نتائج معركة الموصل يمكن أن تؤثر على مصير وشكل الدولة العراقية، وكذلك على المعارك في شمال سوريا، ويصل الأمر إلى الخشية من معادلة إقليمية جديدة تراعي فيها طهران مصالح أنقرة على حساب ما تبقى من نظام إقليمي عربي.
من الموصل بدأ في صيف 2014 فصل جديد من “جوراسيك بارك الإرهاب في العراق وسوريا”، ومن جامعها النوري الكبير جرى إعلان الخلافة المزعومة، وهكذا فإن داعش الذي كرس نفسه من خلال الموصل إعلاميا وجغرافيا عبر شعار “باقية وتتمدد”، يدرك مصير المعركة والضربة الإعلامية القاضية التي سيتعرض لها. لكن الأهم بكثير سيكون مصير الكيان العراقي وتركيبة الإقليم على ضوء المعركة المنتظرة، وسط تفاقم التجاذبات الداخلية والإقليمية عشية الاستعداد لانطلاقتها.
من على ضفاف دجلة يرتسم تاريخ العراق في الموصل من خلال الصلة بين مرحلة أول أشكال الحضارة في الزراعة والرعي والبناء، إلى العهد الآشوري الذي تشهد عليه معالم نينوى القديمة، إلى الفتح العربي والإسلامي حيث لقبها العرب بالموصل لأنها كانت تصل بين الشام وخورستان (بلاد الشمس باللغة الكردية وموطن الأكراد).
ومنذ قرن من الزمن عند انهيار الإمبراطورية العثمانية التي كانت تشمل ولاية الموصل، خضعت هذه المنطقة لتنازع كبير بين فرنسا وبريطانيا وتركيا، إذ أن الصيغة الأولى لاتفاقيات سايكس – بيكو في 1916 منحت الموصل لفرنسا، لكن رائحة النفط فيها زادت التوتر، لأن بريطانيا كانت مصممة على امتلاك النفط ولأن تركيا التي نجحت في إجهاض الحلم الكردي (معاهدة سيفر في العام 1923) عاندت حتى 1926 في التسليم بنشأة الكيان العراقي في حدوده الحالية حيث تعتبر ولاية الموصل منطقة حدودية ذات أهمية إستراتيجية للعراق الحديث، مع العلم أن الحدود الشمالية للعاصمة بغداد تبعد 60 كيلومترا عنها.
في النزال حول الموصل اليوم يزداد عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين ولا يقتصر على الولايات المتحدة الأميركية وإيران، بل يشمل أيضا تركيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، ويهم بالطبع المملكة العربية السعودية والدول العربية المعنية بالملف العراقي.
من الواضح أن إدارة باراك أوباما في شهورها الأخيرة تجتهد لاقتلاع داعش من الموصل وبحسب الخطة المعدّة، فإن قوات أميركية وأفواجا من الجيش العراقي وعناصر من قوات الحشد الشعبي في ناحية القيارة جنوب مدينة الموصل، ستتجه نحو المدينة من جهة الجنوب، بينما ستقوم قوات تابعة لحكومة إقليم كردستان العراق بدعم الحملة من جهة الشمال والشرق.
ولم تشمل الخطة على ما يبدو مساهمة أبناء العشائر العربية في ولاية نينوى، وهناك غموض حول إمكان إشراك قوات محلية من سكان الموصل (نحو ثلاثة آلاف شخص) تتمركز في معسكر بعشيقة بعد خضوعها لتدريبات من قوات تركية متواجدة هناك. واللغط حول خطط تحرير الموصل لا يتعلق فقط بالتفاصيل اللوجستية والقوات المشاركة، بل يدور أساسا حول وضع المدينة الثانية في العراق بعد انجلاء دخان المعركة، لأن سوابق سياسة الأرض المحروقة في تكريت والرمادي والفلوجة لا تطمئن السكان الأصليين الذين يخشون من تعديلات في التركيبة الديموغرافية، ومما لا شك فيه أن أي دور كبير للميليشيات الشيعية المهيمنة على الحشد الشعبي سيزيد من اتساع الجروح الفاغرة في الجسد العراقي. وهناك بالطبع العامل الكردي والدعم الدولي للبيشمركة إذ أن الإسهام الفرنسي لا يقتصر على مشاركة جوية (في حدود خمسة بالمئة مقابل ثمانين بالمئة لسلاح الجو الأميركي)، بل هناك كتيبة مدفعية وخبراء على الأرض.
وزيادة على دحر داعش، تود باريس لعب دور في إعادة تركيب الوضع العراقي، لكن التوازنات الدقيـقة جـدا بين المكونات العراقية تطال أيضا الأطراف الإقليمية، إذ أن تركيا التي تعتبر أمنهـا الاستراتيجي متصـلا بشمـال العـراق، وتخشى مـن تهميـش التركمان وتغلغل حزب العمال الكردستاني من سنجار إلى الحدود السورية، تتعرض لهجمة من أنصار إيران في العراق ليس لإبعاد سفيـرها فحسب (تماما كما حصل مع السفير السعودي لتكريس هيمنة إيران الإقليمية) بل لإبعادها عن معركة الموصل، ولكي لا تكون لها كلمة في نتائجها.
واستنادا إلى مصدر تركي فإن “تركيز واشنطـن على حملة المـوصل، سيدفع بعناصر الدولة الإسلامية إلى الانسحاب من المدينة المذكورة باتجاه الرقة السورية، بل ومـن الممكن أن يحشد التنظيم قـواه في مدينة الباب التابعة لريف حلب الشمالي، الأمر الذي يهدد عملية درع الفرات التي ينفذها الجيش التركي ضد داعش في المنـاطق المتـاخمة للحـدود التـركية السورية”.
هكذا يمكن أن تؤثر نتائج معركة الموصل على مصير وشكل الدولة العراقية، وكذلك على المعارك في شمال سوريا، ويصل الأمر إلى الخشية من معادلة إقليمية جديدة تراعي فيها طهران مصالح أنقرة وذلك على حساب ما تبقى من نظام إقليمي عربي تلقى ضربته القاصمة مع دخول الأميركيين إلى بغداد في أبريل 2003.
على صعيد الداخل العراقي، لم تنجح حكومة حيدر العبادي حيث فشلت حكومة نوري المالكي، ولم يتم إدماج سياسي للمكون العربي السني كي يكون البديل عن تنظيم الدولة بعد هزيمته. والأدهى أن يؤدي التدمير والتهجير إلى نشوء تنظيمات أو مجموعات أكثر تطرفا، وهذا ما حصل بالفعل في الكثير من الأماكن في العراق خلال دورات العنف في العشرية الأخيرة.
يصل الأمر بالبعض إلى تصور استتباب الأمر لإيـران كي يمتد نفـوذها من البصرة إلى بيروت، مرورا ببغداد ودمشق وحمص، وعن مسعى تركي لبلورة نفوذ مماثل بين الموصل وحلب. ومن الصعب أن يعيد التاريخ نفسه بالنسبة إلى العثمانيين، ولن تتمكن طهران من بسط نفوذها مديدا على هلال مشروعها الإمبراطوري. لا يقرأ الكثير من المتابعين بشكل موضوعي مخاطر تدمير المدن العربية الكبرى من حلب إلى الموصل، ومن حمص ودمشق إلى بغداد، وقبلها بيروت، ويظن البعض أن إخضاع الأكثرية للأقلية أو لتحالف الأقليات سيكون أمرا واقعا. لكن ما ارتكبته واشنطن من خطايا وأخطاء في العراق، ترتكبه الآن موسكو في سوريا.
وهناك كلام عن قمة روسية – تركية – إيرانية أواخر هذا العام لبلورة توافقات ثلاثية. وهذا ربما يؤكد انخراط لاعبين إقليميين شرهين في مسار التفكك على حساب الرجل المريض لهذه الحقبة أي العالم العربي.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس
العرب