إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في مقابلة مع صحيفة “لوموند”، يُحَلِّل اللاهوتي “جان ميغيل غاريغ” الإنشقاق التدريجي بين الحركة التي أطلقها تلامذة يسوع واليهودية. ويدقق في النظرية التي غذت العداءَ المسيحي تجاه اليهود حتى القرن العشرين على الأقل: “عقيدة الاستبدال”، التي بموجبها “أرسل الله المسيح إلى إسرائيل التي لم تعتَرِف به”.
ترجمة: بيار عقل
أجرى المقابلة سيبريان ميسينسكي
في عام 2000، وبالنيابة عن الكنيسة الكاثوليكية، وضع “البابا البولندي يوحنا بولس الثاني” مخطوط “فعل الندامة” بين حجارة الحائط الغربي في القدس، طالبًا المغفرة لقرونٍ من معاداةِ المسيحية لليهودية. وساهم الراهب واللاهوتي الدومينيكاني “جان ميغيل غاريغ” في إعداد ذلك النص.
وفي كتابه “الاستبدال المستحيل”*، اليهود والمسيحيون (من القرن الأول إلى القرن الثالث)”، فإنه يدرس الإنشقاقَ التدريجي بين الكنيسة البدائية واليهودية، ويُركّز بشكل خاص على “عقيدة الإستبدال”.
*
يسوع يهودي و”لم يؤسّس دينا جديدا”، كما تذكر في كتابك. فكيف تم، إذاً، قبولُ تعاليمه من قِبَل إخوانِه في الدين؟
يقعُ يسوعُ الناصري بالكامل ضمنَ اليهودية، لكن كلامه تناقضَ مع اليهودية في عصره. في الواقع، أعاد يسوع إحياءَ النُبُوَّة، أي أنه يتكلم باسم الله ويشهد على ذلك من خلال صنع “الآيات”. والحال، فإن آخر أنبياء اليهودية المعترف بهم – حجاي ، زخاريا ، ملاخي – عاشوا قبلَه بحوالي خمسمائة عام.
في القرنِ الأول، بدت نبوّة يسوع منقطعةً عن اليهودية الراسخة. وقد فاجأ هذا الأمرُ بعضَ اليهود في عصره وحُظِي بتأييدهم، ولكنه أثار أيضًا العداء بين آخرين. في البداية، شكّلَ يسوع وتلامذتُه تيارًا جديدًا داخل اليهودية التي كانت آنذاك متعددة وتضمنت عدة تيارات أخرى. وهذا التيار الذي أدى فيما بعد إلى ظهور المسيحية، سُمِّيَ في حينه التيّار “الناصري”، لأن مصطلح “مسيحي” لم يكن له وجود له بعد.
ما هي التيارات الأخرى لليهودية في القرن الأول؟ وما علاقتها بـ«الناصريين»؟
أولاً هناك مجموعة “الصدّوقيين”، التي تجمع كهنة هيكل أورشليم. وهم نخبة اجتماعية يكرهها الشعب بسبب ثرواتها وفسادها وتواطؤها مع السلطات الرومانية. وهم الذين سلّموا يسوع إلى الرومان. ومن جهة أخرى، انسحب “الأسينيون” إلى الصحراء، إلى “قمران” على الأرجح، حيث عاشوا في شكلٍ من أشكال العزلة الرهبانية. من جانبٌ آخر، كان الهمُّ الأول لتيّار “المتعصبين”، هو تحرير أرض إسرائيل من الاحتلال الأجنبي من خلال الكفاح المسلح.
التيار الأخير، وهو تيار “الفَرِّيسيين”، هو الأكثر أهمية، لأنه سيلعب دوراً حاسماً في تطوّرِ الديانةِ اليهودية وفي علاقتها بالمسيحية الناشئة. يرى “الفََريسيون” أن الجزء الأساسي من الحياة الدينية يكمن في التأمل والتقيّد الصارم بالشريعة. لقد تفاعلوا بشكل لا يمكن إنكاره مع يسوع وتلاميذه: تستحضرُ الأناجيلُ وجبةَ يسوع مع سمعان الفريسي (لو 7، 36-49) أو مقابلته مع نيقوديموس، الفرّيسي أيضًا (يوحنا 3، 1-21).
ويبقى أن “الفريسيين” و”الناصريين” اختلفوا جذريًا حول التمييز بين ما هو حق وما هو غير حق. في الواقع، يرى يسوع أنه يمكننا في بعض الحالات أن نحيدَ عن الاحترام الصارم لأحكام الشريعة، مثل راحة يومِ السبت (مر 2، 23-28).
بل وأكثرَ من ذلك، فهو يقوم بزيارةِ أشخاصٍ يعيشون حياةً شريرة – على سبيل المثال “زكّا العشار” (أي جابي الضرائب) (لو 19، 1-10) – ويقبل بالتواصل مع الوثنيّين، مثل “قائد المئة” الروماني الذي يشفي يسوعُ خادِمَه (لو 7: 1-10). أو المرأة “السامرية” التي كشف لها أنه “المسيح” (يو 4: 4-29)، أو المرأة الكنعانية التي مدح إيمانها (متى 15: 21-28).
بالنسبة لـ”الفريسيين”، هذا أمر إشكالي للغاية، لأنه يطمسُ، بل ويمحو، الحدودَ التي وضعها الناموس بين الطاهِر والنَجِس، وبين اليهود و”الأمم”، أي غير اليهود. لاحقًا، فرضَ القديس بولس فكرةَ أن الوثنيين الذين يلتزمون برسالة يسوع لا يجب عليهم أن يختنوا أنفسهم، ما يعني أنه لا يتعين عليهم أن يصبحوا يهوداً.
وهكذا، فبينما يتجنب “الفريسيون” التعاملَ مع غير اليهود، فإن انفتاح الناصريين” على “الأمم” ينحو للتزايد. ومن هذا الاختلاف، وُلد الإنفصال بين اليهودية والمسيحية”.
كيف تمَّ هذا الفصل بين الديانتين؟
كانت الإنتفاضتان اليهوديتان في الأعوام 66-73 و132-135 هما اللّتان أدّيَتا إلى انقسامٍ تدريجي وواضح بشكل متزايد بين الكنيسة واليهودية، إلى درجة الإنشقاق. هاتان الحربان، اللتان بدأهما “المتعصّبون” لطردِ الرومان من أرض إسرائيل، انتهتا بهزائم اليهود. وكان لهما عواقب وخيمة على اليهودية والمسيحية وعلى العلاقات بين الديانتين.
فقد أدّت أولاً إلى تطوُّرٍ واضح لليهودية. وبالفعل، اختفى تيار “الصدّوقيين” وتيار “المتعصبين”. الأول بسبب تدمير هيكل أورشليم عام 70، والثاني بسبب فشل الكفاح المسلح ضد روما.
ذلك كُلّه عَزَّز بشكل تلقائي تأثير تيار “الفريسيين” على اليهودية. وفي ظلّ ذلك التيار، تمت إعادة تنظيم الدين اليهودي بقوة. فلم يعد يركز على العبادة الإلهية التي يحتفل بها الكهنة في “الهيكل”، بل على تفسير الشريعة الذي يقوم به الحاخامات في “الكنيس”.
في الواقع، فإن اليهودية التي نعرفها حتى يومنا هذا وُلِدَت في ذلك الوقت.
لكن هذه اليهودية ذات الوحي “الفرّيسي” كانت تعتبر “الناصريين” منحرفين، وتستبعدهم من “الكنيس”. علاوةً على ذلك، في نهاية الانتفاضة الثانية، أي “ثورة بار كوخبا” [132-135]، قررت روما طرد اليهود من أرض إسرائيل.
ومن بينهم يهود يحترمون الشريعة الموسوية، ويعلنون “مسيحانية” يسوع الناصري. هؤلاء “المسيحيون اليهود”، الذين كانوا حتى ذلك الحين يشكلون حلقة الوصل بين اليهودية والمسيحية الناشئة، تم إبعادُهُم نحو شرق الأردن، حيث أصبحوا مجموعة هامشية.
وهكذا شهدت الكنيسة التي كانت في طور التكوين تلاشي ارتباطها بالقدس وباليهودية. وباتت منذئذٍ مكوّنة بشكل رئيسي من الأمم” (أي من غير اليهود)، واستقرّ رأسها في روما.
لذلك، في منتصف القرن الثاني، يمكننا أن نعتبر أن المسيحية انفصلت عن اليهودية.
ومن جانب المسيحيين الأوائل أنفسهم، هل كانت هناك رغبة في قطع أنفسهم بشكل جذري عن الأصول اليهودية للمسيحية؟
كان هذا هو إغراء “المرقيونية” (marcionisme). ظهرت تلك الحركة حوالي عام 140 في أعقاب “مرقيون”، الذي اعتبر أن إلهَ الشريعة الموحى به في الكتاب المقدس العِبري مختلف تماماً عن إلهِ الرحمة في الإنجيل. لذلك كان يعتقد أن الكنيسة يجب أن ترفضَ العهد القديم. لكن، تمَّ حرمانُ “مرقيون” كنسيّاً في روما، وتمت إدانة “المرقيونية” باعتبارِها هرطقة.
ومع ذلك، فقد شهد هذا الرأي عودةً مؤسفة في تاريخ المسيحية – لنتذكّر نشطاء “دويتشين كريستن”(“الجرمان المسيحيين” بين 1932 و1945)، هؤلاء المسيحيين الذين تحالفوا مع النازية، وسعوا إلى “نزع الطابع اليهودي” للمسيحية، وللمسيح نفسه.
ويبدو لي أيضًا أنه ليس من غير المألوف أن نسمع مسيحيين يمارسون “المرقيونية” دون أن يعرفوا ذلك، خاصة عندما يزعمون التعارض الجذري بين ما يُسمَّى إله العهد القديم المنتقم وما يعتبرونه إلهَ المحبّة حصراً في العهد الجديد.
بعيدًا عن “المرقيونية”، كيف كانت المسيحيةُ المبكرة تفكِّر في علاقتها باليهودية التي جاءت منها؟
في الكنيسةِ الأولى، وبعد تهميشِ “المسيحية اليهودية”، قامت علاقة عداء لليهودية، على أساس فكرة أن اليهود وقفوا ضد يسوع والرُسُل. من هذه المعارضة وُلِدَت، في القرنين الثاني والثالث تقريبًا، “عقيدةُ الاستبدال”.
وبحسب هذه النظرية، أرسل الله المسيح إلى إسرائيل، لكنهم لم يعترفوا بهِ، ورفضوه وقتلوه.
وإِذ قَتَلت الإِله، فإن إسرائيل باتت الآن مرفوضة من قبل الله. وبحسب أنصار هذه النظرية، فإن خرابَ، الهيكل ثم تشتيت الشعب، يؤكدُ هذه الإدانة الإلهية. لقد أعطى الله “أرض الميعاد” لإسرائيل، لكنه عاد فأخذها منهم. وبالتالي، تم استبدالُ “الشعب المختار” القديم – إسرائيل – بشعبٍ جديد: هو “الكنيسة”. في النهاية، تؤدي “عقيدة الاستبدال” هذه إلى النظر إلى اليهود على أنهم الشعب الذي أتى بالكتاب المقدس، ولكن دون أن يفهمه.
وتم الاستشهادُ بعدة مقاطع من الكتاب المقدس لتبرير هذه العقيدة لاهوتيًا.
وهذا هو الحال، على سبيل المثال، في استدعاء ابني إسحق، عيسو ويعقوب (تك 25-27). عيسو هو الأكبر، لكن يعقوب هو الذي ينال الميراث والبركة من أبيه. تفسر الكنيسة هذا المقطع باعتبار أن عيسو يمثل إسرائيل ويعقوب يمثل الكنيسة. ولذلك حُرم الشعب الأكبر، أي إسرائيل، من بركةِ الله التي انتقلت إلى الشعب الأصغر، أي الكنيسة.
هل يمكن اعتبار “عقيدة الاستبدال” هذه أساسًا لمناهضة المسيحيين لليهودية؟
نعم، لأنها كانت في صُلب “تعليم الازدراء” [وهو تعبير أشاعه المؤرخ الفرنسي جول إسحاق (1877-1963)، مؤلَف كتاب “تعليم الازدراء”: الحقيقة التاريخية والأساطير اللاهوتية، في سنة 1962]، الذي ولَّدَ قرونًا من المعاناة لليهود في العالم المسيحي. واستمر هذا لفترة طويلة جدًا.
يجب أن نتذكر كيف كانت طقوس “الجُمعة العظيمة” الكاثوليكية حتى منتصف القرن العشرين. من الصعب أن نتخيل ذلك الآن، لكن الكاثوليك كانوا يُصلّون “من أجل اليهود الغادرين”، “من أجل اليهود غير المؤمنين، حتى يزيل الله الحجاب الذي يغطي قلوبهم، ولكي يتعرفوا هم أيضًا على يسوع المسيح ربنا”…
هل ما زالت “عقيدة الإستبدال” رائجة في الكنيسة الكاثوليكية اليوم؟
كلا، لحسن الحظ. فخلال بضع عشرات السنين الأخيرة، قامت الكنيسة الكاثوليكية، مع كنائس مسيحية أخرى، بإعادة نظر مُعمَّقة في علاقتها باليهودية. بعد “المحرقة”، التي أثارت دعوات للندم بين المسيحيين، قام المجمع الفاتيكاني الثاني [1962-1965] بتجديد تعليم الكنيسة حول اليهودية. وجاء إعلان “في عصرنا” (1965) لِيدينَ بلا غموض عداءَ المسيحية التقليدية لليهودية..
ثم تَمَّت مراجعة قداس “الجمعة العظيمة” بشكل عميق حيث يصلي الكاثوليك الآن “من أجل اليهود الذين تكلم إليهم الله أولاً”. يوحنا بولس الثاني [1920-2005] – وساعده في ذلك الكاردينال الفرنسي لوستيجر [1926-2007]، وهو يهودي أصبح كاثوليكيًا – ذهب إلى أبعد من ذلك. في روما، ثم في القدس، أعرب عن ندمه على معاداة اليهودية للمسيحيين على مر القرون. كما اعترف أيضًا بشكل من أشكال “البكورة” النسبية لليهودية فيما يتعلق بالمسيحية. وقال إن اليهود هم “إخوتنا الأكبر في الإيمان”.
وتعتبر الكنيسةُ الآن أن “العهدَ الجديد” الذي عقدهُ اللهُ معها لم يأتِ ليحلَّ محلَّ “العهد القديم” الذي أقامه مع إسرائيل، بل ليضيف إليه، وأن “العهد القديم” لم يتقادم بأي حال من الأحوال. يسمح هذا التطور اللاهوتي اليوم بالتبادلات والتقارب الأخوي بين العلماء وقادة الديانتين، وهو ما لم يكن من الممكن تصوره على الإطلاق قبل بضعة عقود فقط.
ولذلك فإنني متفائل للغاية: فاليهود والمسيحيون، رغم احترامهم لاختلافاتهم، يقومون بعملية إعادة اكتشاف العلاقة الأسرية التي تربطهم.
*« L’Impossible substitution. Juifs et chrétiens (Ier-IIIe siècles) », Jean-Miguel Garrigues, Les Belles Lettres, 2023.
*Jules Isaac, L’Enseignement du Mépris. Paris, Fasquelle, 1962.
في السياق نفسه، تلفت النظر دراسة سلمان مصالحة المنشورة على هذا الموقع عن “لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
أي عن علاقة الإسلام باليهودية.
ليس مسألة بسيطة أن يعلن لاهوتي مسيحي فاتيكاني « شرعي » أن يسوع “يهودي” وأنه ”لم يؤسّس دينا جديدا”، أو أن « يسوعُ الناصري يقعُ بالكامل ضمنَ اليهودية »، أو أن يصف المسيحيين بأنهم « يهود يحترمون الشريعة الموسوية”!.. ويعلنون “مسيحانية” يسوع الناصري. أو أنهم “المسيحيون اليهود ».
بالنسبة للمسيحيين، وايضاً بالنسبة لغير المسيحيين، هذا يعني عمليا أن المسيح « اليهودي »، أي المسيح، “نبي الفرقة الناصريةّ في “اليهودية » نجح في إطلاق أكبر دين عالمي حالياً، أكثر من 2 مليار نسمة.
لست خبيراً في علوم الأديان، لكن يبدو لي أن ذلك كله مهم للمسيحيين وايضاً للمسلمين.
ما رأيكم؟