منذ البارحة وهاجس سماع حكايا الناس لم يغادرني… أغبٌ ما أستطيعه من كلماتٍ، ولا أجسر على حملِ ورقة وقلم لأكتب ملاحظاتي.. خشية توجس صاحب الكلمات.. أو تخوفه من ورقة وقلم.. ربما إدانة لكلماتٍ أراد أن يفيض بها دون رقيب من أي نوع..
أترك الكلمات تتهادى على وقع حركات العيون والجباه والأيدي. تنقل لي ولكم أحلاماً سوف تتحقق بالتأكيد، عند البعض، وأحلاماً قد تتحقق عند البعض الآخر، وأحلاماً يخشى عليها من فتنة أو مؤامرة عند الكثيرين…
سمعت الكثير من الحكايا.. ومن ردات الفعل كذلك، حكايا عن مخاوف يتداولها الناس حول فتنة.. فتدفعهم للتمسك بالأمان ومن يصنع الأمان. وخوف من جماعات تحارب التغيير بكل الوسائل.. فتستأجر رجالاً لإحداثها، وتورد أسلحةً أو أموالاً أو هوياتٍ مزورة تثير البلبلة في النفوس.
سمعت عن ما يسمى بالنعرات الطائفية.. ومحاولة بعض المثقفين محاربتها فيتم تهديدهم واتهامهم بالخيانة والاندساس.
سمعت عن شهداء سقطوا في الأسابيع الماضية، وبطولات بعضهم.. وخوف أهاليهم اللاحق ومنعهم من فتح بيوت عزاء أو كتابة نعوات على الجدران.. فكيف بإطلاق لقب شهيد على أي منهم..
سمعت عن شباب صغار من أشد الأحياء فقراً ليس لديهم ما يخسرونه سوى فقرهم.. نزلوا إلى الشارع وهتفوا لحرية تعلموا النطق بها وتلمسوا ما تعنيه في أيام قلائل.. ثم استشهدوا..
سمعت عن أحياء مغلقة بعناصر من الجيش.. يجاورهم رجال أمن ورجال لا أحد يعرف من أي كوكبٍ هبطوا..
سمعت عن جرحى بالعشرات.. ورفض لعلاجهم.. وتخوف أهاليهم عليهم وخشية من إرسالهم إلى مشافي المدينة… كما سمعت عن جرحى كان يتم التنكيل بهم رغم إصاباتهم ويقال لهم أنتم خونة ولا تستاهلوا التخدير قبل العملية..!!
نعم .. كان هناك الكثير من الحكايا المؤلمة .. زخ رصاص على عزل.. قناصة فوق أسطح بنايات.. أشباح يرهبوا الآمنين.. محاولات ترغيب.. من ثم ترهيب.. عملاء.. مندسين .. خونة من كل الأطياف.. وبطولات من كل الأطياف.. وصدور عارية تهتف للحرية.. وعائلات تنام جائعة ومدارس مغلقة وسط تخوف من فتحها وقدوم المدرسات والمدرسين إليها..
أحياء تحمل صبغة طائفية ما.. وأحياء تحمل صبغة أخرى.. يتم تداولهما كعملة رائجة يتم النفخ فيها بلا هوادة كي يكبر الغول ويصبح وحشاً بعشرة رؤوس يأكل أبناء اللاذقية من كل الطوائف..
كل تلك الحكايا كانت تحتاج إلى توثيق.. ومن يوثق وسط خوف الأهالي والمتكلمين..!! من لديه القدرة على القول بفقدان ابن له أو أب..!! من ذاك الذي يعلم ماحل بالمفقود.. بعد إصاباتٍ بليغة إن بالضرب أو بالرصاص..!! من لديه الشجاعة ليتلو الأسماء ولا يخشى لومة يوم قادم أو انتقام آني..!!
قد تحمل الأيام القادمة الكثير من المفاجأت.. كما حمل خروج البعض من الاعتقال مفاجأت مؤسفة لأجساد تعفنت بالألم والضرب المبرح.. والسباب اليومي والإجبار على تصرفات مُذلة.
اليوم صباحاً.. صباح يوم الجمعة.. اليوم الذي يخشاه الجميع من كل الأطراف..
البارحة سرنا في دروب الأحياء التي اعتادت المظاهرات على السير فيها.. كان هناك الكثير من المظاهر الأمنية.. الجيش يحتل الكثير من الساحات والشوارع.. رجال الأمن كذلك يرافقهم رجال بمظاهر غريبة يحملون أسلحة غريبة..
اليوم.. تنوس اللاذقية بين ماقبل صلاة الجمعة ومابعدها..
نوسانٌ يمتد من محاولات تأمين الطعام وترقب ماقد يحدث وتوقع ماقد يحدث كذلك..
من يقول اليوم هادئ لن تحدث المظاهرة المعتادة.. ومن يقول لن يجسر أحد على النزول إلى الشارع..
ومن يقول بأنه سيسحل من ينزل..
في الجانب الآخر كان هناك ما يستأهل الرؤية والمتابعة..
الخوف الذي تزرعه المظاهرات لدى البعض حُمِلَ إليَّ في بعض مظاهره.. وبالدعوة لعدم الذهاب إلى منطقة الحظر .. أو منطقة الخوف المرتقب.. أصدقاء لخوفهم علي نصحوني بعدم الذهاب وآخرون قرروا عدم الخروج من منازلهم. وآخرون قالوا كبرنا على الحركة .. بينما أختار آخرين النزول ومعرفة مايحدث.
حملت متاعي من الترقب والرغبة والرهبة وقررت النزول الى ساحة اليمن وامتداد شارع الصليبة.
على طرقات المدينة.. توزعت يافطات وضعتها شركات الدعاية تحذر من الفتنة.. وتدعو للتآخي.. وتتكلم عن طائفية وفتنة سمعنا بها من أجهزة الإعلام الرسمي خلال هذا الشهر أكثر مما يكن أن نسمعه في ثلاث حيوات متتالية من الناس العاديين، فتنة .. فتنة.. فتنة.. لدرجة انغرست غرساً في وجدان ولا شعور الناس.. فعاشوها ترقباً ورهبة وخشية من آخر كان الصديق والجار والحبيب..
اليوم نزلت في مظاهرة اللاذقية.. كما قال البعض لم تعد تكفيني مظاهرات الشام فرحت أبحث عن المظاهرات في مدن البحر.
نزلت المظاهرة ورأيت وسمعت الكثير.. كان الوضع خطراً نوعاً ما..
سقط شهداء.. ورأيت مظاهر أمنية عنيفة وتفريق بالرصاص..
سمعت الرصاص يوز عند أذني.. ورأيت همة شباب من حديد لم يعودوا يخافوا الموت ويقتحمونه اقتحاماً..
ولا أنكر، شعرت بخوف الآخرين أيضاً كما سمعت نبضات قلبي تتزايد وأنا أحاول التقاط مشهدٍ ما من كاميرا خجولة لهاتف لا استطيع الجهر بوجوده..
دعاني البعض للاختباء في منزل ما.. كنت غريبة في مدينة غريبة عني .. وسط شارع غريب .. بمظاهرة غريبة لم اعتدها في حياتي.. وسط أناس غريبين.. جمعنا جميعاً خوفنا وتوحدنا في مجهول اللحظة القادمة..
دخلت منزل أدخله لأول مرة.. وربما للمرة الأخيرة إذ لن تسعفني ذاكرتني بتذكر مكانه.
قمت بالتلصص من النوافذ أراقب حركة غير اعتيادية لشبان رائعين غير خائفين.. تواقين للحرية..
خفت مع نساء المنزل من رصاصة طائشة لقناص أعمى القلب.. أو عين حاقدة قد تقنص كل من يمد رأسه جهاراً أو يحمل الموبايل ويصور جهاراً.
التقطت صورة شهيد اليوم، سقط برصاصة بالرأس، لم أعرف اسمه.. سمعت عن جرحى آخرين لم التقيهم… كما التقطت صورة إصرار المتظاهرين على الاستمرار وعودة تنظيم أنفسهم ودخولهم من حواري جانبية لإكمال ما بدأوه.
تم تفرقة المظاهرة بالرصاص الحي من ساحة اليمن. اعاد الشبان تجمعهم من خلال الحواري الجانبية. تمت التفرقة من جديد.. ثم اصبحت المنطقة كمنطقة حظر تجول..
راقبنا من النوافذ مرور سيارات كبيرة اجتمع حولها رجال أمن مسلحون دخلوها وأبقوا الأبواب مفتوحة والأسلحة تبرز منها، رافقهم رجال آخرون بسيارات بيك آب .. كان منظرهم غريباً بعصابات سوداء على رؤوسهم وأسلحة اتوماتيكية في أياديهم يجلسون في الخلف ويوجهوا أسلحتهم باتجاه البنايات.. قناص وسط حارة بين بنايتين كان يبدل زوايا الرؤية بسرعة كبيرة كي يقنص ذبابة تمر من فوق رأسه..
دعتني المرأة لعدم التصوير.. قالت قد يلمحوكِ فلا تخاطري بنفسك وبنا..
لم أملك جواباً وانصعت لإرادتها..
انتظرت ساعتين.. وعندما بدأت الحركة تعود بعد حظر التجول المسلح ذاك..
أغلقت عيوني
ودعتهم
ونزلت الشارع من جديد أحاول الهرب من المناظر المؤلمة التي رافقتني على طول الطريق المليء برجال الجيش والأمن كذلك.
اللاذقية مازالت تنوس بين ماقبل صلاة الجمعة ومابعدها في ثالث جمعة لها على التوالي….
khdunia@gmail.com
اللاذقية 15/4/2011