توصف الديمقراطية بأنها أفضل النظم السيئة لإدارة المجتمعات، وذلك الوصف ينطوي على اتهام للديمقراطية بالتلميح الى عيوبها التي تتجلى في الكويت، حيث تتجلى محاسنها، كذلك.
أحاول في هذه العجالة شرح ما يجري في الكويت. فنحن الكويتيين محاصرون، على الدوام، بأسئلة تطاردنا حيثما نكون (ما الذي جرى لكم يا أهل الكويت؟ كيف تتراجعون وانتم تحملون قصب الريادة؟).
نعم، نحن نتراجع. فالجمود والسكونية تعتبران تراجعا في هذا العالم المتحرك. ففي وقت تعلن فيه الكويت عن تحولها الى مركز مالي وتجاري، لا يزال الحران التنموي سيد الموقف، فمنذ تحرير البلاد من القبضة الصدامية ونحن نزرع الريح ونحصد العاصفة.
نعود إلى الوراء قليلا، وتحديدا، حين اتفق الكويتيون على وضع الدستور وتأسيس قانون الدولة في مطلع ستينيات القرن المنصرم، فكان ذلك قصبا حداثيا، متميزا، في منطقة ترقد في ماضوية سياسية. غير ان العصفور كان أكبر من الفخ، واللقمة اللذيذة، للاسف، اكبر من الفم.
يذكر أحد الباحثين ان العرب طبقوا الاشتراكية بصورة متخلفة، مثلما طبقوا الرأسمالية بصورة متخلفة. فالمجتمعات المريضة المتخلفة تستورد النظريات الحديثة وتطبقها بطريقة تشابهها بالمرض والتخلف. وليست الديمقراطية في الكويت استثناء. فقد شغف القوم بالحياة النيابية، وحدها، واختزلوا الديمقراطية بها، وتجاهلوا المناشط الاخرى للديمقراطية.
فلم يسع التعليم في الكويت الى رفد الديمقراطية، ولم يفعل الاقتصاد ذلك، ولا الاعلام فعل، ولا مؤسسات المجتمع المدني الطالعة وقتذاك، ولا القوى الضاغطة، ولا النخب الاجتماعية او السياسية انتبهت الى أهمية تعزيز البنية التحتية للديمقراطية.
تعملقت في الأذهان صورة البرلمان وحده كقطب مقابل قطب الحكومة. وتجاهل الجميع ان البرلمان جزء لا يتجزأ من الحكومة. وقت كان ينبغي صعود المؤسسات المدنية مقابل المؤسسات الرسمية الحكومية بما فيها مؤسسة البرلمان. وقد عززت العوائد النفطية وهيمنة دولة الرعاية هذا المفهوم الخاطئ.
علق الكويتيون في هذا المأزق الديمقراطي، كمثل شخص فرح بشراء تلفزيون ديجتال بالألوان، وحين عاد الى منزله تذكر انه لا يوجد تيار كهربائي بالمنزل! في مشهد اقرب للكوميديا السوداء.
أتذكر لوحة كاريكاتورية نشرتها الصحافة العالمية في زمن الاتحاد السوفييتي، تمثل جنديا روسيا يقود دبابة قرب فرن، ويحاول مقايضة دبابته برغيف! والمغزى واضح، والمثال قد ينطبق على الكويت حين نبدل الدبابة الروسية بالبرلمان الكويتي والرغيف بالتنمية.
نعم. نحن الكويتيين في ورطة حقيقية. عالقون في منتصف الطريق، تدير رؤوسنا الريادات من دون فحص او تدقيق. فنحن نعيش في دولة نفطية غنية، قليلة السكان، ورغم هذه الحقيقة، استوردنا تجربة العمل التعاوني (الاشتراكي)
وكأننا نصر على فقء عيوننا بأصابعنا، فانتخابات مجالس ادارات الجمعيات التعاونية تحولت الى مزرعة لتفريخ القبلية، والمذهبية، والفئوية. وأفضى التعاون المزعوم الى فضاء مسموم يكره التعاون!
أعود إلى ورطة البرلمان. هذا المولود من رحم الدستور، والراضع من ثديه، والذي تحول الى وحش يقضم ثدي الأم الرؤوم، بخروقات واضحة، فاضحة، تمثلت بتشريعات متناقضة مع الدستور، والتدخل بعمل السلطة التنفيذية، وانحرافات في استخدام الادوات البرلمانية، منها التعسف باستخدام الاستجوابات ونحوها.
الدستور قانون لحكم الدولة وادارتها. والقوانين عرضة للتعديل مع تغير الزمن. والدستور يسمح بتنقيحه بعد مرور خمس سنوات، وذلك يعني ان فترة الترخيص بتنقيح الدستور بدأت منذ عام 1968.
الا ان الكويتيين عاجزون عن ذلك، لأسباب مختلفة. فلا نخبهم السياسية قادرة على تعديل الدستور، ولا هم قادرون على التراجع عنه، او تحديثه بما يتناسب والعصر. فلا رخصة متوافرة، اليوم، سوى رخصة السير في هذه الطريق المسدودة الامر الذي نجم عنه، حالة من الارتباك السياسي التي نسمع ضجيجها في البلاد ن وخارجها.
بعضنا في الكويت يصر على انها «عنزة وان طارت» فيصف الضجيج السياسي في الكويت بأنه علامة ايجابية ودليل على الحيوية. وليس ذلك بالوصف السليم. فالأناشيد التي يرددها العمال اثناء البناء تختلف عن الاصوات التي يطلقها النائحون على الميت. فالبناء يعلو مع صيحات البنائين، اما النواح فلا يسترجع الموتى. انه جعجعة بلا طحين.
برلمانيا اكتفي بالتدليل على حالة الارتباك السياسي بالعبث الذي انطوى عليه استجواب وزيرة التعليم، الذي كان احد محاوره «تهكم الوزيرة على البرلمان»! وهذه العبارة وردت حرفيا في الاستجواب. ناهيك من العودة الاعجوبية الى الحديث عن ولاية المرأة (!!) في مجلس يجاور فيه كرسي الوزيرة كرسي نائب البرلمان.
أما حكوميا فاكتفي بالتدليل على حالة الارتباك السياسي باسناد حقيبة النفط الى الوزير الذي كانت جميع المؤشرات تفيد بعدم استمراره، وذلك ما حدث. فقد غادر الوزير منصبه بعد ايام قلائل، مصرحا للصحافة بأنه صلى ركعتين، شكرا لله، لخروجه من الوزارة!
هذا الارتباك والإنهاك السياسي ناجمان عن انسداد الطريق في بلاد انصرفت عن التنمية بالمشاحنات المجانية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فأصبح كل طرف يعلق اخطاءه على مشجب الآخر. الحكومة عاجزة عن تقديم المبادرات فتتهم البرلمان الذي بدوره ينحرف بالممارسات الاعجوبية، ويعلق اخطاءه على مشجب الحكومة.
لقد أسهمت المماحكات والتربصات بتغييب القرار في بلاد ترددت سنوات طويلة، كي تقرر حكومتها الترخيص لتجار المواد الغذائية باستيراد ماء الشعير (بيره بدون كحول)! والمرأة الكويتية التي أحرقت العباءة قبل نصف قرن، وخرجت سافرة الى التعليم والعمل، لا تزال ممنوعة من استخراج جواز سفر من دون موافقة الزوج. تناقضات بين ريادة ونكوص.
وفي الكويت، وحدها، يزعق نائب تحت قبة البرلمان، محذرا الحكومة من دخول كتاب (لم يقرأه النائب) فيُمنع الكتاب وتلغى دعوة الناشر الى معرض الكتاب السنوي. علما بأن الكتاب تم تداوله في جميع دول مجلس التعاون الخليجية.
القروض ليست اختراعا كويتيا، ففي جميع دول العالم توجد مصارف تقدم القروض، وهيئة الأمم المتحدة تشجع الدول على تقديم القروض للافراد. وقد حصل البنغلاديشي الدكتور محمد يونس على جائزة نوبل، بسبب اهتمامه بتأسيس بنوك الفقراء. ووحدنا في الكويت نعيش أزمة سياسية عاصفة بسبب هذه القروض.
فالبعض ومن باب التكسب الشعبي، يطالب بإسقاط القروض عن المواطنين بحجة ارتفاع اسعار النفط، رغم غياب العدالة عن هذا المطلب. اذ ليس كل مواطن مدينا للمصرف بقرض، وليست كل القروض سواء. وتطور النقاش الدائر حول هذه القضية الى اتهامات متبادلة بين شرائح المجتمع بسبب نائب في البرلمان بحاجة الى صوت مواطن مدين لمصرف.
حالة الحران التي تعيشها الكويت، زادت الطين بللا في بلد يتداول أهله روايات عن انتهاكات للقانون اغرب من الخيال. وآخر هذه الروايات الآسيوي الذي استغل الاراضي المملوكة للدولة بطريقة غير مشروعة، لتدر عليه آلاف الدينارات! أجنبي، أعزل، بلا حول ولا طول. استطاع ان يفعل ما فعل.
إن فرحتنا بقصب الريادة لم تجنبنا الغصة به. فالكويتيون منذ 1962 اتفقوا على قانون ديمقراطي لإدارة الدولة. غير انه خلال هذه المدة التي تفصلنا عن ذلك اليوم، جرت في النهر مياه كثيرة. فقرابة نصف قرن في دولة حديثة كفيلة بإحداث متغيرات كثيرة وعميقة، ناهيك من المتغيرات التي يشهدها العالم، وتنعكس بطبيعة الحال على الكويت.
لست ارمي ضد الديمقراطية التي أمست قدر الكويتيين. بيد أني اشير الى أن المشكل الديمقراطي مستمر، وسوف تتفاقم التناقضات، ما لم يمتلك الكويتيون الجسارة الكافية، للخروج من هذا المأزق بحلول يجترعها العقلاء ويقدم عليها الشجعان.
* إعلامي كويتي
www.salahsayer.com