دمشق ‘القدس العربي’
على المقري كاتب متميّز وإشكالي في المشهد الثقافي اليمني، أصدر ثلاث مجموعات شعرية ‘نافذة للجسد’، ‘ترميمات’ و’ بحث في النسيان’، كما صدرت له دراسة في سلسلة أعلام اليمن بعنوان ‘العفيف: زمن خارج السرب’، بالإضافة إلى دراسة هامة صدرت العام المنصرم تحت عنوان ‘الخمر والنبيذ في الإسلام’، وأخيراً صدرت روايته الأولى هذا العام عن دار الساقي بعنوان ‘طعم أسود .. رائحة سوداء’ والتي رشحت لجائزة ال ‘بوكور العربية’ نتيجة تميزها.
وكان المقري في كل كتاباته مشاغباً على ما هو سائد ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، حتى أنه كُفرّ في شعرهِ، وأثارت دراسته عن ‘الخمر والنبيذ في الإسلام’ صدمة في المجتمع اليمني والإسلامي المحافظ عموماً، بينما ذهبت روايته باتجاه المناطق المظلمة في المجتمع اليمني، مناطق مجهولة أو بكر تشكل بؤرة للتمييز العنصري والتمرّد الإنساني بآنٍ معاً، فعالم ‘الأخدام’ المضطهدين يُذكرنا كثيراً بقبائل الغجر أو ما يُعرف ب ‘النور’ في بلاد الشام، وأحياناً يُسمون ‘القرباط’ حيث ما زالت هذه المجتمعات تعيش في عالم مفتوح على داخلها، ويكاد يكون مغلقاً باتجاه الخارج.
عالم لم يَعرف الخطيئة الأولى، بل هم لم يأكلوا من شجرة المعرفة بعد، وبالتالي نراهم على سجيتهم الفطرية، وهي سجية مرفوضة في مجتمع المعرفة والتمييز الطبقي والاستغلال.
‘القدس العربي’ التقت الشاعر والروائي علي المقري على هامش مشاركته الأخيرة في مهرجان العجيلي الرابع للرواية العربية، الذي أقيم في الرقة بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر من هذا العام:
ظاهرة الانتقال بين الأجناس الأدبية أصبحت شائعة مؤخراً، حيث العديد من الشعراء يتجهون صوب الرواية، وأنت واحدٌ منهم؟
بالنسبة لي كتبت القصة القصيرة بالتزامن مع كتابتي للشعر، بل كنت معروفاً حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي كقاص، وقد نشرت العديد من القصص القصيرة في الصحافة الأدبية، حتى أنّ الكثيرين في الوسط الأدبي فُوجئوا عام 1987 حين أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى ‘نافذة للجسد’، وقد نشرت بعدها مجموعتين ‘ترميمات’ 1999 و’بحث في السنيان’ 2003، كما أعدّت إصدار مختارات من قصائدي تحت عنوان ‘ومن قال’ سنة 2006.
لكن ما أود تأكيده الآن، أنني ابتدأت قاصاً، أي أنّ جذور السرد القصصي امتلكتها مبكراً، إضافة لاهتماماتي البحثية. أمّا بخصوص روايتي ‘طعم أسود.. رائحة سوداء’ والتي صدرت هذا العام، فدعني أخبرك أنني اشتغلت عليها لمدة 16 عاماً، وقد جربت أكثر من صيغة لكتابتها في مستوى الأسلوب واللغة، حتى صدرت بالشكل الذي قرأته أنت، وأضيف أنّ لدي الآن روايتين أحداهما أصبحت في عهدة الناشر.
أثارت كتابتك وأبحاثك الكثير من ردود الفعل داخل المشهد الثقافي اليمني، والبعض يتهمك بالشغب على ذلك المشهد الراكد؟
يبدو لي أنّ المسألة تتعلق بقضايا الحريات في الواقع العربي عموماً، وليس لمشاغبتي بذاتها، فهناك اطروحات تبدو كلاسيكية، وتمّ تجاوزها في الكثير من ثقافات العالم، لكنها في الثقافة العربية ما تزال إشكاليات راهنة، تتعلق بحرية التفكير وحرية التعبير.
وأنا في الحقيقة أكتب بحرية، لكنني لست حرّاً في النشر، إذ تتعدد الرقابات الخارجية والداخلية، وهذه الأخيرة هي أسوأ الرقابات، إذ تحول بينك وبين قدرتك على التعبير عن ذاتك بحرية كاملة.
فالقصيدة التي كُفرت بشأنها تتعلق برؤية جديدة للحب المعاصر والذي لم يعد حباً بشكله القديم، لكن شيخ الدين وهو خطيب مسجد ‘الصالح’ لم تعجبه قصيدتي، فقال رأيا مع الأسف الشديد ظنه كثيرون فتوى دينية، بحكم موقعه الاجتماعي ومكانته الدينية، إذ استدعى في خطبته يوم الجمعة، كثير من أسماء الصحابة والأولياء، من الماضي، ليقول أنهم سيجلدونني إذا قرأوا هذه القصيدة التي لا طعم لها!!
وإذا كنت مع حرية الشيخ في أن يقول رأيه حول القصيدة، إلا أنني ضد الانطلاق من موقعه الديني باتجاه نفي وإلغاء ذلك النوع من الكتابة، أو مصادرته لحرية التعبير، مهما كانت القصيدة هشة أو مستقيمة الهيئة.
وقد تكرّر الشيء ذاته مع دراستك ‘الخمر والنبيذ في الإسلام’؟
بكل أسف تكرّر الشيء ذاته ومع الشيخ نفسه، إذ تناول في خطبتين له مقالات منقحة كنت انشرها من كتاب ‘الخمر والنبيذ في الإسلام’، وكانت خطبته في مسجد مدينة تعز، حيث نقلتها الإذاعة المحلية، فصرت مُكفرّاً على مستوى شعبي كبير، إذ قال أنني ‘طعنت بالنبي’ و’المسلم ليس بطعان’، بمعنى أنني أخرجت من الإسلام حسب ذلك المنطق الديني.
وللأسف الشديد سبب لي هذا الموقف الكثير من المشاكل مع عائلتي المحافظة أولاً، وفي وسطي الاجتماعي، وأنا لا أعتقد أنني واجهت قسوة أكثر من هذه الحملة التي أدت إلى مشاكل أسريّة خاصة.
فأي شهرة أريد أن أحصلها من وراء ذلك كما يدعي ذلك الشيخ؟! وكأنه يدعوني إلى حفلٍ للتباهي وليس إلى حبل المشنقة، ذلك الحبل الذي استشعرته حول عنقي، أحسسته في كلام الناس، وفي تعاملهم معي، وكأنهم أرادوا نفيي تماماً بسبب ما عبرت عنه من آراء.
حتى روايتك ‘طعم أسود.. رائحة سوداء’ لم تبتعد كثيراً عن دائرة الشغب؟
أنا لم أقصد الشغب، بل حاولت رصد عالم المهمشين السود في اليمن، والذين يُطلق عليهم لفظ ‘الأخدام’، أولئك الذين يواجهون معاملة عنصرية بسبب لونهم أشد قسوة من العبودية، فالعبيد لهم حقوق بشكل ما، أما هؤلاء فليس لهم أي اعتبار أو حق، إضافة لظروف الفقر و التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشون في ظله.
كما تعرّج هذه الرواية إلى فئة أخرى ممن يعانون تمييزاً بسبب مهنتهم، وهم فئة ‘المزينين أو الحلاقين’، لكن التمييز الذي يتعرض له الأخدام أقسى وأبشع من ذلك بكثير، وهو يكاد يكون عاماً ضمن غالبية المجتمع اليمني بكل أسف. وحتى القوى الاجتماعية والسياسية الحديثة لم تنظر إلى هذه الفئات أو الشرائح، وإذا نظرت إليها فمن اجل دمجها في المجتمع، بشروط إلغاء إرثها التاريخي والثقافي والإنساني العام، حيث يطالبونها بإلغاء هويتها- إن صحّ أنّ لها هويّة- هوية بمعنى التمرّد على تاريخها، حتى أنها هوية متمردة على الهويات، هوية اللا هوية، إن صحّ التعبير.
روايتك تتحدث عن عالم يكاد يكون سريّاً ومُغلقاً على فقره وتخلفه، لكنها تتحدث عنه بتعاطفٍ كبير، وتبرز جماليات هذه المجموعة البشرية؟
أردت وأنا أكتب هذه الرواية عن ‘الأخدام’ أن أكون خادماً بينهم، بل خادماً أصيلاً، فهم علموني أنّ الأصالة لها مجال في عالم الأخدام، حتى أنّ بعض الأخدام الذين قرأوا روايتي، شعروا أنني صرت جزءاً منهم، ولن أنسى اللحظة التي أكمل فيها أول خادم فصلاً من فصول الرواية، أشعرني أنه صار يحيا، بينما حقيقة، أنا الذي صرّت أحيا بهم ومن خلالهم.
تكاد تكون الرواية محاولة للاقتراب من هذا العالم البهي والجميل بتمرده التاريخي والواقعي الهائل، وقد حاولت أن اقترب من هذا العالم حتى في شكل كتابة الرواية، إذ لا تجد إطاراً محددا للنص، فأي بناء شكلي متنامي ومنتظم يبدو لي أنه سيكون ضد الأخدام وليس معهم، فهذا العالم ما زال يعيش خارج الأطر القيمية بكل أشكالها الدينية والجنسية والأخلاقية والأيديولوجية السياسية أيضاً.
في هذا العالم/ النص تجد بعضاً من ‘زنوجة’ يسبغها اللون الأسود، كما تجد بعضاً من ‘غجرية’ كبيرة بسبب هذا التمرّد الهائل، تمرّد أو رفض لكل مفاهيم الوطن والهوية والتاريخ، أو تجاوز لهما عبر الحب، ليس برومانسيته الإنشائية، بل عبر علاقة الجسد، الشكل الوحيد لتجاوز كل أشكال التفرقة.
اتكأت في سردك على اللغة الأخدام أنفسهم مع تعدد في السويات الصوتية ما بين السرد والحوار؟
لأنّ الرواية تتحدث عن فترة ما بين 1975 إلى عام 1982 حين كانت تجري محاولات لدمج الأخدام في المجتمع اليمني، عبر هوية أيديولوجية يسارية، حيث نلقى أشخاصاً يتحدثون في جمل أيديولوجية من منطلق سردي غير يقيني، وليس لتأكيد هذه المقولات، بقدر ما هو مبرراً أو مسوغاً لزمنية السرد، حين كان الاتجاه الاشتراكي المهيمن على الدولة في جنوب اليمن يرفع شعار تحرير الأخدام حتى من صفتهم نفسها كأخدام، لهذا نجد أحد الشخوص في الرواية يرفض هذا التحرر.
في هذه الفترة ساد شعار شهير يهتف للرئيس ‘سالم ربيع علي’:
‘سالمين قدّام .. قدّام
سالمين ما احناش أخدام’
ولذلك تجد أنّ اللغة تتباين في مستويات السرد والحوار بين أولئك الذين يتعاملون مع الشعارات الأيديولوجية ، وبين البسطاء من الأخدام اللذين لا يجيدون القراءة والكتابة في معظمهم، بل يرفضون فكرة التعليم أصلاً، مع ذلك ليس بالضرورة أن يتحوّل الكاتب إلى أنثربيولوجي ليستطيع تقديم نفسه عبر استكشاف دقيق للّغة.
هل استفدت من تجربتك كشاعر في صياغة البناء المفتوح للرواية؟
على العكس، أنا لم أستفد من الشعر شيئاً في بناء روايتي، على الرغم من أنني ضمنتها الكثير من الأشعار والأهازئج، بل كنت في مجموعتي الشعرية الأخيرة أحاول أن أتخلص من الشعرية المكثفة لصالح شحنة سردية واضحة، ولهذا قال البعض أنه لا يوجد في روايتي من الشعرية سوى اسمها، وأنا اعتبر ذلك أجمل مديح للرواية، فعالم الأخدام تكمن شعريته في تفاصيل حياتهم، وأي شعرية أو بلاغة لغوية ستكون خيانة لهذا العالم.
هل شجعك الترشيح لجائزة ‘البوكر العربية’ على الشروع بكتابة روايتك الجديدة؟
كما أخبرتك لدي روايتين إضافة لروايتي عن الأخدام، وكنت أخشى إصدار روايتي الأولى ‘طعم أسود.. رائحة سوداء’ قبل إتمام روايتي الثانية، وهي في عهدة الناشر الآن، ومع أنني لا أرغب البوح بشيء حول موضوعها قبل أن تنشر، لكنني أستطيع القول أنها ستكون كتاب حياتي، إذ استغرقت وقتا في البحث والتقصي قبل وقت الكتابة، وآمل أن تصدر في مطلع هذا العام.
هل يمكن أن نطل من خلال تجربتك على المشهد الأدبي في اليمن؟
أظن أنّ الأدباء في اليمن عاشوا في عزلة طويلة، لكن هذه العزلة بدأت تتفكك في الآونة الأخيرة، سواء من خلال النشر أو التجديد في أساليب الكتابة، كما نلحظ في مساحة العالم العربي كله، كما يتقاطع المشهد اليمني مع محيطه العربي في مسألة الرقابة، فالكثير من الأدباء يعانون من الرقابات وغياب الحريات وتقييد عمليات النشر، أكثر من ذلك فهم يعانون من قسوة العيش، فلا أحد يستطيع العيش من وراء إنتاجه الأدبي، وهذا أقسى من كل أشكال الرقابة والمنع، لأنها تدمر قدرة الكاتب الأدبي على الإبداع والتعبير.
مع ذلك نلاحظ هذا العام مثلاً صدور ثماني روايات في اليمن أو أكثر، بعضها متميز كرواية ‘عرق الآلهة’ للكاتب حبيب سروري أو رواية وجدي الأهدل ‘بلاد بلا سماء’، إضافة لنشاط ملحوظ في الترجمة، وتنوع في الإصدارات.