يغش نفسه، والآخرين، من لا تزال أحلام تحرير القدس تداعب آماله. فالقول إن حرب 1973، ثم اجتياح لبنان عام 1982، هي آخر الحروب العربية-الإسرائيلية لم يكذب. إلا إذا أصر الممانعون على وصف حرب تموز 2006 بأنها تعادل حروب 1948 و1967 و1973 التي شارك في كل منها أكثر من 4 دول عربية.
تناسلت معاهدات السلام الثنائي، بعدما توسع احتلال الجولان، وسقطت سيناء، من “كامب ديفيد” إلى “وادي عربة”، فمكاتب التمثيل التجاري. ومع فك الأردن إرتباط الضفة الغربية به، سقطت آخر وصاية عربية على القضية الفلسطينية، واستقرت قضية وطنية للفلسطينيين، لهم أن يقرروا فيها، بينما بات سلام المنطقة شأن العرب جميعا.
لم يأت كل ذلك من فراغ. فبعد هزيمة الأنظمة في حرب 1967، رأى قادتها أن يسلموا القضية إلى أبنائها المباشرين، ليغطي غبار المقاومة الفلسطينية عريهم السياسي. وقد توّج المشهد بالقمة العربية عام 2002 في بيروت بمبادرة السلام العربية، على قاعدة الأرض مقابل السلام، ودولة فلسطينية في حدود 1967، واعتراف كل العرب بالكيان الصهيوني وإقامة علاقات ديبلوماسية معه.
لم ترفق المبادرة ببرنامج تنفيذي، سوى اتصالات ديبلوماسية مع الدول الكبرى، فبدا العرب كأنهم إكتفوا بالبيان الختامي وشروحات للديبلوماسيين. فليس لديهم، بعد 54 سنة، حينها، من اغتصاب فلسطين، سوى النيات الطيبات: لا إمكان لحرب جديدة، ولا سعي لها، وليس من شاف سوى الشعارات كـ”تعزيز التضامن العربي” والدعوة إلى الإلتزام بالتوقف عن إقامة علاقات مع اسرائيل”، وحض الأخيرة على “إعادة النظرفي سياساتها”، وكأنها تنتظر منهم إشارة لتحسين سلوكها كإبن ضال التقى “الكبار” على دعوته للتعقل.
لم يعد تهديد اسرائيل بالحرب يجدي، وغير وارد أصلا، وزوالها، كما إلزامها بأي خطوة، يحتاجان إلى موازين قوى دولي مختلف صار من الأوهام، وفيما الإنتفاضة المسلحة أظهرت عقمها، على عكس انتفاضة الحجارة، وفيما انكشف إنقلاب “حماس” واقتطاعها غزة خارج السلطة الفلسطينية، عن تناحر على السلطة، بدليل نقاش الحركة، مع اسرائيل، اليوم، ، ما كانت تدين به السلطة.
وسط هذه اللوحة التأريخية المبتسرة، وإصرار تل أبيب على الإعتراف بالقدس عاصمة لها، يطل مصير هذه المدينة المقدسة ملحا، في الإرشاد الرسولي للبابا بنديكتوس السادس عشر في بيروت سنة 2012، ثم في زيارة البابا فرنسيس الأول الأراضي المقدسة، بصحبة أحبار الكنيسة الشرقية، والدعوة، في الزيارتين، لتكون القدس وجهة دائمة ومفتوحة لكل المؤمنين. وفي الضفة العربية، دعت قمة عمّان في آذار الماضي إلى توأمة المدن العربية مع مدينة القدس.
خطوتان تلاقيان تحرك السلطة الفلسطينية ولن تكونا مريحتين للحكومة الإسرائيلية التي تمنع الفلسطينيين من دخول المدينة في ما يذكّر بالتمييز العنصري، ولن تكون سمنا وعسلا للذين يقتاتون من شعارات تحرير القدس، ولا نرى منه طحنا..
rached.fayed@annahar.com.lb