إزاء مشكلة القدس وإشكالية قرار ترامب، يتصرف العالم تحت ضغط الحالة الطارئة بينما كان الجميع من الصين إلى روسيا ودول الاتحاد الأوروبي والدول الإسلامية يلاحظ أن عملية السلام في طور الاحتضار.
يعتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه سيدخل التاريخ من بابه الواسع لأنه قام بتوقيع قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والشعب اليهودي، وتباهى بذلك في تغريدة على تويتر أنه وفى بوعده بينما لم يفعل ذلك سواه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية. إنه “الدونالد” الذي يغرد خارج سربه ويقف وحيدا في وجه العالم ويضع هيبة ومصداقية واشنطن على المحك. ومن الواضح أن الدوافع الشخصية والمتصلة بالسياسة الداخلية أملت اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت من دون التمعن في التبعات وخاصة بالنسبة لعملية السلام المترنحة في الأساس، أو لجهة استفادة إيران من هذه “الهدية” في هذه اللحظة الإقليمية الحرجة، أو لانعكاس ذلك على حلفاء واشنطن والاستهتار بإمكانية اندلاع شرارة القدس في قلب الشرق الأوسط الملتهب.
يكاد ينتهي العام الأول من عمر إدارة ترامب من دون إحراز أي انجاز كبير داخلياً وخارجيا باستثناء التوصل في الأسبوع الماضي إلى تعديل السياسة الضريبية وفق الخيارات الليبرالية للحزب الجمهوري. وفي هذا الوقت، يتعمق التعثر في السياسة الخارجية خاصة لجهة التراجع عن الالتزامات السابقة لواشنطن أو في مواجهة كوريا الشمالية.
ويتأكد أن شبح مسألة التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الرئاسية الأميركية (فضيحة روسيا غيت في الأفق) يقض مضاجع سيد البيت الأبيض بعد وصول الاتهام لمستشاره السابق لأمنه القومي مايكل فلين وما يقال عن صلة لصهره جاريد كوشنر، وتتردد شائعات في العاصمة الفيدرالية عن احتمال استخدام ترامب لسلاح “العفو الرئاسي” حسب تطورات الملف من أجل إنقاذ الولاية الرئاسية.
ولذا ليس من المستبعد أن يكون توقيت قرار الاعتراف مرتبطاً بتحركات المحقق روبرت مولر، وأراد من خلاله ترامب تدعيم وضعه الداخلي والقول أنه الوحيد الذي ينفذ وعوده الانتخابية والتوجه لاسترضاء وإرضاء قاعدته الانتخابية وفي المقام الأول منها المسيحيين الإنجيليين الذين لا يخفون استعجالهم تطبيق “الوعد الإلهي” بعودة السد المسيح، ويصل الأمر بثمانين بالمئة منهم (حسب استطلاع المركز الأميركي للحياة الدينية في 2014) للاعتقاد بأن إسرائيل “هدية من الرب للشعب اليهودي”، وأن ارتباط الولايات المتحدة يتوجب أن يكون عضوياً معها ويتصل بالهوية والانتماء.
ولا تسهل مهمة دونالد ترامب الأسطورة الدينية لوحدها ولا نفوذ لوبي “أيباك” ومجموعات الضغط فحسب، بل وجود نوع من الإجماع عند الحزبين الديمقراطي والجمهوري عندما يتعلق الأمر بإسرائيل التي يبقى التعامل معها كأنه شأن داخلي أميركي.
هكذا وبالرغم من معارضة وزيري الخارجية والدفاع (اللذان استندا إلى المحاذير التي منعت أسلافه من الإقدام على هذه الخطوة)، هناك شبهة في الهروب إلى الأمام في ملف شبهة التورط الروسي في تسهيل انتخابه، ومن أجل تعزيز وضع فريقه على أبواب الانتخابات الجزئية، ومن أجل القول أن إدارته منتجة وفعالة على عكس الواقع، وإعطاء الانطباع عن قدرته على كسر المحرمات من أجل دغدغة أحلام العظمة والنجاح كما سبق له ذلك في مجال الاستعراض والعقارات.
بيد أنه يتوجب التذكير والتركيز على أن القرار حول القدس لا يشكل استثناء حيث سبقته قرارات مماثلة في العزف المنفرد لترامب، وأبرزها التخلي عن اتفاقيات المناخ والتجارة حول المحيط الهادي، والانسحاب من اليونسكو والتشدد بشـأن الاتفـاق النووي مع إيران وداخل منظمة التجارة الدولية.
من خلال هذا النهج وبناء على خطابه الهجومي ضد الدبلوماسية المتعددة الأطراف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، يتضح أن دونالد ترامب ينفذ انقلابا على “نظام العلاقات الدولية” الذي أرسته وقادته واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعني ذلك أن الدبلوماسية بمعناها الواسع والقانون الدولي لا يعدان من مفردات السياسة الخارجية الترامبية.
والأدهى أن القرار الأحادي حول القدس يمكن أن يصنف في نفس خانة وعد بلفور منذ قرن، خاصة بالنسبة لتداعياته التلقائية لناحية إعلاء البعد الديني في النزاعات وترك “صراع الآلهة” مهيمناً على منطقة منكوبة بنزاعاتها ومشتعلة بامتياز، إذ لا يمكن لأي مراقب إلا أن يستغرب أن يأتي هذا القرار بعد إنهاء وجود تنظيم داعش في معاقله الأساسية، وما يمكن لهذا الاعتراف فعله من منح مبررات لدعاة الفكر الجهادي وأرباب الإرهاب لتبرير أيديولوجيتهم.
ويصل الأمر إلى حد الاستهجان للامبالاة ترامب بقيمة القدس ومكانتها الرمزية وعدم سماعه نداء بابا الفاتيكان أو الاهتمام بمشاعر ملايين المسلمين حول العالم، بغض النظر عن التمييز بين المخزون الطائفي وتحكيم المنطق في مسعى لمقاربة تفصل بين الأسطوري والديني والمدني والقانون الدولي في هذه القضية الشائكة وشبه المستعصية على الحل.
ويزداد الطين بلة مع تضمن قرار ترامب الأحادي توجه المؤسسات الأميركية لإنكار التزامات واشنطن الراعية لاتفاق أوسلو وأحكام القانون الدولي وعدم المبالاة بالآثار العملية على مجمل حلفاء واشنطن، ومنح المحور الإيـراني، كما بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقوى الإسلام السياسي، كل الأسلحة والذرائع في الترويج لخطاب يحبذ القطيعة، من دون تقديم أشياء ملموسة للشعب الفلسطيني.
إزاء المشكلة المتعلقة بمدينة القدس وإشكالية قرار دونالد ترامب، يتصرف العالم تحت ضغط الحالة الطارئة بينما كان الجميع، من الصين إلى روسيا، إلى دول الاتحاد الأوروبي وكل الدول الإسلامية، يلاحظ أن عملية السلام في طور الاحتضار.
وكأن هذه المجموعة الدولية أخذت تتقن التغطية على العجز بالبكاء على الأطلال ولوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب من دون تحمل مسؤولياتها في ما يتعدى الأمكنة ورمزيتها، والاهتمام بالشعب الفلسطيني، ومستقبل العيش المشترك في الشرق الأوسط مسرح لعبة الأساطير ولعبة الأمم اللتان لا ترحمان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب