قبل أسابيع كانت هنا ليومين فقط، لكن النهار عند مي 24 ساعة فعلاً. كان عليها بالطبع ان تمر على بيت شباب وان تطل على دار الساقي، تلك حصة الأهل والمهنة لكن هذا ليس كل شيء. لقد جاءت لتعاين الاعتصام في البلد، ولتحضر المعارض القليلة ولتشاهد مسرحية اذا وجدت، ولتناقش مع اصدقاء يعنيها ان تسمع لهم. اقلقها ما كان يقال عن الرائحة والزنخ لدى المعتصمين، كان في هذا تكرار لإرث عنصري. مي غصوب المليئة بالشواغل، المليئة بالأفكار والاقتراحات حدثتني، في الساعة التي كانت حصتي من لقائها، عن مشاريع لها وفي السياق كان عندها مشروع لي. ساعة مشحونة غادرت بعدها والحديث في زخمه، على عجل كعادتها. كعادتها كانت تحول الوقت والأفكار والمشاعر الى طاقة. السيدة بابتسامتها التي تعتذر عن نفسها وعن العالم تريد ان لا تتعصب ضد المتعصبين وان لا تغضب ضد الغاضبين لكنها لا تتساهل مع اي تلميح عنصري ومع اي تشدد ومع اي تعميم. تناضل ضد جنون النضال وتحتج على قسوة المحتجين، تحارب الأقوياء من دون اي طموح للقوة وتقاتل ضد العسف بدون اي تعسف مضاد.
مي غصوب التي حياتها تقريباً تعبير مستمر، في فنها النحتي، في انشاءاتها، في عروضها، في كتاباتها، في اسفارها وعلاقاتها. كانت دائماً كلمتها ولها دائماً كلمة، تكتب وتنحت وتصمم بنفس الروح ونفس اللغة تقريباً، تقول الشيء ذاته بالاسلاك والقضبان والصور والكلمات. كان بوسعها ان تبتكر دائماً وسيلة لتتكلم. في النهاية تتحد معاناة ذات رقيقة بقوة موقف. في النهاية تتوزع حساسية وطاقة عارمتان بدون ان تتمزقا، مي التي لا تخاف من ان تتوزع كانت بنت بلدها حتى العظم لكن ايضا بنت اي مكان. وكان بوسعها ان تسري كرسالة عزاء ورحمة عبر شبكة واسعة أطرافها في كل العالم. كانت بنت لحظتها (الاولى التي قدمت بالعربية ما بعد الحداثة) لكنها لحظة ممتدة في الزمن والتقاليد والأساليب. كانت نفسها بدون اي مساومة لكنها تهتم بالجميع، صديقة العشرات لكن بأداء خاص لكل صداقــة، عنيدة لكن بحب، دقيقة لكن بدون صرامة، منظمة لكن حرة، عاملة دائما لكن بفن وتعمل وتمارس بابتكار وبفرح الخلاقين.
لكن هل جاء الوقت لنتكلم عنك هكذا يا مي، ان نقول من أنت وان نتعب حتى نجمع شتات صورتك. أليست الحقيقة الابسط هو اننا لا نستطيع ان نحصيك. وان علينا ان لا نعد أنفسنا بتثبيتك. أليست الحقيقة الابسط اننا لن نقدر على ان نمتلكك بأي صورة ننشئها لك، بأي برواز نضعك. لن نقدر على ان نضع خاتمة لهذه الكهرباء التي كنتها، لهذه المحطة التي تبث في كل مكان وتتلاحق رسائلها في كل لحظة. ما كان في مقدورنا ان نتبعك ولا كان في وسعنا ان نجمعك، ما لدينا منك صورة فحسب قصاصة فحسب، رسالة فحسب. من يستطيع ان يقول من أنت. من حب الفن صرت فنانة، من حب الكتابة صرت كاتبة، ومن حب المسرح غدوت مسرحية، وكان في وسعك ان تحبي دائما وان تبتكري، ان تغدي دائما شخصا آخر وان تصنعي صورة اخرى. انها الطاقــة المتحولة التي لا تتوقف، لكنها ايضـا تحــولات بلا عدد. انها الطاقة المتمددة ايضـا في عرض الحياة لكن التي تتوطن في كل مكان وتحمل سر المصالحة مع العالم.
الموت؟ هل كان موجوداً حقاً، طوال هذه السنين لم نتكلم عنه يوماً. العمر لم يبد انك جاهزة له. في المرة الاخيرة لاح على وجهك العمر لكن من يتكلم مع مي غصوب عن العمر. ما دام امامها دائما العديد العديد من الرزم التي تفض. الاماكن التي تنادي من مطارح لا نعرف اسمها، العديد من الأفكار والمشاريع، العديد من الرسائل، العديد من المواقف. ما كنا لنجد وقتاً بالطبع لنفكر بالعمر، والموت أين كان، في واحدة من الرسائل، في رزمة، في مشروع او عمل، اين اندس في مسام تلك الحياة الكثيفة، اين تربص وانتظر، لم نتحدث مرة عن المرض، ولا عن السن ولا عن الموت، أكان علينا ان نتحدث عنها، اكان في ذلك تعويذة لحمايتك وحمايتنا، بلى تكلمنا عن أمراضنا وانت لم تتكلمي، خفنا امامك من الموت وأنت لم تخفي. شكونا من الزمن وأنت لم تشكي، والآن لا نملك الخيال الكافي لنتصور انك انطفأت، لا نملك صورة واحدة لنبني عليها، انبنى فقط على خوفنا نحن وشكوانا نحن وأمراضنا نحن. نواجه موتنا نحن ولا نصدق موتك. نخاف ثانية ونفكر ونتصرف كموتى. العالم مات هذه الليلة ونحن متنا ايضا. طلبنا النسيان، طلبنا اللهو، طلبنا الهزل، طلبـنا النوم حتى لا نرتعب اكثر من قبورنا.
احقا بات علينا ان ننقذ فضائل عديدة ليس غياب مي سوى تهديد فعلي بزوالها. اكان علينا ان نتكلم بين يدي الموت عن عمل حياة يتراوح بين الفن والحكمة، بين القوة الاخلاقية والقوة النفسية، بين النجاح النبيل والالتزام، بين التنظيم الرفيع والحرية، بين النقد والحب، بين التسامح والعناد. اكان علينا ان نتذكر عند غياب مي خوفنا من غياب عالمنا كله وخوفنا من عودة غاراغانتيا وكل الغيلان الاخرى. ان نشعر ان هذا الرحيل وبالشكل الغريب والخاطف الذي تم به انذار كامل بانهيار مماثل في كل مبانينا، أكان علينا يا مي ان ننقذ من الموت هذه القدرة على العيش السلس بين عوالم غير متصالحة، وبين نقائض متحاربة. أكان علينا ان ننقذ الوداعة الصلبة، الذكاء نفسه والطرافة من الدمار. ان ننقذ هذه القدرة على تحويل الوقت الى حياة والى فن، ان ننقذ اعيننا من البلادة قلوبنا من التشحم، عقولنا من التكرار الغوبلزي والهدير العسكري والبطولات المنتفخة.
ماذا يفعل القلب المكسور والصداقة المكسورة سوى ان ينكسرا ثانية، في الكسر الثاني يظهر المعنى الخفي وربما المتعة الخفية للحب الذي التهم نفسه. أكان علينا يا مي ان نجازى برحيلك لنتمتع بثمرات قلوبنا الكسولة وننفض عنها الصدأ. أكان علينا ان نرى البرق يختطفك لنعرف ان العالم الذي تخلفينه لن يمتلئ ثانية، ان الذي فقدناه كان كنزاً اعظم من أحلامنا واننا لم نكن اكفاء لشيء مثله. نعلم الآن ان الصداقة المكسورة المحمولة على عواتقنا كنعشك الرمزي هي فقط انجازنا الكبير، واننا نصارع ونحن نتراجع الى حافاتها، نحن المنبوذين المهجورين الذي لم نستطع ان ننقذ بيتا ولا حجراً نحن الهامشيين الذين ردونا عن كل الأبواب. انه فقط حب لا سعر له، صداقة متروكة للجائعين حين يوجد من يأتي، من المستقبل او من العدم، ليأكل.
الآن، لماذا الآن، لماذا انتظرنا حتى الآن لتضيء فضائلك كنجوم الميلاد، لماذا الآن ونحن في الساعة الخامسة والعشرين او ساعة الصفر نشعر ان ثمنا اكبر لا يزال امامنا، ثمنا آخر من خسارتنا، من قلوبنا الكسيرة واعمارنا الذاهبة، من الحب الذي كسلنا عنه، من الحب الذي لم يعد يخلصنا.
وربما ندفع لكن ليس بدون غضب، وربما نعرف ان خسارة ثانية يمكن ان تعيدنا، وربما نشعر ان موتا يساوي مشروع حياة قد يساعدنا على ان نصحو وان نتذكر على الاقل. مي موتك سيكون ذخيرتنا، انت الذي اجتزت الخط اولا بطلتنا في الأسر، انت التي تقدمتِ اولا رايتنا، سنعلم حياتك للمستقبل. سنتغنى بفضائلك، الاجمل والافضل سنخرجه من سيرتك وفي يوم ما، حين لن نكون غالبا، سنعلم حياتك للقادمين.
(السفير)