حينما يواجه الإنسان مشكلة في حياته، ويسعى لحلّها، ثم يحلّها، سوف يشعر بالانتصار وكأنه هزم عدوّه وفتح فتحا كبيرا. هذه المشاعر، حسب المفكر الإيراني عبدالكريم سروش في رؤيته حول الله في العصر الحديث، هي التي يجلبها العقل للإنسان. فالعقل ينظر إلى جميع المسائل على أنه يمكن حلّها، ومنها مسألة معرفة الله ووجوده. أي أن الله بالنسبة للعقل هو مسألة وجودية فيسعى لمعرفتها، وكأن هناك مسألة حسابية معروضة على عالم رياضيات ويجب عليه حلّها. فأمام الفيلسوف مسؤولية حل المسألة المتعلقة بمعرفة الله، وحل أسرارها ورفع أي إبهام عنها، بهدف الوصول إلى الوضوح التام والكامل بشأنها. فيحس الفرد بعد ذلك وكأنه حقق انتصارا علميا.
أما العارف فلا يفضّل أن ينظر إلى المسألة المتعلقة بمعرفة الله ووجوده وكأنها مسألة فلسفية حسابية يسيطر عليها الفلاسفة، بل ما يهمّ العارف هو أن تستمر الحيرة في هذا الأمر، وأن يتم الإذعان بأن الله سر من الأسرار، هو يريد أن يكون مستمرا في السباحة في بحر معرفة الله، بينما يريد الفيلسوف أن يصل إلى شاطئ الأمان. لذلك، وحسب سروش، برز طريقان مختلفان لتحقيق معرفة الله في معظم الأديان، طريق العقل وطريق القلب. في طريق العقل ظهر النزاع حول حقيقة معرفة الله، وفي هذا النزاع ضاعت الحقيقة كما يقول جلال الدين الرومي (مولانا).
إنّ مهمة العقل هي إثبات وجود ذاك الإله المنشغل والمرتبط بالأمور الوجودية، لا الإله المنشغل والمرتبط بالخصال الإنسانية. هكذا يوضح سروش الفرق بين مهمة العقل ومهمة القلب، فمهمة الإله المرتبط بالعقل هي إثبات مدى حاجة العالم له، بينما مهمة الإله المرتبط بالقلب هي إثبات حاجة الإنسان له، مهمة الأول هي إثبات وجود إله في الوجود، ومهمة الثاني هي إثبات وجود رابط قوي بين الله وبين الإنسان انطلاقا من خصائص الإنسان. كما أن إله القلب أو إله العرفاء يمكن كشفه وإيجاده والتعرّف عليه في مواقع “الحيرة” وعن طريق العشق الإلهي، ولا يمكن كشفه عن طريق عقل الفلاسفة، فهذا العقل هو في ذاته محتار من قصص الحيرة التي تُسرد. وعليه، فإن العرفاء في مختلف الأديان يعتقدون بأن جوهر الإيمان يكمن في سر “الحيرة”، وأنّ الدين حينما يكون واضحا كما يريد الفلاسفة فذلك يعكس وجود الإنسان في ثنايا قشور الدين لا في الأسرار الإيمانية المحيّرة.
وكما تمت الإشارة سابقا، فإن الفلاسفة مثلما استطاعوا طرح أدلة تثبت وجود الله، استطاع آخرون طرح أدلة تنفي وجود الله، وقامت نظريات علمية حديثة بهزيمة براهين الإثبات. لذا يؤكد سروش على أنه إذا قبلنا أن يكون العقل حكما في قضايا إثبات وجود الله ومعرفته، يجب أن نقبل أيضا بالنتائج التي اكتشفها العقل في نفي وجود الله.
يؤكد سروش أن الإنسان، من حيث خصائصه الإنسانية، يحتاج إلى الله. فالبشرية اليوم تريد أن تعرف ما هو معنى الحياة، وما هو مصيرها، وما هو الفرق بين وجود الله في حياة إنسان اليوم وعدم وجوده، وما هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن؟ سؤال وجود الله في الحياة الحديثة هو عن “إشرافه” على هذا العالم لا عن “تفويضه”. فالله في الحياة الحديثة قبل أن يصبح مسألة فلسفية بات مسألة إنسانية أخلاقية. وبات السؤال المطروح هو كيف يمكن أن نجمع الله مع الإنسان؟ وهل وجود الله في حياة الإنسان يتناقض مع حرية الإنسان؟ وما معنى أن تاريخ البشرية كان تحت إشراف الله؟ ولماذا الحياة من دون وجود الله فيها هي حياة صعبة؟ وهل يمكن أن يكون للحياة معنى من دون الله؟ هذه هي أسئلة الإنسان الحديث حول الله، ومن ثم هو لا يحتاج إلى الأسئلة الفلسفية حول وجود الله بقدر حاجته إلى الإشارات العرفانية اللطيفة.