصور الوسطى، فهم يدعون إلى التواضع بينما هم متأكدون مائة بالمائة من أنهم يعرفون جميع الإجابات الصحيحة. بعض المتعصبين لا يمكن أن يساعدوا أنفسهم: جادل قسّ يقوم بدراسة حول الكتاب المقدس لصالح إدارة دونالد ترامب، بأن الوباء هو عقاب إلهي ضد الشذوذ الجنسي. ولكن معظم التقليديين يضعون ثقتهم في العلوم في الوقت الحاضر بدلاً من وضعها في الكتاب المقدس.
وجّهت الكنيسة الكاثوليكية أتباعها المؤمنين للإبتعاد عن الكنائس، وأغلقت إسرائيل معابدها اليهودية، ومنعت جمهورية إيران الإسلامية زيارة المراقد والمساجد، وعلقت المعابد والطوائف بجميع أنواعها الاحتفالات العامة. كل ذلك لأن العلماء أوصوا بإغلاق هذه الأماكن المقدسة.
بالطبع، ليس كل من يحذرنا من الغطرسة يحلم بأن ينتمي إلى أفكار القرون الوسطى. حتى العلماء يوافقون على أننا يجب أن نكون واقعيين في توقعاتنا، وأن ثقتنا في قوة الأطباء لحمايتنا من كل مصائب الحياة لا يجب أن تكون عمياء. ولكي تصبح البشرية أقوى من أي وقت مضى، يحتاج الأفراد إلى مواجهة هشاشتهم. ربما نحتاج إلى قرن أو قرنين لجعل حياة البشر تستمر إلى أجل غير مسمى. وإلى أن يحين ذلك فإننا، وباستثناء عدد قليل من المليارديرات، سنموت يومًا ما، وسوف نفقد أحباءنا.
لقرون، استخدم الناس الدين كآلية للدفاع عن معتقداتهم، مؤمنين بأنهم سيعيشون إلى الأبد في الحياة الآخرة. يتحول الناس في بعض الأحيان إلى استخدام العلم كآلية دفاع بديلة، معتقدين أن الأطباء سينقذونهم دائمًا، وأنهم سيعيشون إلى الأبد. نحن بحاجة إلى نهج متوازن.
يجب أن نثق في العلم للتعامل مع الأوبئة، ولكن لا يزال يتعين علينا تحمل عبء التعامل مع وفياتنا.
قد تجعل الأزمة الحالية العديد من الأفراد أكثر إدراكًا للطبيعة غير الدائمة للحياة البشرية والإنجازات البشرية. ومع ذلك، فإن حضارتنا الحديثة ستسير على الأرجح في الاتجاه المعاكس. وتذكيرًا بهشاشتها، سوف تتفاعل الحياة من خلال بناء دفاعات أقوى. عندما تنتهي الأزمة الحالية، لا أتوقع أن نشهد زيادة كبيرة في ميزانيات أقسام الفلسفة، وأراهن بأننا سنشهد زيادة كبيرة في ميزانيات كليات الطب وأنظمة الرعاية الصحية.
ربما هذا هو أفضل ما يمكن أن نتوقعه إنسانيا. فالحكومات ليست على أي حال جيدة في مجال الفلسفة، فهو ليس نطاقها. يجب على الحكومات أن تركز حقًا على بناء أنظمة رعاية صحية أفضل. والأمر متروك للأفراد للقيام بتفكير فلسفي أفضل.
لا يستطيع الأطباء حل لغز الوجود بالنسبة لنا، لكن يمكنهم أن يمنحونا مزيدًا من الوقت للتعامل معه.
ترجمة – “شفاف”، نُشِر في
*