لا شيء يرضى الكاتب قدر استجابة قارئ حقيقي، يعرف أن القراءة المنتجة للمعنى إنما هي كتابة جديدة. ويدرك هذا القارئ –بفطنته وذكائه- أن القراءة/الكتابة الجديدة ليس مطلوباً منها بالضرورة أن تتمخض فتلد إجابات ناجزة ونهائية لأسئلة هي بطبيعتها مراوغة ولا نهائية، خاصة حين يكون السؤال متعلقاً بالمصير الإنساني، حاضره ومستقبله، إذ يكفي القراءة/الكتابة فضلاً أنها توسع من دائرة السؤال، فتغري بذلك أطرافاً أخرى بالمشاركة في الحوار الدائر.
في هذا السياق المنهجي المعرفي، وتحت عنوان “كيف التهمت الأصولية ُ حداثة الغرب” [انظر شفاف الشرق الأوسط 2 نيسان / إبريل 2008] حاول الكاتب أن يجيب عن السؤال المزدوج المطروح على ساحة الثقافة العالمية المعاصرة:
لماذا أخفقت الحداثة الأوروبية في أن تجلو للبشر مغزى حياتهم؟ وكيف انبعثت الأصوليةFundamentalism مثلما ينبعث طائر الفينيق الأسطوري من رماده المحترق، بغية التهام ما أنجزته الحداثة ممثلاً في:
• انتصار العقل العلمي على الخرافة.
• تأكيد مسيرة التقدم التاريخي تحت راية الليبرالية.
• تأسيس مجتمع يصوغ قانونه الإنساني العادل بنفسه، دون خضوع منه لقانون الغاب.
• ثم السعي الدؤوب لتحقيق السعادة لكل فرد على هذه الأرض بغير تفرقة مردها الجنس أو العرق، أو اللون، أو الديانات أو العقائد.
ولقد حملت محاولة إجابة الكاتب -في طياتها- توصيفاً لأزمة الرأسمالية العالمية بجناحيها: رأسمالية الأفراد والشركات على حساب العمل المأجور في الغرب الأوروبي والأمريكي، ورأسمالية الدولة التي انهارت في الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة دول شرق أوروبا.
أراد الكاتب أن يوضح كيف استقطبت أزمة النسق الرأسمالي هذا مذاهب ما بعد الحداثة Post-Modernism بحسبانها تجليات فكرية لها، فكان أن عمدت إلى تتويج البنيوية مليكة للفلسفة، وكان أن رفعت على العرش الاقتصاد السياسي المعاصر. وبالمقابل سعى كاتب الافتتاحية للربط بين تجليات تلك الأزمة وبين غياب (أو قل تغييب) الإرادة الإنسانية، دفعاً للبشر أن يسلموا بما هو كائن: تكديس الثروة في جانب الدول المتقدمة، والإفقار المستمر للدول المتخلفة، فضلاً عن استمرار التفاوتات الطبقية هنا وهناك، بزعم أن الفقراء مسئولون عن أحوالهم، Hurry up !blame the victim
ما من شك في أن الرأسمالية نظام أرقى من النسق الإقطاعي الجامد، ولقد كانت، في مرحلة صعودها، تنطلق طبقتها البورجوازية بفكر يؤمن أن البشر خليقون بصنع تاريخهم، وليس للآلهة دخل فيما يصنعون بهذا التاريخ. أما في مرحلة الأفول الحالية –وشواهدها لا تخفى على العين الفاحصة- فمن المنطقي إلى الإيهام بالجبرية Pre-destination ومن مصلحتها أن تبشر بنهاية التاريخ، لتفت في عضد الفكر الاجتماعي الذي يجهد لكي يستبدل بها (=الرأسمالية) نسقاً آخر، يكون أكثر صلاحية ً للبشر، وأصح ملائمة ً للغايات الإنسانية العليا، حتى وإن تخلى هذا النسق المنتظر عن المحكيات الكبرى القديمة في مضمار عصر تحل فيه التكنولوجيا محل الأيديولوجيا، على نحو ما سوف نوضحه في نهاية هذه الصفحات.
تلك كانت الملامح العامة لمحاولتنا الإجابة عن سؤال الحداثة التي تتراجع والأصولية التي تتصاعد. ومن حسن حظنا أن وجدنا الاستجابة المرجوة لكتابتنا، إذ طالعنا تعليقاً صافياً وعميقاً بقلم الصديق الدكتور وحيد عبد المجيد منشوراً بإحدى الصحف ذات التوجه الثقافي الحداثيّ* الأمر الذي أشعل حماسنا لمواصلة الحوار. ويقيناً سوف نفعل، ولكن ليس قبل إعادة نشر مقال د. وحيد بنصه كاملاً فيما يلي:
“ممتع هو الحوار الفكري عندما تتوفر المعرفة لأطرافه في زمن صار فقر المعرفة هو أخطر أنواع الفقر في عالمنا العربي وفق ما خلص إليه تقرير التنمية الإنسانية العربية في عدده الأول. ويزداد الاستمتاع به عندما يسمو أطرافه فوق الاعتبارات الشخصية. وهذا أمر بديهي بل هو جزء لا يتجزأ من مفهوم الحوار، أو قل إنه من طبائع الأمور في عالمنا كله الآن باستثناء المنطقة العربية. ففيها نجد الحوار الفكري لكن بلا فكر ولا معرفة ولا موضوعية ولا أخلاق أو ما يسمى آداب الحوار.
ولكن للقاعدة استثناءات عليها. ومن الاستثناءات القليلة في تجربتي الشخصية الحوار مع المفكر اليساري السكندري مهدي بندق. فهو موسوعي الثقافة منفتح العقل يكره احتكار الحقيقة. وقد تعددت الحوارات بيننا. وكان آخرها حوار حول مغزى صعود الأصولية في كثير من أنحاء العالم وفي أديان وثقافات مختلفة مسلمة ومسيحية وهندوسية وغيرها.
وفي ضوء هذا الحوار، قدم مهدي بندق في افتتاحه لمجلة (تحديات ثقافية) التي يرأس تحريرها رؤية عميقة للظاهرة التي أسماها التهام الأصولية للحداثة وأرجعها إلى فشل المشروع الحداثي الأوروبي على امتداد القرن الماضي. فقد سقطت، في رأيه، المحكيات الكبرى في العالم الحديث الذي تواجه الحداثة فيه مأزقاً تاريخياً، وهي الليبرالية والاشتراكية والتقدم والعقل والإنسانية.
وقد توقفت أمام فكرة لامعة طرحها في هذا المجال، وهي أن التكنولوجيا أصبحت هي القائدة للعقل، وليس العكس. وهذه فكرة تفسر الكثير من الظواهر السلبية في عالمنا. فالعقل الذي أنتج التكنولوجيا وقع أسيراً لها. وربما تزداد فداحة هذا الأسر كلما ازداد التقدم التكنولوجي. وتثير هذه العلاقة بين العقل والتكنولوجيا سؤالاً أدعو بندق وغيره من المهتمين إلى التفكير فيه، وهو هل يؤدي ازدياد الاعتماد على التكنولوجيا بالضرورة إلى كسل عقلي أو إلى تراجع العقل المتأمل المتفلسف، بل ربما أيضاً العقل العلمي المنتج لهذه التكنولوجيا بدوره؟ فالتكنولوجيا تتقدم في كثير من المجالات الآن من خلال التوالد الجيلي، أكثر منه عبر النظريات العلمية. وهذا هو، مثلاً، حال تكنولوجيا الكمبيوتر الآن بخلاف ما كان عليه قبل عقود قليلة، بل ربما عقدين فقط. وإذا صح ذلك بدرجة أو بأخرى، فهل له علاقة بالتراجع المستمر في منظومات القيم في المحكيات الكبرى. ولكن كيف نفسر مثل هذا التراجع في منظومة القيم العربية – الإسلامية التي تنهار الآن تحت وطأة قبول قطاع كبير من العرب والمسلمين إرهاب ابن لادن والزرقاوي وأمثالهما من القتلة ومحترفي جز رؤوس المخطوفين وإلقائها بسرعة لرفع علامة النصر الرخيص المهين. وهل يكون للتقدم الهائل في الغرب والتخلف البشع عندنا الأثر نفسه بدرجة أو بأخرى على العقل.
هذا قليل من أسئلة كثيرة تثيرها معالجة مهدي بندق لقضية التهام الأصولية للحداثة. فعمق المعالجة يحث على التفكير.
والتأمل الفكري يخلق أسئلة جديدة لا يوجد منها إلا القليل في عالمنا العربي والإسلامي، بينما تفيض علينا الإجابات النمطية المقولبة الثابتة والمؤكدة على الثوابت فتغرقنا في بحر من الجهل والسطحية والبلاهة.
ومعلوم أن وحيد عبد المجيد مفكر لبرالي أصيل. وهو بهذه الصفة له الحق كل الحق في محاولته أن يدرأ عن اللبرالية الجديدة شبهة التماهي مع اليمين المحافظ (الشكل الفظ للرأسمالية) فعند عبد المجيد، ومن قبله ميتشل فريدن، ومن قبلهما جون مينارد كينز (خاصة كتابه Laisser fair and communism) تستهدف اللبرالية الجديدة بناء دولة الرفاه Welfare state التي تقوم على التدخل بإجراءات التدخل والكبح، لمعالجة توحش الرأسماليين، تحديداً للحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، ولكن في إطار قوانين السوق. بيد أن ما لا يلتفت إليه هذا الفكر هو الواقع ذاته، فأين ذهبت دولة الرفاه منذ أن سيطرت الريجانية والتاتشرية؟! وإلى متى يستمر العلاج الجزئي المؤقت لأدواء الرأسمالية الدائمة وأهمها داء فائض القيمة، وهو المبلغ غير المدفوع للعمل المأجور، حيث يمثل الربح للرأسمالي، وبتراكمه تكدس الثروة في جانب القلة، ويتواصل الإفقار لدى غالبية السكان. كذلك داء فيض الإنتاج، أي خلق سلع أكثر مما يملك العمل المأجور على شرائها، فيجري التنافس على تصديرها للأسواق الخارجية، الأمر الذي يقود إلى الحروب التي تلد المجاعات والأوبئة والتشوهات الجسدية والنفسية.. إلخ. ويكفي أن يتكامل هذا الداء وذاك الداء للوصول إلى النسق الرأسمالي إلى مرحلة الأزمة الكبرى –على الأقل في مستواها النظري- حين يكتشف مفكروها أنفسهم عجزها عن حل المشكلة البشرية (حدث هذا مع فرانسيس فوكوياما) ومن ثم يبدأ استشراف النهاية المحتومة لكل كائن حي، ولكل نظام تاريخي، ألا وهي الوفاة.
فهل يعني هذا أن ندعو مجتمعات ما قبل الرأسمالية ومن بينها المجتمعات العربية إلى نبذ طريق التطور الرأسمالي؟ [لقد حاول مفكرو الستالينية تأصيل هذه الفكرة للقفز بالمجتمعات المتخلفة رأساً إلى الاشتراكية، فكانت النتيجة كارثة محققة] وكيف يمكن نبذ الرسملة قبل أن توجد وتبلغ رشدها؟! وهي التي تنتج بجانب عوراتها إيجابيات لا غنى عنها، مثل إحلال العلاقات الثقافية المدنية محل العلاقات الثيوقراطية، ومثل التأكيد على قيمة الفرد في مواجهة هيمنة العشيرة والقبيلة، ومثل مساواة النساء بالرجال، والأقليات بالأغلبيات على المستوى السياسي، وذلك كله يضاف إلى إعلاء قيمة الإنتاج الماديّ والفكري مقابل حالة الركود والضعف المتسمة بها مجتمعات الريع الخراجي ّ (النفط في عصر انحسار الفتوحات العربية) والمجتمعات التي تعيش على الاستدانة.
نظرياً، فالرأسمالية ليس غاية في حد ذاتها، ولا هي حالة أزلية أبدية لا فكاك للبشر منها. ولكنها ربما تكون بالنسبة لمن لم يدركها بعدُ بداية َ الطريق إلى التقدم النسبي، ومن هنا فإن تسريع النمو الرأسمالي مطلوب لمجتمعاتنا العربية، شريطة أن يصاحبه إنجاز لبرالي سياسي (=ديمقراطية حقة) لا يعكر التكتيكُ عليه فينسيه الاستراتيجية: خلق المجتمع الإنساني الحر والعادل في آن.
***
يطالبنا د. وحيد بأن نفكر في موضوعة التكنولوجيا التي تحل الآن محل الأيديولوجيات، متسائلاً عن الكيفية التي بها تشابهت مجتمعاتنا العربية –التي تستهلك التكنولوجيا ولا تنتجها- مع المجتمعات المتقدمة في أوروبا وأمريكا. ومن وجهة نظرنا نقول (مستعيرين نظرية أندريه جوندر فرانك وسمير أمين في وحدة النظام الرأسمالي العالمي) إن ما يجري في المركز ما يلبث حتى ينتقل إلى الأطراف. هكذا الحال في السلع والاختراعات وأيضاً الأفكار، فأتباع ابن لادن والزرقاوي يستهلكون القنابل والصواريخ ويبرمجون الطائرات الانتحارية ضمن ثقافة العنف التي هي جزء لا يتجزأ من بنية الرأسمالية العالمية. وإنهم يفعلون ذلك بالتوازي مع استهلاك أثرياء العرب للطائرات والسيارات الخاصة، واستهلاك فقراء العرب للعيش السعيد (في الأفلام والفيديوهات والتليفزيونات) فلماذا يصدمنا القول بأن التكنولوجيا صارت القائد للأيديولوجيا؟!
ربما ظن الصديق وحيد أننا نقصد بالأيديولوجيا المنتجَ العقليَّ، لكن ذلك لم يخطر ببالنا، فالأيديولوجيا في حقيقة الأمر وعي زائف Pseudo consciousness باعتبارها مجموعة من المفاهيم غير العلمية وُضعت لتلائم أحوال الجماعة في مرحلة تاريخية معينة، ثم جمدت –بحكم الميل الغريزي للثبات واليقين- فلم تتطور، بل وأصبحت عقبة كأداء أمام تقدم الجماعة الثقافية. فإذا رأينا التكنولوجيا تقود وتوظف أيديولوجيات العنف لتحقيق أغراضها، فلا مشاحة نستنتج أن الاثنين وجهان لنفس العملة، وأن اليد التي تمسك بهذه العملة هي النظام الرأسمالي العالمي، وإن هذا الأخير – مثله مثل العالم فرانكنشتاين- قد خلق مسخاً بواسطة التكنولوجيا، فليس عجباً أن ينقلب المسخ على خالقه ذي الأصابع التقنية البارعة و.. القلب الأعمى!
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
الليبرالية الجديدة حل مؤقت لأزمة دائمةالتفرقة بين الديمقراطية بمعنى قدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه هى السبيل القويم الوحيد نحو الإشتراكية ، ولذلك خاب سعي السوفيات نتاج إصرارهم على تشويه المبدأ الديمقراطي لحساب طبقة بيروقراطية مستغلة تحكم باسم الشعب ( بمعنى إلغاء حق الشعب في معارضتها ) وبالطبع فاللبرالية تفعل نفس الفعل ولكن احساب طبقة البورجوازية التي توهم الناس بأنها تعمل لصالح المجموع . لا حل قبل أن يعي كل فرد أنه مسئول هما يجرى له . طريق طويل طبعا ولكن لا يوجد غيره , وعذا هو ما حرص الكاتب الأستاذ مهدى على تبيانه بكل عزم ووضوح ، فله الشكر… قراءة المزيد ..
الليبرالية الجديدة حل مؤقت لأزمة دائمة
مقال رائع لكاتب مبدع يعرف كيف يشخص الأزمة . كما أسجل اعجابي بالتعليق
الصادر عن الأخ فرج . أما تعليق الأخت علياء فيدخل في باب ” لا يعول عليه “
الليبرالية الجديدة حل مؤقت لأزمة دائمةلا شك في أن الحوار بين مفكريين يتسلحان بصدق االمعرفة ورحابة العقل والبحث عن الوصل للحقيقة يعتبر نموذجا لمناقشة الأفكار والقضايا الكبري، وهو شئ ممتع وقدرة على التواصل برغم اختلاف المنطلاقات . لقد استطاع مهدي بندق بيسر وسهولة طرح اعقد الأسئلة واصعب القضايا بوضوح يحسد عليه، لخص اللحظة الراهنة ليس في واقعنا العربي بل استطاع الأمساك بطبيعة العصر في عبارات واضحة وصياغة محددة بأقل الكلمات، وضعنا أمام تحديات انهيار كل النماذج، وهو على حق، فكل المحكيات الكبري تتردي، الرأسمالية برغم انجازاتها السابقة أصبحت في مرحلة التوحش، ولم تنجح نظريات ماركس وتطبيقات لينين واستالين في رأب… قراءة المزيد ..
الليبرالية الجديدة حل مؤقت لأزمة دائمةتعليقي هذه المرة سوف ينصب علي تعليق الأخت علياء . فهي Model مطابق لما هو سائد في بلادنا . فما أن ينجح مفكر في تشخيص أحد أمراضنا المتوطنة حتي ينبرى له من يسأل بشماتة غريبة : وما الحل عندك أنت ؟! مع أن طبيب الأشعة غير مطالب بتقديم الدواء .. كفاه إخلاصا ونجاحا في عمله أن شرح العلة. وحدد نوع الداء الأخت علياء تتفضل هي بوصف الدواء بسرعة البرق . والدواء جاهز مسبقا : الإسلام هو الحل ! فلماذا لم يحل الحكم ” الإسلامي مشاكل وأزمات السودان ؟ والصومال ؟ وإيران ؟ العقل العربي محذوف… قراءة المزيد ..
الليبرالية الجديدة حل مؤقت لأزمة دائمة
وما هو البديل يا أستاذ مهدى ؟ الإشتراكية ؟! ولكن الإشتراكية فشلت .
الفوضى الخلاقة ؟! يبدو أن هذا هو ما ينتظرنا جميعا ولا حول ولا قوة الا بالله
لماذا لا نعود إلي الإسلام في نبعه الأصيل ؟