حسب المدرسة الدينية الفقهية، فإن النظام الحقوقي في الإسلام يتجلى في الفقه. غير أن هذا الفقه يفتقد في الوقت الراهن صورته المدنية حسبما يرى المفكر الإيراني آرش نراقي. أي أن التزام الفقه بنظامه الحقوقي سيناقض الحقوق الدستورية المدنية للمواطنين. وبالتالي، إجبار المواطنين على التقيّد بالقوانين الفقهية سيتعارض مع مفهوم العدالة الراهن المرتبط بالمعيار الحديث لحقوق الإنسان.
لذا يطرح نراقي الأسئلة التالية: هل يمكن للحقوق المدنية أن تحصل على مشروعية دينية؟ أو، في المقابل، هل يمكن للحقوق الصادرة عن النظام الفقهي أن تحصل على مشروعية مدنية؟ وبعبارة أخرى، هل نقاش تمدين الحقوق الدينية الفقهية (أي أن يصبح الفقه مدنيّا) يسبق نقاش تديين الحقوق المدنيّة؟ وانطلاقا من تمدين الحقوق الفقهية، هل نستطيع التوصل إلى قراءة مدنيّة للنظام الحقوقي الفقهي، وأن نجعل ذلك النظام جزءا من الحياة المدنيّة؟ وإذا استطعنا التوصل إلى تلك القراءة، ما هي المعايير المدنية التي يمكن من خلالها أن نجعل النظام الحقوقي الفقهي مدنيّا؟
التحولات الحداثية التي غيّرت صورة الحياة، أقنعت الكثيرين بضرورة إصلاح الفهم الديني، من أجل أن يواكب الدين تلك التحولات والتغييرات. وإصلاح الفهم الديني، مسؤولية يتحمّلها كافة المنتمين إلى تراب الوطن. لماذا الكافة وليس فحسب المنتمين للتيار الديني أو المتدينين؟ لأن الفهم الديني يؤثر في مختلف جوانب حياتنا، ويتأثر الجميع بذلك، وبالتالي لابد للجميع أن يتحمّلوا مسؤولية إصلاحه وتغييره. فمن الخطورة بمكان جعل الإصلاح حكرا على التيار الديني ورجاله، ذلك أن فهم الدين ليس بالأمر الذي يجب أن يحتكره أحد، فهو – أي الفهم – يخضع لاعتبارات مختلفة تتشارك في تشكيله الكثير من التوجهات والأحداث والظروف والعلوم.
لذلك، لا بد لإصلاح فهم الدين أن يتّصف بالاستمرار. لأن الحياة تتطور باستمرار. فإذا لم نطوّر الفهم الديني، وتركناه يعيش رؤيته القديمة المتوافقة مع الظروف التاريخية، بينما تطورت مسارات الحياة المختلفة وتغيّرت، سيصبح الدين عالة على الحياة، فيما نحن نريده أن يتوافق مع التطورات، لكي يصبح مؤثرا في عملية التغيير، بدلا من مسعى محاربته باعتباره مناوئا لعملية التغيير.
يقع فهم الدين وإصلاحه بين طرفي: الرؤية التقليدية التاريخية المحافظة، الرافضة لأي نقد خارجي يوجّه لفهمها، باعتبار أن هذا الفهم شأن خاص بها، أي هو شأن العقل الديني، وأن أي مسؤولية لإصلاحه وتغييره تقع على عاتقها ووفق منهجها. والرؤية الحداثية، المتكئة على أصالة العقلانية النقدية، التي ترى أنها من خلال هذا النقد، تستطيع أن تتطور بالفهم ليواكب التحولات والتغيرات.
في المجتمعات المحافظة، التي يساهم الفهم الديني القديم بشكل رئيسي في تشكيل جذورها ويعتبر التقليد أحد صورها البارزة، يواجه إصلاح هذا الفهم مقاومة شديدة. غير أن تلك المقاومة بدأت تتفكك في ظل بروز الطبقة الوسطى التي ترتكز مطالبها على الكثير من الحاجات الحداثية، وهي حاجات لا يمكن فصلها عن مفاهيم الحداثة. أي أن الحاجة ارتبطت بالمفهوم لتشكّل وحدة متناسقة، بدلا من فصل الحاجة عن المفهوم ما أدى إلى أن يبقى البعض منتميا في الشكل إلى الحداثة في حين لا يزال فهمه وتفكيره والكثير من استنتاجاته منتمية إلى التاريخ. ففي ظل بروز الطبقة الوسطى، باتت مسألة إصلاح الفهم الديني متجاوزة النخب ومقبولة عند الكثير من العامة.
إن إصلاح الفهم الديني، حسب نراقي، مهم لشريحتين: مهم للمتديّنين المرتبطة حياتهم ببعض المعايير الحداثية، كالمتدينين العاملين في مجال حقوق الإنسان. ومهم لغير المتدينين الذين يعيشون في وسط مجتمعات دينية تقليدية ومحافظة.
يعتقد نراقي بأن إصلاح النظام الحقوقي الفقهي يجب أن يسير في إطار توضيح بعض النقاط: أولا، أن القرآن ليس بالكتاب الذي يجب أن نستخرج منه قوانين للحياة، أي هو كتاب هداية، بمعنى أنه يهتم أكثر من أي شيء آخر بتوضيح ماهية الإنسان في هذا العالم، وتركيزه منصب على توضيح ذلك استنادا إلى عاملي الإيمان بوجود إله واحد والإيمان بوجود حياة أخرى بعد الموت، ومن ثَمّ لا وجود لقوانين في القرآن، وأنّ أي مسعى لتبديل الرؤى والوصايا الإيمانية والأخلاقية بجعلها قوانين هو تأويل للنص الديني.
ثانيا، لابد من نقد منهج الأحاديث في الإسلام، وبالذات نقد مصادره، والاستفادة في ذلك من العلم الحديث في البحث بالتاريخ، أي تفعيل النقد العلمي والبحث العلمي التاريخي الحديث.
ثالثا، لابد من وضع النص الديني، القرآن والأحاديث، في سياقه التاريخي. فمن الضرورة بمكان اللجوء إلى السياق لكشف معنى النص. أي توضيح الظروف والملابسات الاجتماعية والثقافية التاريخية التي جاء وظهر على أساسها النص، في حين أن الكثير من المفسرين حمّلوا النص على الواقع فيما هو لم يكن إلا تعبير عن ظرفه. ويؤكد العديد من الباحثين أن هناك ظروفا وملابسات شيّدها بعض الفقهاء في قرون لاحقة على ظهور النص، من أجل خلق تفسير دائم يتجاوز سياقات وظروف النص، وذلك لوضع منهج حقوقي ديني يستطيعون من خلاله أن يعلنوا عن وجود نظام حقوقي في الإسلام. وفي مقابل مسعى هؤلاء الفقهاء، يرى نراقي ضرورة تفعيل النقد التاريخي كشرط يسبق القراءة التاريخية للنص. وعليه، فإن إصلاح النظام الحقوقي الفقهي لا يمكن أن يتم من دون تفعيل النقد العلمي للأحاديث والروايات التي هيأت سياقا خاصا للنص القرآني.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com