استمتعت بقراءة كتاب “الدين.. والعقل الحديث”، لمؤلفه ولتر ستيس، الأمريكي الذي ولد في لندن، ودرس في انجلترا واسكتلندا وايرلندا، وأصبح في عام 1935 أستاذ الفلسفة في جامعة برنستون، والذي له مؤلفات عديدة ترجمت إلى اللغة العربية، منها، إضافة إلى “الدين.. والعقل الحديث”، “الزمان والأزل.. مقالة في فلسفة الدين” و”التصوف والفلسفة” و”تاريخ الفلسفة اليونانية” و”معنى الجمال”.
الكتاب محاولة معمقة، وبأسلوب سلس جدا، للتمييز بين عالم الإنسان الحديث وعالم الإنسان ما قبل الحديث أو عالم الإنسان القديم. فالمؤلف ينقل القارئ من معرفة العالم في العصر الوسيط إلى معرفة العالم في العصر الحديث في ظل تحولات العقل البشري وإبداعاته، والتي أثرت في تطور التفكير وتغيّر الحياة. في العصر الوسيط يشير المؤلف إلى صور العالم، ثم إلى غرضية العالم، ثم ينتقد العالم بوصفه نظاما أخلاقيا.
ما أثارني هو فصل العصر الوسيط، وبالذات الإشارة إلى “الله وغرضية العالم”، والتي تحاكي عقول الغالبية العظمى من العرب والمسلمين الذين يعيشون راهنا في العصر الحديث، على الرغم من اعتقاد ستيس بأن الإشارة تمتّ بصلة قوية لإنسان العصر الوسيط. لذلك، يطرح ستيس تساؤلا مفصليا يبدو سعيا منه للتمييز بين العالمين انطلاقا من صور معرفة الله: “ماذا تعني هذه الكلمة (الله)، التي ورثناها من عصور موغلة في القدم، في أذهان الناس؟”، أو في تساؤل آخر: “ما هو نوع الوجود الإلهي الذي نؤمن به؟”.
يؤكد ستيس أن نوع الوجود الإلهي الذي نؤمن به، يحدد علاقة الإنسان بالعصر الوسيط عنها بالعصر الحديث. لذلك يطرح فكرة خاصة تعتبر بمثابة مفتاح لمعالجة الأمر، فيقول: “النقطة الأساسية التي ينبغي أن نركز عليها هي أن الناس يعتقدون أنه (أي الله) هو إله مشخص، أعني أنه عقل واع أو روح”، مستدركا: “ما الذي يؤمن به الناس عندما يقولون أنهم يؤمنون بالله بوصفه عقلا أو روحا، فلابد أنهم يؤمنون بما تتضمنه كلماتهم منطقيا، وهو أن الله وعي له سيكولوجيا تشبه أساسا سيكولوجيا البشر، ومن ثم فمن الصواب أن تنسب إليه العمليات العقلية التي تدل عليها كلمات مثل فكرة، وتصور، وغرض، وحب، وغضب”. بمعنى أن ستيس يسعى للانتقال بنا إلى عالم بات فيه الإنسان يحمل مقومات لصفات كانت منسوبة – وتنسب راهنا عند الكثيرين، ومنهم العرب والمسلمون – سابقا إلى الله.
إذاً، هي فكرة الله “التشبيهية”، في “تصور الله من منظور العقل البشري”، التي يركّز عليها ستيس. فالإنسان لا يملك إلا عقله للوصول إلى تلك الفكرة، ونتيجة لذلك لن تكون هناك إلا الصورة “التشبيهية” عن الله. ومن الصُوَر الرائجة، أو التي تمثل أساس الفكرة، تلك المرتبطة بمفردة “الخلق”. يقول ستيس: “أن تخلق يعني أن تصنع، والبشر يصنعون المنازل، والآلات، والأثاث، ولقد صنع الله العالم بهذا المعنى تماما”. صورة أخرى يشير إليها ستيس هي “الغرض”، والإشارة إليها تكمن – مثلا – في تفسير ظواهر الطبيعة “تفسيرا غرضيا”، حيث يقابله “التفسيرالآلي” الذي له سبب بدلا من الغرض، بمعنى – مثلا – تفسير الظواهر الطبيعية عن طريق القوانين الطبيعية، أي عن طريق الأسباب.
فالصورة التشبيهية بين الله والإنسان والمتعلقة بمفردة “الخلق”، والاختلاف بين التفسير الغرضي والتفسير السببي، وما رافقهما من تطورات استندت إلى فلسفات ونظريات وأدلة علمية وتجريبية، ساهما في نقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة، من مرحلة قديمة إلى مرحلة حديثة.
يؤكد ستيس أن أحد التعارضات بين العقل في العصر الوسيط والعقل الحديث هو أن الأول سيطر عليه الدين بينما سيطر العلم على الثاني. لذلك، ارتبط الدين بصفة عامة “بالغرضية” بينما ارتبط العلم “بالآلية”، أي أن العقل الديني يستند إلى التفسير الغرضي بينما العقل العلمي يستند إلى التفسير السببي. يستدرك ستيس بالقول: “قسمة أساسية للعقل الحديث استمدها من العلم هي أن نظرته في الأعم الأغلب آلية، وأنه ألقى بالنظرة الغرضية إلى الخلف”. وعلى هذا الأساس فإن “معظم علماء البيولوجيا آليون، ويميلون إلى رفض التفسيرات الغرضية حتى بالنسبة لسلوك الموجودات الحية، ونفس الكراهية للغرضية شائعة في علم النفس إذ يُنظر عادة إلى إقحام فكرة الغرض على أنها عمل غير علمي”. لذلك، فـ”أي تفسير من منظور الأسباب بالمعنى الذي نستخدمه لكلمة التفسير، أو أي تفسير من منظور قوانين الطبيعة لا يُدخِل تصور الغرض، يسمى تفسيرا آليا”. فـ”مهمة العالِم أن يقدم تفسيرات سببية أو آلية. ومن ثم يكون علمه آليا تماما. وهو قد يقول في بعض الأحيان أن الحركة، ولتكن حركة الإلكترون، لا تحكمها الأسباب، غير أن ذلك لا يعني أن تفسيره غرضي بل معناه أنه لم يصل بعد إلى تفسير، وهكذا فإن تصور علم الطبيعة للتفسير لا يزال آليا تماما”.
إن معظم الأديان، بما فيها الدين الإسلامي، تؤمن بأن الله خلق العالم “من أجل غرض ما”. أي أن النظرة الغرضية “هي سمة من سمات الموقف الديني تجاه العالم”، بالتالي هي نظرة لا تنتمي إلى العقل السببي، أو إلى العقل في العصر الحديث. في هذا الإطار يطرح ستيس مثالا، فيقول: “لقد فسرت ظاهرة قوس قزح تفسيرا غرضيا (دينيا) عندما فهمت على أنها تأكيد للإنسان بأن الجنس البشري لن يتعرض مرة أخرى للدمار عن طريق الطوفان. وهي تفسر تفسيرا آليا عندما تفهم في ضوء قوانين الطبيعة. ولقد افترض العقل في العصر الوسيط (العقل الديني) تفسيرات نهائية للشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والحيوانات، والماء ولكل الظواهر الطبيعية، على أساس أن الله خلقها من أجل الإنسان”.
إن ستيس في إشارته الختامية إلى “الله وغرضية العالم”، يقول: “إن تصور العالم على أن له غرضا، وأنه عالم تبدو فيه جميع الأحداث غير معقولة وغير واضحة، يجد له معنى في ضوء الغرضية الكونية التي فيها يبدو الخليط المهوش من التفصيلات التي لا معنى لها في الظاهر”، أما “ما حدث لهذه النظرة في القرن السابع عشر (مع تحرير العقل من الدين) وما كان من تأثير الظهور المفاجئ للعلم عليها، بطرقه الآلية في التفكير” فذلك أمر ينتمي إلى عصر آخر جديد.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com