ماذا يحدث في الفاتيكان؟ وكيف سيؤثر في “الكنائس الشرقية”؟
إستقالة البابا بندكت تشكّل سابقة تاريخية، ولو أنه سبقتها في العام ٢٠٠٨، ولأول مرة، استقالة ”البابا الأسود” (الذي يُنتَخَب أيضاً لمدى الحياة)، أي ”جنرال” اليسوعيين، الهولندي ”بيتر هانز كولفينباخ” الذي يعيش الآن كـ”راهب” عادي في لبنان! انتخاب ”يسوعي” لمنصب ”البابا” لأول مرة منذ تأسيس ”السلك اليسوعي” قبل أكثر من ٥٠٠ سنة يشكّل، أيضاً، سابقة مطلقة. فـ”الرهبنة اليسوعية” أسّسها الإسباني ”القديس إغناطيوس دي لويولا” في القرن السادس عشر بعد أن درس في “السوربون” الباريسية، كجزء من الإصلاح المضاد للوثرية لتكون “في خدمة البابا” بعيداً عن “مناصب الكنيسة”.
ولكن الأهم، هو أن الملابس البيضاء العادية وغير الفاخرة لـ”أسقف روما”، كما يسمّى البابا فرنسيس نفسه، توحي بأن الكنيسة الكاثوليكية قد تكون مقبلة على تغييرات جذرية. ولقب “أسقف روما”، بالمناسبة، هو اللقب التاريخي لما أصبح يُعرف بـ”بابا الفاتيكان” (التحوّل من ”أسقف روما” إلى ”البابا كرأس مطلق للكنيسة” هو أحد أسباب الخلاف التاريخي مع الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة اللوثرية). وقد أحاط البابا الجديد نفسه بمجمع من ٨ كرادلة يمثّلون ”سلطة جماعية” في الكنيسة الكاثوليكية. وأطلق تصريحات تنمّ عن ”تواضع أخلاقي” غير مألوف (“من أنا لأدين المثليين جنسيا؟”). وكانت أولى زيارته لـ”رعيته” زيارة للاجئين وصلوا في زوارق الموت إلى سواحل إيطاليا. كما شرع بإصلاحات حقيقية في ما يسمّى ”بنك الفاتيكان”، الذي كان متّهماً بغض النظر عن بعض عمليات تبييض الأموال (حذّر مدعي عام لوميارديا من أن البابا فرنسيس معرّض للإغتيال من جانب “المافيا” التي تضرّرت مصالحها بوجوده!).
هل تقتصر ”بابوية فرنسيس اليسوعي” على ”المظاهر”، أم هل تكون بابويّته بداية تغييرات جذرية في الكنيسة الكاثوليكية التي يٌُقاس التغيير فيها عادةً بربع القرن أو نصف القرن أو حتى بالقرون؟ وهل يستهلّ “أسقف روما” فرنسيس مرحلة تقارب تاريخي مع بطريرك القسطنطينة الأرثوذكسي الذي درس اللاهوت عند “اليسوعيين” في روما أيضاً؟ هنا ينبغي ملاحظة أن البابا الأرجنتيني (لأول مرة) يأتي من قارة أميركا الجنوبية الكاثوليكية بمعظمها سوى أنها، كذلك، القارة التي تتقدّم فيها ”البروتستانتية بسرعة كبيرة على حساب الكاثوليكية.
مسألة زواج الكهنة (مؤسس الكنيسة الكاثوليكية القديس بطرس كان متزوّجاً، ولم يتم استحداث عدم زواج الكهنة القرن الثاني عشر)، ومسألة الطلاق وإعادة الزواج للكاثوليك المطلّقين ستكون أحد أهم المواضيع التي يمكن أن تطالها إصلاحات فرنسيس. ويقول مصدر فاتيكاني أن البابا ”بندكت” نفسه كان مقتنعاً بفكرة زواج الكهنة، على الطريقة الأرثوذكسية المتّبعة في المشرق.
لماذا يهتم ”الشفاف”، العلماني، بمسألة ”إصلاح الكنيسة الكاثوليكية” (أكبر أديان العالم)؟ للأسباب نفسها التي جعلت من “الشفاف” الموقع الأول لدعاة “الإصلاح الإسلامي” الحديث، وقد فقدنا أعظمهم خلال السنة الحالية، “شيخ الشفاف” جمال البنّا (الشقيق الأصغر لمؤسّس “الإخوان المسلمين” حسن البنّا)، والعفيف الأخضر، والمستشار محمد سعيد العشماوي.
مع فارق مهم، ومثير: فالإصلاح الكاثوليكي، إذا حدث، سيتم وسط بيئات بمعظمها بيئات علمانية وحديثة ومواكبة للعصر وتقل فيها معدّلات الأمية، أي بيئات أوروبية وأميركية شمالية، وأميركية جنوبية رغم وجود بيئات “مشرقية” و”إفريقية” كاثوليكية أقل حداثةً. وإذا تم الإصلاح، فإن من سيقوم به سيكون بابا قضى حياته في سلك اليسوعيين الذي لعب دوراً تاريخياً في تطوير العلوم الطببعية والذي أقام عشرات الجامعات في كل قارات العالم.
أي أنه سيكون “إصلاح القرن الواحد والعشرين”.
بيار عقل
*
أجرت مجلة ”شبيغل” الألمانية حواراً مدهشاً مع ”عالم اللاهوت” السويسري الإصلاحي ”المنشق” هانز كونغ يبدي فيه تعاطفه الكبير مع ”فرنسيس” الذي يبدو أنه يطبّق بعض ما دعا إليه هو من إصلاحات. وفي معرض المقارنة يقول ”هانز كونغ” أن البابا يوحنا لم يردّ على رسائله طوال ٢٧ سنة في حين أجابه البابا فرنسيس على الفور بعدة رسائل.
إن ”هانز كونغ” (٨٥ عاماً) هو أحد أبرز علماء اللاهوت المسيحي في العالم. وفي العام ١٩٦٠، عُيِّنَ بروفيسوراً لعلم اللاهوت الأساسي في جامعة ”توبنغين” بألمانيا. وبعد سنتين، عيّنه البابا يوحنا الثالث والعشرين كمستشار وخبير لاهوتي لأعضاء ”المجمع الفاتيكاني الثاني”. ولكن، في العام ١٩٧٩، بعد أن رفض ”عقيدة عصمة البابا” (التي تُذكّر بـ”العصمة” عند أئمة الشيعة!)، فقد نزع منه الفاتيكان رخصة التعليم بصفة عالم لاهوت كاثوليكي مع أنه ظلّ يعمل اللاهوت المَسكوني في الجامعة حتى تقاعده في العام ١٩٩٦.
شهادة ”هانز كونغ” في ”فرنسيس” جديرة بالقراءة لأنه كان أبرز نقّاد الكنيسة الكاثوليكية وربما أكثرهم جرأة.
في ما يلي نصّ الحوار:
شبيغل: ما يحدث في الفاتيكان حالياً هو ما قضيت عمرك وأنت تكافح لتحقيقه: إصلاح الكنيسة وتغييرها باتجاه ليبرالي. ويحدث ذلك في حين أنك أنت أصبحت عجوزاً ومتردي الصحة. هل هذه سخرية التاريخ.
كونغ: السخرية تنطبق أكثر على زميلي السابق (في تعليم اللاهوت بالجامعة) جوزيف راتزينغير (أي البابا بندكت). أنا لم أكن أتوقّع أن أشهد تحوّلاً جذرياً في الكنيسة الكاثوليكية أثناء حياتي. واقترضت دائماً- بل حتى تقبّلت نفسياً- أن “كونغ” سيرحل و”راتزينغير” سيبقى! ولهذا السبب، فقد أصبت بالدهشة حينما قرّر البابا بندكت أن يرحل وحينما تولّى البابا فرنسيس خلافته في ١٩ آذار/مارس ٢٠١٣، وهو يصادف يوم ميلادي ويوم القديس بندكت!
الكرادلة الذين انتخبوا فرنسيس لم يكونوا يعرفون كم هو ثوري!
شبيغل: كيف حدث أن مجمع كرادلة يتألف من رجال محافظين ورجعيين بالإجمال قد انتخب رجلاً ثورياً لمنصب البابا؟
كونغ: بداية، فهم لم يكونوا يعرفون إلى أي حد هو ثوري. ولكن بمعزل عن النواة الصلبة لرجال الكهنوت في الفاتيكان، فإن العديد من الكاردينالات كانوا يدركون أن الكنيسة تمرّ بأزمة عميقة، احد رموزها الفساد في الفاتيكان، والتستّر على قضايا التحرّش الجنسي، وفضيحة تسريب مراسلات البابا (الفاتيليكس). وغالباً ما واجه الكرادلة إنتقادات حادة من الأبرشيات التي يمثّلونها.
شبيغل: لكن، هل يمكن لشخص واحد أن يثوّر مؤسسة مثل الكنيسة الكاثوليكية؟
كونغ: نعم، إذا تلقى نصحاً جيداً كبابا وإذا كانت لديه إدارة كفؤة. من الناحية القانونية البحتة، فالبابا يتمتع بسلطة تفوق سلطة رئيس الولايات المتحدة.
شبيغل: ولكن فقط ضمن الكنيسة لأن قراراته، مثلاً، لا تخضع لموافقة برلمان.
كونغ: كما أنه لا توجد محكمة عليا في الفاتيكان. ولو أراد، فإنه يملك القدرة على الإلغاء الفوري لقانون بتولية (عدم زواج الكهنة الكاثوليك) الذي أُقرَّ في القرن الثاني عشر,
“الربيع الكاثوليكي” بعد “الربيع العربي”
شبيغل: هل يمكن أن الربيعُ الكاثوليكي الربيعَ العربي؟
كونغ: الربيع الكاثوليكي قائم الآن فعلاً، ولكنه معرّض لنفس مخاطر النكسات والحركات المضادة التي تعرّض لها الربيع العربي. هنالك مجموعات قوية في الفاتيكان وفي الكنيسة حول العالم تريد إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. وهذه الجماعات تخشى على امتيازاتها.
شبيغل: هل يزعجك أنك لم تعد تشارك في النقاشات الجارية؟
كونغ: أنا أنظر للأمور بهدوء. يهمني أن يقرأ البابا ما أرسله له أكثر مما يهمني أن يدعوني إلى روما.
شبيغل: كتب لك مؤخراً أنه يحب قراءة الكتابين اللذين أرسلتهما له، وأنه يظل “بتصرّفك”.
كونغ: فعلاً، استلمت رسالتين ودّيتين للغاية، وبخط اليد، منه. وكان على الظرف عنوان مسكنه في الفاتيكان كأي شخص عادي، ووقّع الرسالتين مع “تحيّاته الأخوية”. حتى هذه التفاصيل تمثّل أسلوباً جديداً. فخلال ٢٧ سنة، لم يعتبر البابا يوحنا بولس الثاني أنني أهل لتلقي جواب واحد منه على رسائلي!
شبيغل: بمن يمكن أن تقارن فرنسيس؟
كونغ : ربما بالبابا يوحنا الثالث والعشرين، سوى أنه لا يعاني من إحدى نقاط ضعف سلفه. فقد قام يوحنا الثالث والعشرين بإصلاحات بطريقة عابرة وبدون روزنامة. وارتكب أخطاء إدارية كبيرة.
شبيغل: السؤال هو ما إذا كان فرنسيس يكتفي بإبهار الناس بـ”حركاته”، أم أن هنالك شيئاً أكثر خلف هذه “الإشارات والإيماءات”؟
كونغ: إن الملابس الأبسط، والتغييرات في البروتوكول واللهجة المختلفة في الحدث- هذه ليست أشياء سطحية. لقد أحدث فرنسيس تحوّلاً في “المثال” أو النموذج. مع هذا البابا، فإن طابع “الخدمة” للمنصب البابوي يبرز من جديد. وهو يطالب الكهنة بأن يخرجوا من الكنيسة وأن يجتمعوا مع الناس. ومؤخراً، أرسل بيانات إستطلاعات رأي للأساقفة لمعرفة أراء عامة الناس في شؤون الأُسرة. وكانت أول رحلة قام بها للاجئين غير أوروبا أوصلتهم زوارقهم إلى مرفأ “لامبيدوسا” الإيطالي. ذلك كله يمثل خروجاً عن نمط تأويل البابا بندكت لمنصبه. كما أن الدعوة إلى “كنيسة فقيرة” تؤدي إلى طريقة تفكير مختلفة. في ظل البابا بندكت، ربما كان أسقف “لمبورغ” الألماني الذي بذّر أموالاً طائلة لبناء أسقفيته قد ظل في منصبه!
شبيغل: مع ذلك، فقد ثبّت فرنسيس الأسقف ”غيرهارد لودفيغ مولير”، وهو من المتشددين، في منصبه كرئيس لمجمع عقيدة الإيمان، أي الهيئة الفاتيكانية المسؤولة عن مراقبة العقائد المقبولة رسمياً وفرضها.
كونغ: أتخيّل أن البابا بندكت سعى بكل قواه لإبقاء مولير في منصبه. ولكن الإختبار الحقيقي هو ما إذا كان البابا فرنسيس سيسمح له بأن يلعب دور المُشرِف على شؤون الإيمان و”المحقّق” في صحة العقيدة.
شبيغل: أعلن فرنسيس عن ”تطويب” البابا يوحنا الثاني، وهو بابا ”رِدّة” قام بتقوية جماعات مثيرة للشجال مثل الـ”أوبوس داي” (سلك علماني - كهنوتي تأسّس في إسبانيا في عهد فرانكو) و”فيلق المسيح”.
كونغ: لا أفهم لماذا ينبغي تطويب هذا البابا. فهو كان الأكثر تناقضاً بين كل باباوات القرن العشرين. وكان يقدّس العذراء مريم، ولكنه حرم على النساء المراكز الكنسية. ووعظ ضد انتشار الفقر، ولكنه حرّم وسائل منع الحَمَل. لقد تطرّقت إلى ١١ من هذه التناقضات الأساسية مطولاً في الجزء الأخير من مذكراتي. وكانت أقواله تفترق دائماً عن أفعاله. ومثلاً، كان يعتبر الكاهن ”مارسيال ماسييل”، وهو من أسوأ الكهنة الذين تحرّشوا بصغار السن وكان مؤسس ”فيلق المسيح”، صديقه الشخصي ولم يكن يقبل بأي انتقاد له.
شبيغل: مع ذلك، فأنت تُسامح فرنسيس لأنه يريد تطويب هذا البابا؟
كونغ: لقد سرّع البابا بندكت تطويب البابا البولوني ”فوجتيلا” (يوحنا الثاني)، متجاهلاً فترات الإنتظار المفترض التقيّد بها. إن إيقاف ما تمّ القيام به لن يشكل إساءة للبابا بندكت فحسب، بل وسيصدم الكثير من أبناء الشعب البولوني. وأنا أفهم لماذا لا يرغب البابا فرنسيس في القيام بذلك. وعلى الأقل، فقد أعلن عن تطويب بابا إصلاحي هو البابا يوحنا الثالث والعشرين.
بعد ذلك، علينا أن نفكّر، كذلك، في ما إذا كان ”تطويب” بعض الناس، وهذا إختراع يعود إلى القرون الوسطى، ما زال مقبولاً في يومنا.
شبيغل: هل تتوقّع أن يُعاد لك الإعتبار أثناء حياتك؟
كونغ: كلا. يمكن لمؤتمر الأساقفة الألمان أن يبدأ عملية إعادة الإعتبار، ويكفي أن توافق روما عليه. ولكنني لم أعد أتوقع حدوث ذلك. لا ينبغي للبابا فرنسيس أن يعرّض مهاماً أخرى أكبر للخطر عبر إعادة الإعتبار لي أو عبر التقرّب مني!!
زواج الكهنة ضروري
شبيغل: كان أحد أسباب عزلك عن تعليم اللاهوت أنك تساءلت عما إذا كان ضرورياً ان يبقى الكهنة بدون زواج. هل تعتقد أن قواعد بتولية الكهنة يمكن أن تتغيّر في عهد فرنسيس؟
كونغ: لا يمكنني أن أتصوّر أن يستمر تأجيل بت هذه المسألة خصوصاً مع التناقص الحاد في عدد كهنة الرعية. ولا أعرف كيف يمكن للكنيسة أن توفّر العناية بالرعية في الجيل القادم. إن الموضوع مطروح منذ مدة طويلة، ومعظم الكاثوليك يؤيديون هذا الإصلاح.
اللاهوتي ”المنشق” هانز كونغ: ”الربيع الكاثوليكي” الآن ويقوده البابا فرنسيس!
مقدمة الشفاف مهمة
نتمنى من الشفاف ومن الاستاذ بيار مواصلة نشر الاخبار التي تتعلق باصلاح الكنائس الكاثوليكية والبروتستانيتة … عسى ان يكون لها صدى عند طلاب الحداثة والاصلاح في “الكنائس” الاسلامية
اللاهوتي ”المنشق” هانز كونغ: ”الربيع الكاثوليكي” الآن ويقوده البابا فرنسيس!
استاذ بيار مقدمتك عن اهتمام الشفاف بالاصلاح عالميا فكرة رائعه ودليل على انك وشفافك تسيرون على نهج كوني واضح ورؤية إنسانيه راقيه.
ما أروعك أخي العزيز..