عمان-دنيا الوطن
اصدر القاضي نذير شحادة ،قاضي محكمة بداية جزاء عمان قراره بشأن التهم التي وجهها المدعي العام استنادا الى شكوى دائرة المطبوعات والنشر الاردنية الى الكاتب والناشر فتحي البس وكتابه “انثيال الذاكرة هذا ما حصل” والذي منع التداول في الاردن منذ صدوره في ايلول 2008.
خلص القرار الى عدم مسؤولية فتحي البس عن التهم الموجهة له وان كتابه انثيال الذاكرة لا يخالف قانون المطبوعات والنشر.صدر القرار وجاهة بحضور فتحي البس الذي ابدى ارتياحه للقرار وامل ان ان لا يقوم مدير المطبوعات او النائب العام باستئنافه ليتمكن من توزيع الكتاب في الاردن.
وشكر الاساتذة والكتاب والنقاد والزملاء الذين وقفوا امام امام المحكة يدافعون عنه.وقد قدم الى ندوة عقدتها رابطة الكتاب الاردنين مساء 19/5/2009 شهادة حول مجريات المحكمة وكتابه انثيال الذاكرة جاء فيها:
شكرا لرابطة الكتاب الاردنيين ولجنة الحريات فيها على تنظيم هذه الندوة كنشاط اول في حملة ترفع شعار الغاء دائرة المطبوعات والنشر وتحويلها الى دائرة صديقة للثقافة والمثقفين ومركز للمعلومات يساعد المسؤول على متابعة وفهم ما يجري من احداث ليتخذ قرارات تستند الى علم ومعرفة وتوثيق.
صباح هذا اليوم، ختم القاضي نذير شحادة، قاضي محكمة بداية جزاء عمان ، المحاكمة التي بدأت في شهر 9/2008 لي ولكتابي “انثيال الذاكرة هذا ما حصل” باصداره قرارا بعدم مسؤوليتي عن التهم التي وجهها إلي المدعي العام استناداً إلى كتاب من مدير دائرة المطبوعات والنشر.
بدأت المحكمة بصدور قرار المدعي العام تاريخ 11/9/2008 التالي نصه حرفيا:
بالتحقيق الجاري أجد أن واقعة هذه الدعوى تتحصل في أن المشتكى عليه صاحب دار الشروق للنشر والتوزيع وأنه كاتب ومؤلف وأنه قام بتأليف كتاب بعنوان ” انثيال الذاكرة .. هذا ما حصل” وأنه قام بطباعة هذا الكتاب في العاصمة اللبنانية بيروت ثم قام باستيراد مجموعة من نسخ ذلك المؤلف بهدف طرحها في السوق الثقافي الأردني وبإطلاع دائرة المطبوعات والنشر على ذلك المؤلف تبين أنه ورد في ذلك المؤلف وفي أكثر من موقع عبارات تتضمن إساءة إلى الجيش العربي الأردني وكذلك عبارات تشير إلى أن الجيش الأردني والمخابرات الأردنية تمارس أساليب التعذيب وأن الجيش قام بقصف المخيمات. كما تضمن ذلك المؤلف عبارات تثير النعرات الطائفية والفتنة بين أفراد الشعب الأردني ومن ضمن تلك العبارات ما ورد في الصفحات (14 و18 و83 حتى 88و92 و 93 و 96 و 97و102 حتى 104 و 118 و 175 و 288 و289 و 311و 231 و 290و 291 و 297 و 302) حيث جاء على هذه الصفحات عبارات تمس الجيش العربي الأردني وبعض الشخصيات الأردنية الأمر الذي يشكل مخالفة صريحة لأحكام قانون المطبوعات والنشر وتحديداً المواد 5 و 7 و 38 من ذات القانون، وعلى أثر ذلك قرر مدير عام دائرة المطبوعات والنشر منع إدخال وتوزيع ذلك الكتاب ثم جرت الملاحقة القانونية، وباستجواب المشتكى عليه ذكر أنه هو مؤلف هذا الكتاب وأنه هو صاحب دار الشروق للنشر والتوزيع وأنه يعتبر نفسه غير مذنب عن الجرم المسند إليه.
وبالتدقيق أجد أن الأفعال المرتكبة من جانب المشتكى عليه-بفرض الثبوت- تشكل كافة أركان وعناصر الجرم المسند إليه. وحيث ورد من الأدلة ما يكفي للظن عليه وسوقه لتقديمه للمحاكمة وعملا بأحكام المادة 132 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أقرر ما يلي:
1- الظن على المشتكي عليه ( فتحي خليل محمد البس صاحب دار الشروق للنشر والتوزيع ) بجرم مخالفة أحكام المواد 5و7و38 من قانون المطبوعات والنشر وتعديلاته رقم 8 لسنة 1998 ولزوم محاكمته عنه أمام محكمة بداية جزاء عمان صاحبة الصلاحية والاختصاص وحق تقدير ووزن البيئة.
2- وعملاً بأحكام المادة 31/ب من قانون المطبوعات والنشر وتعديلاته أقرر الطلب من المحكمة المختصة منع إدخال وتوزيع كتاب (انثيال الذاكرة -هذا ما حصل) للمؤلف فتحي خليل البس.
قرارا صدر بتاريخ 11/9/2008
مدعي عام عمان
غازي الشوبكي
لقد أرعبني هذا التكييف لمحتوى كتابي، وأحزنني أن ذاكرة مواطن أردني، تحاصر ويمكن أن تصادر بتقويلها ما لم تقله، وبلوي عنق الرواية لما حصل من أحداث تستند إلى التجربة الشخصية في الحياة العامة التي عاشها.
شد من أزري موقف أعتز به من الأستاذ الدكتور علي محافظة، الذي قرأ الكتاب كلمة كلمة وتطوع فور انتهاء قراءته لأن يكون شاهد دفاع، وفاجأني أيضاً موقف الدكتور موسى الكيلاني، مدير دائرة المطبوعات والنشر الأسبق، الذي جاءني متطوعاً للدفاع عني معبراً عن إيمانه بأن الكتاب بعيد كل البعد عن تأويل دائرة المطبوعات والنشر، فاخترت أن يكونا خبيرين، لكن القاضي، صرف النظر عن الخبرة، واكتفى بشهادة زملاء وأساتذة وكتاب ونقاد أدين لهم بالشكر الجزيل، لنزاهتهم، وشجاعتهم وشهادتهم التي لا تنتصر لي وحدي، وإنما تنتصر للحرية وللديمقراطية ولحق التعبير وترفض تأويل دائرة المطبوعات والنشر الذي يشكل سيفاً مسلطاً على كل من يجرؤ فيبوح بمكنونات نفسه من أجل أردن ديمقراطي وعصري، نعتز به ونفتخر، تكون فيه السماء سقفا للحرية، حقيقة وليس قولاً مأثوراً.
هؤلاء الأحبة الذين ناصروا الحرية وكانت شهادتهم أساس قرار المحكمة بعدم مسؤوليتي عما نسب إلي هم، وبتسلسل ظهورهم أمام المحكمة، ومع حفظ الألقاب: الياس فركوح، حسين جمعة، إبراهيم العجلوني، إبراهيم السعافين، أحمد ماضي، محمد عبيد الله، مهند مبيضين، وذياب البداينة . لهم كل الشكر والتقدير فهم قدوة لما يجب ان يكون عليه صاحب الضمير والموقف.
وبالطبع لا انسى تقديم الشكر الجزيل للمحامي الاستاذ عثمان نصر الذي كانت القضية بالنسبة له قضية حق ورأي عام قدم للمحكمة مرافعة تصلح ان تنشر وتعمم.
للأسف، لا يمكّنني قرار محكمة بداية جزاء عمان من بدء توزيع الكتاب. علي أن أنتظر مصادقة محكمة الاستئناف عليه، إلا إذا أخذ مدير دائرة المطبوعات والنشر قراراً بعدم الاستئناف والاكتفاء بقرار محكمة الدرجة الأولى. إنه يملك هذه الصلاحية، فهل يمارسها!!
أيها الحضور الكريم: سأقرأ بضعة سطور عن انثيال الذاكرة لأعطي الدكتور محمد عبيد الله الوقت الكافي..
انثيال الذاكرة – هذا ما حصل
أردت منذ سنوات طويلة أن أكتب تجربة جيلي .إنه جيل النكبة الذي عانى وكابد، وتمرد على قسوة الحياة وظروف اللجوء وحياة البؤس والتشرد والاقتلاع من أرضه وموطنه، وشق طريقه بإرادة متحدية لكل الصعاب بما في ذلك الصعوبات السياسية التي كانت تحول دون أن يعلن أنه متعلق بهويته الوطنية، نقيض المشروع الصهيوني.
كتبت التجربة على شكل رواية، أوجعتني فبكيت عندما أنهيتها عام 1988، وفي لحظة حزن عميقة مزقتها قائلاً لنفسي: إن شخصيات الرواية بشر من لحم ودم، حقيقية، ومن الظلم لها أن تقدم على أنها شخصيات خيالية من إبداع كاتب.
بقيت التجربة حبيسة الصدر إلى أن وجدت نفسي بالصدفة أكتب عموداً في جريدة الحياة الجديدة في فلسطين بتحريض من المرحوم الصديق عايد عمر و، ورئيس التحرير حافظ البرغوثي، وأذيّل مقالتي ببريدي الالكتروني.
جاءتني رسالة من صديق قديم يقيم في النرويج، قرأ مقالاتي الأولى على الانترنت وتساءل إن كنت أنا نفسي، فتحي، طالب الجامعة الأمريكية في بيروت، الناشط في فتح “الأصلية” كما وصف في أوائل السبعينات. رددت على رسالته على صفحات الحياة الجديدة مستذكراً أيامنا الأولى في بيروت وفي حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، ووجدتني أكتب جملة ألزمتني بدءا من اليوم التالي: ” سأسمح لذاكرتي أن تنثال على صفحات الحياة الجديدة”.
كتبت حلقات انثيال الذاكرة دون تحضير مسبق، لكن ما كان حبيساً في صدري انطلق، وأخذ الشكل الصحيح: مذكرات، تروي تجربة الجيل وتنصف ابطال المرحلة، تجمع ما بين الشخصي والعام.فيها قصص الحب والحرب وقلق التحول الفكري والاحداث التاريخية القاسية وترصد وقائع الصراع السياسي والعسكري وانعكاس ذلك كله على حياة انسان واجه صدمة الانتقال الحضاري والفكري والسياسي :احب بلاده واحب الوطن وقهرته الايام لكنها لم تهزمه بعد.
لاعترف : كنت أكتب بنفس الروائي، أحرص على وصف الحدث بلغة أردتها أن تكون رشيقة. بسيطة، واضحة، تتابع الأحداث في حرص شديد على عدم الدخول في تفاصيل تبعدني عن سياق الرواية، وأعتقد أن كل حلقة من الانثيال كان يمكن أن تكون فصلاً في رواية من عدة أجزاء، لذلك لم أفاجأ بما كتبه صديقي الناقد – الروائي الياس خوري في ملحق النهار:” أنه وجد نفسه في الصفحات الأولى من الكتاب أمام مشروع رواية كبرى”.
انثيال الذاكرة، تجربتي، وتجربة جيلي، تبدأ من الولادة في خيمة في مخيم مروراً بالمنافي وتنتهي بعودتي إلى جزء من وطن حلمت به وأردته دائماً أن يكون حراً عربياً ومستقلاً. سأظل أحلم، وسأظل أريد.
كل ما ورد في الكتاب ” حصل”. اجتهدت أن أجعل الأحداث تكتسي بإنسانية شخصيات التجربة. أما رؤيا النقاد للعمل، فهي لهم، وأظن أن الصديق الدكتور محمد عبيد الله، القارئ، الناقد، الشاهد سيقدم رؤيته وأنا متأكد أنه أفضل مني في الحديث عن ” انثيال الذاكرة”..
وفي الندوة التي ادارها السيد عبد الله حمودة،رئيس لجنة الحريات في رابطة الكتاب،قدم الناقد محمد عبيد الله استاذ الادب في جامعة فيلادلفيا قراءة نقدية للكتاب جاء فيها:
انثيال الذاكرة لفتحي خليل البس: سيرة التكوين الفلسطيني
• د.محمد عبيد الله
“انثيال الذاكرة-هذا ما حصل” عنوان السيرة الذاتية لفتحي خليل البس، الإصدار الأول 2008، وقد أهدى المؤلف كتابه: “إلى كل من أحب بلادي.. أحب الوطن، وكل من قهرته الأيام لكنها لم تهزمه بعد”، ص5. ولعل كتابة السيرة هنا، تغدو تعبير “حب” وفعل “مواجهة” و”مقاومة” للقهر واحتمالات الهزيمة، عبر إعادة تركيب حكاية الذات وتنظيم التفاصيل والمواقف والأحداث التي شكلتها وأثرت فيها، مع نوع من المراجعة وتجميع الخسائر والأرباح، للوصول إلى الحكمة المستمدة من التجربة، تلك التي افتتح المؤلف كتابه بها في صيغة الإهداء، كما ختمه بها في شكل جملة بارزة أخيرة: “رددت دائما على مسامع أحبائي: قهرتني الأيام لكنها لم تهزمني بعد” ص350.
والسيرة –أي سيرة- تروي: حكاية حياة إنسان، ومن تعريفاتها المشهورة التعريف الذي صاغه فيليب لوجون: “قصة استعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي قصة وجوده الخاص مركزا حديثه على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بالخصوص”. وسيرة فتحي البس لا تتوقف عند الوجود الخاص لمؤلفها وإنما تعرض له ضمن النسيج العام والهم العام: الهم الفلسطيني وتقلبات أحوال فلسطين وأبنائها، وهي بذلك تقترب من نوع “المذكرات” التي يتوسع فيها الاجتماعي والسياسي على حساب الشخصي، لكن مركزية الشخصية المؤلفة والساردة في السيرة وارتباط مختلف الأحوال بها تبقي الكتاب في حدود نوع “السيرة الذاتية” التي تتشابك مع أنواع الأدب الشخصي أو الكتابة الذاتية وتتداخل أو تتشارك مع أنواع أخرى قريبة منها: المذكرات واليوميات ورواية السيرة الذاتية وغير ذلك.
وأما مؤلف السيرة (فتحي خليل البس) فنجد تعريفا موجزا عنه، عبر معلومات ببلوغرافية –رسمية في نهاية الكتاب (ص351) وإذا انطلقنا من هذه الصفحة وتلك المعلومات فسنجد أننا مع شخصية “عامة” لها دور في: المجال السياسي والنضالي (شارك في تأسيس الخلايا الطلابية الأولى لحركة فتح)، وفي مجال حركة النشر والثقافة (مؤسس دار الشروق في الأردن وفلسطين، رئيس اتحاد الناشرين الأردنيين، ونائب رئيس اتحاد الناشرين العرب، رئيس تحرير مجلات عربية). أما ميلاده فعام 1951 في مخيم الفوار لأبوين لاجئين من الفالوجة، درس في مدارس وكالة الغوث وأكمل دراسته في بيروت وحصل على بكالوريوس صيدلة من الجامعة الأمريكية عام 1977 وفصل من دراسته لمدة عامين لأسباب سياسية. هذه المعلومات الموجزة تقدم لنا ضمنا مسوغات كتابة هذه السيرة، كما تجيب على سؤال أساسي يواجه هذا النوع من الكتابة: “لكتابة سيرتك الذاتية يجب أن يكون لك الحق في ذلك” بمعنى: “أن تمتلك وجودا سيريا سابقا يسمح لك بالكتابة عن ذاتك….سوق القراءة لا يقبل أبدا السيرة الذاتية التي يكتبها مؤلفون مجهولون” (توماس بيرك، الكتابات الذاتية، دار أزمنة، 2005، ص30-31). ومؤلف هذه السيرة ليس مجهولا، وإن تكن هذه السيرة كتابه الأول على مستوى التأليف. كما أن التجربة التي يرويها من ناحية ارتباطها بالتجربة الفلسطينية وتحولاتها وتقلباتها تهيئ القارئ لقبول السيرة والإقبال على قراءتها.
تروي هذه السيرة تجربة إنسان فلسطيني من الجيل القريب إلى النكبة، جيل اللجوء والخيام، ولد “في خيمة في مخيم الفوار عام 1951” ووزع والده “قفير تمر احتفالا بقدومه متنازلا عن غذاء العائلة لذلك الشهر” ص11. وتبدأ السيرة وفق المبدأ الاسترجاعي من أول خيوط الماضي، وصولا إلى أول لحظات وعيه، وتتنقل السيرة مع مراحل حياة المؤلف وتقدم سنواته، على تفاوت في التركيز بين مرحلة وأخرى وفق قيمة الذكريات واختيارات الذاكرة.
في السيرة ثلاث مراحل على وجه التقريب: مرحلة أولى هي الطفولة والنشأة المبكرة/مرحلة اللجوء والمخيم، وقد خصص لها الفصول الأولى من الكتاب من ص11-44، وانتهت بنيله منحة دراسية لإكمال الدراسة في بيروت. وتغطي هذه المرحلة السنوات السبعة عشرة الأولى من عمر المؤلف، أي حتى من عام 1951 وحتى صيف عام 1968عندما غادر المخيم إلى بيروت.
المرحلة الثانية هي مرحلة بيروت، مرحلة الشباب والنضج، من عام 1968 وحتى عام 1977. أكمل خلالها دراسته في بيروت (انترناشيونال كولج) حيث بدأ تجربة التكيف مع بيروت وأجوائها، ثم الجامعة الأمريكية حيث انضم إلى العمل السياسي والنضالي، وقد نالت هذه المرحلة الحظ الأوفر من السيرة حيث خصص لها الصفحات من 45-286، ولم يقطعها سوى روايته لأحداث أيلول التي اضطرته للعودة في صيف 1970، وأخذت الصفحات من 81-89. والمرحلة الثالثة هي مرحلة العودة إلى الأردن، أو ما بعد بيروت، وقد خصص لها القسم الأخير من السيرة من ص 287-350.
ونلاحظ هنا أن السيرة لا توزع الاهتمام بعدالة بين السنوات، فالسبعة عشر عاما الأولى نالت 33 صفحة، والسنوات التسع في بيروت نالت 242 صفحة، والثلاثون عاما بعد مغادرة بيروت والاستقرار في الأردن نالت 63 صفحة. الدلالة العامة هي الزخم والغنى الذي رافق مرحلة بيروت فضلا عن انتقال الشخصية إلى مرحلة جديدة متحدية، وكذلك هي مرحلة الشباب التي يقبل فيها المرء على بناء شخصيته وتشييد كينونته وهويته، هي مرحلة التحول والبناء، وإن لم تفتقر المراحل الأخرى لكثير من الغنى. التركيز واضح على مرحلة بيروت التي لم يتشاف منها الكاتب وربما كانت هي مبعث كتابته كلها. ومن دونها ما كان للسيرة أن تكتب أو تولد بواعثها ودوافعها.
السيرة مكتوبة على شكل فصول مرقمة قصيرة من رقم (1) وحتى (69) وهي تقسيمات تعود للشكل الأول الذي كتبت فيه، على شكل حلقات صحفية متسلسلة متقاربة في الحجم، لتناسب الجريدة (الحياة الجديدة) قبل أن تجمع في شكل كتاب، ولولا ذلك لربما قسمت إلى مراحل أو فصول كما أشرنا. ولكن التقسيمات الفصلية القصيرة لم تمنعها من التشكل على هيئة حكاية متتابعة متماسكة، اكتملت في نفس صاحبها قبل أن يكتبها، وتولدت المناسبة لإعلانها بصيغة كتابية مكتملة.
المرحلة الأولى: النشأة في المخيم
تقدم لنا الفصول الأولى إضاءات موجزة دالة، تعيدنا إلى ما يمكن تسميته بـ نشأة الولد الفلسطيني” وخصوصا في الخمسينيات والستينيات، في المرحلة اللاحقة للنكبة، التي واكبت نشأة المخيم ظاهرة فريدة في حياة الإنسان الفلسطيني، تكوين “اعتباطي” تبعا لضرورات العيش وتحديات الواقع، خارج كل المواصفات “التربوية” المألوفة، ونلاحظ في هذه الصورة: التعلق بالتعليم كسبيل لتمتين الوجود والمحافظة عليه من السقوط، وكسبيل لإنقاذ الحال، حال الفرد، والأسرة والجماعة. وكذلك تشغيل الأطفال بأعمال قاسية وممنوعة ضمن “ترف” التعليمات والقوانين العصرية، لكن التكوين غير الطبيعي للوجود الفلسطيني وخصوصا في السنوات التي تلت النكبة كان خارج كل الأنظمة، وكان استثنائيا وغير طبيعي. هناك قدر من المصادفات شبه القدرية، ولكن المصادفة وحدها لا تفسر التكوين والمآل، وإنما لا بد من الانتباه للذات المتشوقة المترصّدة التي تفتش عن أية بارقة أمل أو نقطة ضوء لالتقاطها وتتبعها، وعادة ما تنتفع تلك الذات بتلك البارقة حتى نهاياتها القصوى.
في المرحلة نفسها تقدم السيرة صورة دالة لنشأة المخيم من ناحية اجتماعية وتكوينية، الخيام ونصبها، الحياة في خيمة اللجوء وواقعيتها وطبيعتها، العلاقات بين ساكني الخيام. المخيم مكان غريب وطارئ، وإذا كان نقاد جماليات المكان يركزون على المكان الأول وبيت الطفولة، فإن المخيم هو من أشد بيوت الطفولة غرابة وقسوة، واستعادته بلا شك لمن عاشه تبعث غصة لا يعرفها إلا من كابدها، وهو بهذا مهما يكن محملا بالحنين، ليس مكانا يطيل المرء الوقوف عنده، ويمجد أفضاله، فهو ليس مكانا اختياريا، يولد فيه المرء، وإنما نمط غريب من العيش الذي فرض على الإنسان الفلسطيني بعد تهجيره قسرا من أرضه ووطنه..
المخيم ليس اختيارا في حياة الفلسطيني، وإنما هو مكان مفروض اقتضته ظروف لم يكن الفلسطيني مسؤولا عنها، وإن كان متأثرا بها، هكذا تقدمه سيرة فتحي البس، ليس مكانا معيبا، ولكنه ليس فردوسا ولا بيت طفولة، وهو ليس عقبة، بل هو دافع للذهاب إلى الأمام وإلى المستقبل بصبر وجلد وتحد، بل إنه منح الشخصية في السيرة ذلك القدر من الجرأة والروح القيادية، وروح التعاطف مع الآخرين، والحدب عليهم في مناخ شفيف من الحب الممزوج بالوطنية والرغبة في صنع واقع أفضل لنفسه وللمحيطين به ولأبناء شعبه.
المرحلة الثانية: بيروت التعليم والسياسة والثقافة
الانتقال من مخيم البقعة إلى بيروت في سن السابعة عشرة كان حدثا انتقاليا أساسيا في حياة الشخصية وتكوينها، وقد انعكس ذلك في الاهتمام بهذا الانتقال واستعادة ملابساته وتفاصيله، “ها أنا من المخيم إلى بيروت، عاصمة المال والسياسة والثقافة والحياة، ومن الخيمة إلى صرح كبير” ص45. وليست الحيرة أمام الحمام الحديث بديلا عن الطشت والبابور إلا مظهرا بسيطا لصدمة التحول، ولكنه دال على الهوة الكبيرة بين عالمين متغايرين انتقلت بينهما الشخصية وتمكنت من تجاوز الأول والتعرف على الثاني وعبور عوالمه والاندغام فيها، ولعل هذه الرغبة الدفينة في السيطرة على عالم بيروت أحد الأسرار الضمنية أو الدوافع التي تفسر لنا ذلك الانخراط في نشاطات متنوعة وتلك الروح المغامرة التي تريد أن تتعرف بشكل ما على محيطها عبر مفاجأته والبروز فيه.
في هذا القسم يغطي المؤلف مناخات وأجواء متنوعة: يبدأ بالأجواء التعليمية في الكلية/المدرسة، والجامعة من بعدها، فنتعرف على أحوال السكن الداخلي وزملاء الدراسة والأساتذة الذين يتذكرهم، ومعلومات ضمنية عن المناهج والمقررات وأساليب التعليم وغير ذلك.
ولكن التركيز الأكبر يتركز على الأجواء السياسية والنضالية للحركة الطلابية في بيروت من خلال إسهام المؤلف فيها، ولكنه أيضا لا يعرض لتجربته منفردة، وإنما يرويها ممزوجة بتجربة زملائه والظروف التي أحاطت بها، ويوفر لنا معلومات قيمة لم تسجل أو توثق من قبل حول تأسيس الخلايا الطلابية لفتح ولغيرها من التنظيمات الفلسطينية والعربية في بيروت، مدينة التنظيمات والنشاط السياسي والثقافي والفكري في السبعينيات من القرن العشرين.
وتمر السيرة بمناخات الإضرابات والمواجهات مع الإدارات ومع قوى الأمن والخوف من “المكتب الثاني” مكتب الأمن اللبناني، في حقبة قوته ومعاداته للعمل النضالي الفلسطيني والقومي، وتوثق السيرة بعض هتافات المرحلة وأناشيدها وأشعارها وصفحات من ثقافتها وقراءاتها، وهو ما يعكس تماما الطبيعة الثقافية لمرحلة المد الثوري ونشاط التنظيمات الفدائية والقومية. ومن أبرز ما تضمنته السيرة تلك السيرة المضمنة للنشاط السياسي والنضالي الطلابي، الذي بدأ في صورة خلايا سياسية لم تلبث أن تحولت مع تحولات بيروت إلى “الكتيبة الطلابية” ودخلت أجواء الحرب، ثم آلت إلى كتيبة الجرمق في الجنوب، معبرة عن تيار سماه الكاتب: “خط الجماهير-الشعب”، ولكن التحولات التالية بددتها قبل أن تكتب حكايتها. وإضافة إلى معايشة المؤلف لما يرويه ويتذكره، فقد اعتمد على بعض الوثائق والدراسات كما في إشارته إلى رسالة الباحث مكرم رباح حول الحركة الطلابية في الجامعة الأمريكية، ويبدو أن ذلك البحث وفر له معلومات أسهمت في استعادة الذكريات وفي نسجها بأسلوب أدبي مشوق.
وإذا كان في الصفحات الأولى من السيرة يرسم صورة مؤثرة للفدائي من خلال سرد زيارة ثلاثة فدائيين لخيمته/مقهاه، وهم في طريقهم لعبور النهر، فإنه هنا وسط زخم بيروت يستعيد تلك الصورة أو البقعة الأرجوانية التي ولدت في نفسه الميل إلى ذلك النموذج “أسطورة الفدائي التي سكنتني في مخيم غور نمرين، أصبحت واحدا من شخصياتها، تغيرت ملامح أبطالها، لم يعد الفدائي بالنسبة لي هو فقط ذاك الذي يجتاز النهر مقتحما مقبلا راضيا بالشهادة إن تحققت، بل هو كل الناس في كل مواقعهم، إن آمنوا بأنهم في موقعهم شركاؤه وحماة له”. ص107.
بيروت في السيرة هي المركز، وفي حواشيها صور سريعة: لعمان وبغداد والقاهرة ودمشق. ولكن بيروت تأخذ بمجامع القلب كأنها مدينة الكاتب وليست مدينة اغترابه، وهو كما يبدو حس مشترك لدى الجيل الذي عاش فيها، وقد تكرر ذلك في سير وكتابات عربية وفلسطينية كثيرة.
ما بعد بيروت:
في القسم الثالث أو المرحلة الثالثة بحسب قراءتنا يعود المؤلف إلى مخيم البقعة بعد قرابة عشر سنوات من مغادرتها، لكنها عودة مختلفة تبدل فيها المخيم: “فقد غدت البيوت من “الزينكو والاسبتس بديل الخيم، لكنها تفاقم حر الصيف وبرد الشتاء” ص289. واختلفت الشخصية أيضا: خبرات ومعارف وتجارب أنضجت شخصيته، إضافة إلى الشهادة الجامعية في الصيدلة.
وفي هذا القسم يروي تجربته في تأسيس صيدلية الكرامة في مخيم البقعة وتجربته الصيدلانية، وقصتها وكيفية إقامتها بحسن التدبير وبحس ذكي رافقه منذ بداية حياته. ثم محاولات للسفر والعمل لم تنجح، وصولا إلى تأسيس دار الشروق عام 1979 بالشراكة مع ماهر الكيالي قبل انسحابه.
إنها مرحلة تتوجه فيها الذات إلى الاستقرار على المستوى العائلي والفردي ، هادئة إجمالا ولا تخلو من جماليات، ترافق بداية الثمانينيات وأحوالها الثقافية والسياسية في عمان، يمر المؤلف مرورا سريعا بالأحداث كأنه يريد أن ينتهي، يلخص حياته الجديدة وازدواجيتها بالقول: “أعيش حياتين: حياة ابن المخيم الذي يتواصل يوميا مع عائلته ويعالج شؤونها ويحرص على الارتقاء بمستوى حياتها، وينبض قلبه بهم أبناء المخيم. وحياة المثقف الذي يقضي أمسياته في الشعر والرواية والقصة، والحوارات الفكرية المتنوعة برفاهية تفارق حياة ابن المخيم القاسية”.
من وحي هذه السيرة وما يماثلها نستطيع أن نتأمل مصائر البشر وتحولات حياتهم من حقبة إلى أخرى، لنفهم كيف أننا نظل نحمل نفس الاسم لكن شخصياتنا تتغير إلى درجة التناقض والاختلاف أحيانا، ويتوقف القارئ عند أسماء شاركت الكاتب بعض مسيرته، ليتأمل تحولات البشر فكريا وسياسيا واجتماعيا.
تكشف هذه السيرة عن مقدرة أدبية وثقافة مميزة، جعلت من الكتاب عملا أدبيا ممتعا بما فيه من تنوع ومن مواقف وتجارب ارتحلت من خصوصيتها الذاتية لتغدو قالبة للانتقال إلى القارئ، وهي ليست مكتوبة للقارئ الفلسطيني وحده، وفيها ذلك الأسلوب العام الذي يحيل تجربة الذات إلى تجربة عامة، يقصد منها الدلالة على معاناة الإنسان ومجابهاته مع واقعه مهما يكن انتماؤه. وفيها وعي المثقف الذي يبحث عما يجمعه بالآخرين مهما يكن اختلافهم معه، وليس أدل على ذلك من صداقته مع كمال الصليبي المؤرخ والباحث اللبناني الشهير الذي كان في وقت ما مرشدا روحيا للحركة الوطنية اللبنانية المناوئة للتنظيمات الفلسطينية، قبل أن يترك ذلك دون التخلي عن “لبنانيته” من الناحية الفكرية. وكذلك سرده لحادثة اختطاف السيد عبد الكريم الكباريتي في بيروت عندما كان طالبا في الجامعة الأمريكية من بعض التنظيمات الفلسطينية، وقد عمد فتحي البس إلى تبرئة نفسه وتنظيمه القديم من هذا الاختطاف، وهو ما يدخل في باب الوظيفة التبريرية للسيرة الذاتية.
وتخلو السيرة من تصفية حسابات مع أحد، بأثر رجعي، هناك قدر من احترام خيارات الناس وتجاربهم، مهما تكن توجهاتهم وخياراتهم، وربما كان انتهاء التجربة التنظيمية عاملا أساسيا في ذلك، بحيث غدا الماضي مواقف وتجارب، ولم يعد لتصفية الحساب معنى. ولذلك فإن المسكوت عنه وكلام ما بين السطور موجود في هذه السيرة مثل غيرها من السير الذاتية عموما. فالانتقاء وعدم الرغبة في إثارة المواجع جعلا منها سيرة “غير مزعجة” من ناحية شهادتها على عصرها، وهو ما يجعل القارئ يستغرب محاكمتها، فليس هناك محرمات في الكتابة من ناحية تناول موضوعات أو شخصيات معينة، وإنما الاعتبار للمضمون ولما يقال، وقد تعامل المؤلف بمسؤولية وموضوعية مع تفاصيل سيرته وقضاياها، ولم يطلق العنان لأية أحكام غير منطقية.
وأمر آخر يتصل بنوع السيرة، فهو نوع يفترض مناخا من الحرية التي تبدأ بالفرد الكاتب نفسه، بل إن السيرة هي نتاج الفردية من الناحية الفكرية، ولذلك توسعت مع توسع عصر الفرد والذات والحرية الذاتية والفكرية، بحيث يكون كاتب السيرة جريئا صادقا بعيدا ما أمكن عن الرقابة الذاتية المتشددة، فالسيرة لا تتشكل من الأحداث الرسمية، وإنما من التفاصيل والجزئيات، ومن منظور الفرد الذي يرى العالم من منظاره، ومن علاقته بالأحداث التي صنعها أو شهدها أو كان له دور فيها. وإذا كانت حرية التعبير مطلب وحاجة أساسية لكل كاتب ومبدع، فإن كاتب السيرة محتاج إليها أكثر من غيره، نظرا لحساسية الاقتراب من تفاصيل الحياة الممتلئة بالحقائق المخجلة والمحرجة أحيانا على مستوى حياة الفرد والجماعة.
الاقتراب من أحداث جسيمة مؤلمة كأحداث أبلول في الأردن عام 1970، والحرب الأهلية في لبنان لا شك محتاجة إلى حرية ومسؤولية ولكنها مما لا يمكن تجاوزه في الشهادة على المرحلة وكتابة سيرة إنسان اكتوى بها وعايشها وأسهم فيها بصورة من الصور. ولا تتوقف الأحداث المؤلمة أو تنسى بمنع الحديث عنها، وإنما بسرد حكاياتها واستخلاص العبر منها بعدما ارتحلت وذهبت، فلا خوف منها ولكن الخوف من تأثيراتها، وهو ما يستدعي مراجعتها وتحليلها بأقلام شهودها.
في نهاية الندوة كرر الكاتب فتحي البس موقفه في ان الرقابة السابقة واللاحقة تقتل الابداع ويجب ان تتوقف والى الابد ودعى الكتاب الى عدم الخوف واللجوء الى القضاء لمواجهة تغول دائرة المطبوعات والنشر.كما قرأ بعض الصفحات التي اعتبرها مدير المطبوعات ممنوعة للبرهان على بطلان التهم من الاساس.
ومن الجدير بالذكر ان الكتاب لا يمكن توزيعه الا بعد مصادقة محكمة الاستئناف على قرار القاضي نذير شحادة او مبادرة مدير دائرة المطبوعات والنشر الى عدم استئناف القرار والسماح بتوزيع الكتاب فورا.