الأزمة الأيديولوجية التي يواجهها «حزب الله»

2

منذ نهاية حرب تموز/يوليو عام 2006، ألقى الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله جميع خطاباته الجماهيرية تقريباً من مكان حصين (مع استثناء وحيد). في مطلع آب/أغسطس 2013، وتحديداً في “يوم القدس”، أقدم نصر الله على الظهور علناً – وهو أمر نادر الحدوث – لحشد أنصاره في ضوء إحدى أشد التحديات التي واجهها «حزب الله» منذ نشأته. وقد واجه الأمين العام للحزب تحديات كبيرة في يوم الخطاب، وكذلك هو الحال في الوقت الراهن.

لقد وُجه الاتهام – من قبل “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” ومقرها في «لاهاي» – إلى عناصر من «حزب الله» بالضلوع في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وتم اعتقال آخرين بتهمة التخطيط لشن هجمات إرهابية في نيجيريا، وإُدانة عناصر أخرى منهم بتهم مماثلة في تايلاند وقبرص. وقام الاتحاد الأوروبي بإدراج الجناح العسكري لـ «حزب الله» في القائمة السوداء، كما حظر “مجلس التعاون الخليجي” على الدول الأعضاء فيه تقديم أي دعم للحزب، وبدأ في ترحيل أنصار المليشيا الشيعية المشتبه بهم.

بيد أن كل ذلك لا يُعتبر ذا شأن أمام التحديات الوجودية التي يواجهها «حزب الله» جراء مشاركته الفعالة في الحرب في سوريا. فبوقوفه مع نظام الأسد ومساندته لأنصار النظام العلويين وإيران وحمله السلاح ضد الثوار السُنة، فهو بذلك قد وضع نفسه في بؤرة صراع طائفي، ليس له علاقة من قريب أو بعيد بعلة وجود الحزب المزعومة وهي: “مقاومة” الاحتلال الإسرائيلي. وكما قال كاتب لبناني شيعي ساخر بعد يوم من خطاب نصر الله في «يوم القدس»: “إما أن المقاتلين لم يجدوا فلسطين على الخريطة واعتقدوا بأنها في سوريا، وإما أنه قيل لهم أن الطريق إلى القدس يمر عبر القصير وحمص”، وهي مناطق في سوريا قاتل فيها «حزب الله» إلى جانب قوات الأسد ضد الثوار السُنة.


غير أن المعنى الضمني واضح. فـ «حزب الله» اللبناني لم يعد “مقاومة إسلامية” خالصة لقتال إسرائيل، بل أصبح ميليشيا طائفية ووكيلاً إيرانياً يقوم بالمزايدة لصالح بشار الأسد وآية الله خامنئي على حساب أشقائه المسلمين.
لذا لم يكن مفاجئاً أن تأتي الضربات ضده من دوائر متطرفة أيضاً. ففي حزيران/يونيو، أصدرت “كتائب عبد الله عزام”، التابعة لـ تنظيم «القاعدة» في لبنان بياناً تحدّت فيه نصر الله ومقاتلي «حزب الله» “بإطلاق رصاصة واحدة على فلسطين المحتلة، وإعلان مسؤوليتهم” عن ذلك. وأضاف البيان أن باستطاعتهم إطلاق النار على إسرائيل من لبنان أو سوريا، بعد أن رأوا «حزب الله» “يطلق آلاف القذائف والطلقات النارية على السنة العزل وعلى نسائهم وشيوخهم وأطفالهم، ويهدم منازلهم على رؤوسهم”.

ولكن بينما قد يكون من المتوقع استهزاء وتهكم الجماعات السنية المتطرفة، يواجه «حزب الله» الآن تحديات لم يكن يتوقع مواجهتها قبل بضع سنوات. على سبيل المثال طالب الرئيس اللبناني ميشال سليمان قبل يوم واحد من خطاب نصر الله في آب/أغسطس – وللمرة الأولى على الإطلاق – الدولة اللبنانية الحد من قدرة «حزب الله» على العمل كميليشيا مستقلة خارج سيطرة الحكومة. فإقدام «حزب الله» على الزج بمقاتلين في سوريا، أوجد لدى العديد من اللبنانيين شعوراً بأن الحزب إنما يضع مصلحته كجماعة فوق مصلحة لبنان كدولة، وهو الشيء الذي يتناقض مع الصورة التي طالما سعى جاهداً أن يرسمها عن نفسه وهي أنه جماعة لبنانية أولاً وقبل كل شيء. والآن بعد أن وصف «حزب الله» نفسه بأنه يتقدم الصفوف للدفاع عن المطرودين في وجه ما يتعرضون له من ظلم فضلاً عن محاولاته الدائمة للتقليل من أهمية هويته الطائفية الموالية لإيران، يجد الحزب أنه قد تم الطعن في هذه المزاعم في ضوء رفضه الالتزام بالموقف الرسمي للحكومة اللبنانية بعدم التدخل في سوريا. بل وعلى العكس من ذلك، فإن دعم «حزب الله» الوقائي لممارسات النظام العلوي الوحشي ضد المعارضة السورية التي غالباً ما يقودها السنة، يقوض صورته المنغرسة في الأذهان منذ وقت طويل على أنه حركة «مقاومة» لبنانية بلا ريب.

وفى خطابه حاول نصر الله إخفاء حقيقة مفادها أن اللبنانيين السُنة والشيعة يقاتلون الآن بعضهم البعض علناً في سوريا ويهددون بجر القتال الطائفي الدائر عبر الحدود إلى لبنان، عن طريق الإشارة إلى أن الشيعة والسنة في لبنان اتفقوا على ألا يتفقوا بشأن سوريا. وقال نصر الله في خطاب له في أيار/مايو الماضي موجهاً كلامه إلى السنة في لبنان: “إننا نختلف بشأن سوريا. أنتم تقاتلون في سوريا؛ ونحن نقاتل في سوريا؛ فدعونا نتقاتل هناك. هل تريدون أن أكون أكثر صراحة؟ لنترك لبنان بعيداً عن الحوادث. لماذا يجب أن نتقاتل في لبنان؟” إلا أن ذلك الطرح لم يلق قبولاً لدى رفاق نصر الله من اللبنانيين، الذين أرادوا إنهاء التدخل اللبناني في الحرب في سوريا، وليس اتفاقاً نبيلاً يقوم على قتل المواطنين اللبنانيين بعضهم البعض عبر الحدود.

وفي الخطاب ذاته، تحدث نصر الله عن “خطرين كبيرين” يواجهان لبنان: الأول، كما قال، هو “إسرائيل ونواياها وجشعها ومخططاتها”. والخطر الثاني كما أضاف نصر الله يتعلق بـ “التغييرات التي تحدث في سوريا”. وبالنسبة لإسرائيل، حذر نصر الله من أنها تشكل تهديداً يومياً للبنان. وأما سوريا، فالنظام هناك يواجه “محوراً تقوده الولايات المتحدة التي من المؤكد أنها صانعة القرار فيه”. كما أن البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين والألمان والعرب والأتراك مشتركون أيضاً، ولكنهم “جميعاً يعملون لصالح الأمريكان [نفس المصدر]”. ولكن من هي القوة الحقيقية المسؤولة عن “التغييرات التي تحدث في سوريا”؟ “نحن نعرف أيضاً أن هذا المحور يحظى بدعم ضمني من إسرائيل نظراً لأن المشروع الأمريكي في المنطقة إسرائيلي بامتياز”. وأكد نصر الله أن «حزب الله» لا يقاتل في سوريا في صراع طائفي، بل يكافح المشروع التكفيري السني المتطرف الذي له علاقات مع تنظيم «القاعدة» و”تموله وتدعمه أمريكا” لتحقيق المصلحة الأمريكية بتدمير المنطقة. وبعبارة أخرى، إن الحرب الدائرة في سوريا لم تعد ثورة شعبية ضد نظام سياسي، ولكن ساحة تسعى من خلالها أمريكا إلى فرض مشروعها السياسي الخاص على المنطقة. واختتم نصر الله حديثه قائلاً: “حسناً، نعلم جميعاً أن المشروع الأمريكي في المنطقة مشروع إسرائيلي بلا شك”. وهكذا ففي قتالنا في سوريا “نعتبر أنفسنا اليوم بأننا ندافع عن لبنان وفلسطين وسوريا”.


ولكن ثمة قلة من خارج مؤيدي «حزب الله» يقتنعون بهذا المنطق الملتوي الذي مفاده بأن الثورة السورية هي مخطط أمريكي أو إسرائيلي.
ولم تسنح الفرصة لنظام الأسد و «حزب الله» لتوجيه الاتهامات إلى إسرائيل إلا عندما استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية مخازن الأسلحة – سواء تلك المنقولة من نظام بشار الأسد إلى لبنان أو الأسلحة الإستراتيجية مثل الصواريخ الروسية (ياخونت) المضادة للسفن.

فعلى سبيل المثال، في تموز/يوليو، استهدفت غارة إسرائيلية مخزن أسلحة بالقرب من اللاذقية كان يحتوي على صواريخ متطورة مضادة للسفن. وقبل ذلك بشهرين، استهدفت مقاتلات إسرائيلية شحنة صواريخ أرض- أرض متنقلة من نوع “فاتح-110″، مع أسلحة أخرى، كانت إسرائيل تخشى من نقلها إلى «حزب الله». وفي كانون الثاني/يناير، استهدفت إسرائيل قافلة تنقل صواريخ أرض- جو روسية من نوع “SA-17″، اعتقدت إسرائيل أنه يتم نقلها إلى «حزب الله». ولكن حتى عندما وقعت مثل هذه الغارات، أوضح مسؤولون إسرائيليون علناً أن إسرائيل ليس لديها مصلحة في أن تصبح طرفاً في الحرب في سوريا. كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد في حزيران/يونيو أن “إسرائيل لن تتورط في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، طالما لم يتم استهدافنا”.

ومن سوء حظ «حزب الله» أن تصريحات نتنياهو لم تكن مجرد دعاية. فمنذ فترة طويلة ينتهج الإسرائيليون سياسة محاولة منع وصول الأسلحة إلى الجماعات الإرهابية مثل «حزب الله» – بدءاً بعملية الاستيلاء على سفينة “كارين A” في البحر عام 2002، ومروراً بإرسال طائرات حربية لتدمير مصنع أسلحة إيراني تردد أنه موجود في السودان في تشرين الأول/أكتوبر عام 2012 وعمليات أخرى – ولم تتدخل إسرائيل في الحرب السورية بأي طريقة أخرى باستثناء تلك الهجمات القليلة المنفصلة التي استهدفت مخابئ الأسلحة. ولهذا السبب، وعلى عكس ما هو متعارف عليه في السابق، ربما يحاول «حزب الله» جر إسرائيل إلى الحرب.

وفي مطلع آب/أغسطس، وقع مثل هذا الحادث عندما أصيب أربعة جنود إسرائيليين في انفجارين أثناء مرورهم في دورية على الحدود مع لبنان. ووفقاً لصحيفة “الأخبار” اللبنانية اليومية التي تعتبر ناطقة بلسان «حزب الله»، كان هذان التفجيران جزءاً من “كمين” منظم، يوضح إمكانيات “جهاز الاستخبارات” التابع لـ «حزب الله». وربما يسعى «حزب الله» أيضاً إلى خلق ذريعة لإطلاق عدد محدود من الصواريخ ضد إسرائيل ربما رداً على هجوم إسرائيلي مضاد بعد شن غارة عبر الحدود. وقد دعا «حزب الله» بالفعل جماعات فلسطينية إلى تنظيم وتنفيذ هجمات على إسرائيل من مرتفعات الجولان، وعرض نصر الله المساعدة لأي جماعة تقوم بذلك.

وقد اتخذ «حزب الله» موقفاً مماثلاً في أواخر ذلك الشهر، في أعقاب الهجوم بالأسلحة الكيماوية في 21 آب/أغسطس في دمشق، وقد بدت الولايات المتحدة (في البداية) مستعدة لشن هجوم عقابي على سوريا بسبب انتهاك الخط الأحمر الذي وضعه الرئيس أوباما لاستخدام الأسلحة الكيماوية. وعلى الفور، حذر الشيخ عفيف النابلسي المؤيد لـ «حزب الله» من أن “أي اعتداء أمريكي على سوريا سوف يجد رداً قاسياً ضد المصالح الأمريكية في المنطقة وضد إسرائيل مباشرة”. وأوضح مصدر رفيع المستوى مقرب من «حزب الله» لصحيفة «ديلي ستار» أنه إذا “كان الهجوم الغربي مقتصراً على أهداف معينة في سوريا، فلن يتدخل «حزب الله»”. ولكنه أضاف، “في حال شن هجوم نوعي يستهدف تغيير ميزان القوى في سوريا، سوف يقاتل «حزب الله» على جبهات متعددة”، منها “شن حرب نكراء ضد إسرائيل”. وكانت الإشارة هنا بوضوح إلى إمكانية إطلاق «حزب الله» صواريخ على إسرائيل. هذا وربما قدمت الضربات الأمريكية فرصة بديلة كان «حزب الله» يسعى إليها من أجل شن هجمات على إسرائيل، ولكن دون أن يكون ذلك الضرب قاسياً بما يستلزم رداً ساحقاً في المقابل.

وإذا لم يجد «حزب الله» حجة إسرائيلية ضعيفة يبرر بها الاحتفاظ بسلاحه بصفته كيان يقوم بـ”مقاومة مشروعة”، لن يتبقى للحزب الكثير لتبرير وجوده كميليشيا مستقلة تعمل خارج سيطرة الحكومة اللبنانية. ولكن الأسوأ من ذلك هو أنه طالما استمر «حزب الله» في القتال إلى جانب إيران ونظام الأسد ضد الثوار السنة، سيتم اعتبار «حزب الله» وبشكل متزايد على أنه قوة طائفية تعمل على تقويض المصالح الأمنية والسياسية للدولة اللبنانية. ويستمر «حزب الله» في شحذ إمكانياته العسكرية على طول الحدود مع إسرائيل؛ ووفقاً لقائد المنطقة الشمالية في إسرائيل ميجور جنرال يائير جولان، فعند المقارنة بما كان عليه الوضع قبل سبعة أعوام، عندما حاربت الميليشيا الشيعية إسرائيل في المرة الأخيرة، فإن “«حزب الله» هو [اليوم] أفضل تسليحاً وأفضل تدريباً وأكثر حذراً”.

وربما يشعر «حزب الله» في مرحلة ما بالحاجة إلى تجديد أوراق اعتماده كـ “حركة مقاومة”. وعندما يمضي في هذا الطريق، سوف تصبح إسرائيل في مرمى نيران «حزب الله» اللبناني مرة أخرى.

ماثيو ليفيت هو مدير برنامج ستاين للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن ومؤلف كتاب “«حزب الله»: البصمة العالمية الواضحة لـ «حزب الله» اللبناني”.

2 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
ان القراءة هي التي تقعد الاقزام على رقاب العمالقة”-جودت سعيد
ان القراءة هي التي تقعد الاقزام على رقاب العمالقة”-جودت سعيد
10 سنوات

الأزمة الأيديولوجية التي يواجهها «حزب الله»ان القراءة هي التي تقعد الاقزام على رقاب العمالقة”-جودت سعيد • منطلقات العمل-جودت سعيد: يبصر الإنسان الأشياء بخلفيته الثقافية وبمواريثه الاجتماعية، والإنسان وإن كان له عينان يبصر بهما، إلا أن له بصيرة يفسر بها ما تبصره عيناه. وهذه البصيرة يصنعها المجتمع، ويأخذها الإنسان منه. يروى أن صوفياً خرج إلى الصحراء متعبداً، فرأى في طريقه طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر، ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع؛ فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر، فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام فراخه فعجب الصوفي وقال في نفسه: فيمَ أسعى وأتعب؟ ثم أوى… قراءة المزيد ..

خالد
خالد
10 سنوات

الأزمة الأيديولوجية التي يواجهها «حزب الله»ظهرت مؤخراً نغمة الناطق الاعلامي للمحكمة الدولية للبنان, أنه ولو كان خمسة متهمين من قيادة حزبالله,بإغتيال الحريري ومئات من اللبنانيين الأبرياء, ليس معناه أن الحزب متهم مباشرةً. عندما نسمع هذا التصريح, فلا بد أن يخرج كل الوسخ من معدنا فوراً من الفم. لم يعترف نصرالله بالمحكمه الدوليه, وقال أنهم سينتظروا 300 سنه قبل القبض على المتهمين, هل يكون الحزب خارج هذا الإتهام.هناك محامون يمثلون المتهمين الخمسة في المحكمة, من يدفع تكاليفهم. المتهمون كلهم أو بعضهم لا يزال يقاتل في صفوف الحزب في سوريا ولبنان. لم يتبرأ الحزب يوماً منهم, أو أدان فعلتهم. لم يسمح الحزب… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading