أنقرة- ” الشفاف” خزامى عصمت
المغني القومي الكردي” شيفان برفر” يعرفه جميع الأكراد في العالم، هرب من تركيا إلى أوروبا لاجئاً شتاء عام 1976 ويقيم حالياً في مدينة كولن الألمانية. حكمت عليه آنذاك محاكم أمن الدولة في تركيا في أكثر من ثلاثين قضية بتهمة مخالفة الدستور التركي (دستور عام 1961) الذي كان يحرم إستخدام اللغة الكردية- لكن المفارقة الغريبة تكمن في أن أغاني المغني الكردي الشهير التي تعرض للمحاكمة بسببها كانت أغاني غزل وعواطف وحب وأحلام المحبين الهائمين ولم تكن تحمل أي معان سياسية أو قومية تنادي بشعارات أو تمجد قيادات كردية وإن كان تحول الرجل فيما بعد إلى الغناء القومي الكردي المطالب بالوطن الموحد لجميع الأكراد في الدول الأربع تركيا وإيران والعراق وسوريا كما يقول في أشهر أغنية لديه التي تعرف بـ “أوزانيم-أوزان”.
وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على فرار المغني العاطفي من تركيا، وبعد مقتل أكثر من ثلاثين ألف مواطن تركي وكردي راحوا ضحية الصراع المسلح الذي يقوده مسلحو حزب العمال الكردستاني في سبيل تحقيق الإنفصال عن تركيا وبناء وطن قومي للأكراد في جنوب شرقها- عادت تركيا أخيراً إلى صوابها وتنازلت للمغني الشهير شيفان ودعته ليكون قائد الأوركسترا في حفل إفتتاح الفضائية الكردية الأولى (قنال شيش) التي أطلقتها الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الحكومي التركي.
قبل الحديث عن المخاض العسير والصعوبات التي واجهت إطلاق الفضائية الكردية يجب إستذكار الصعوبات التي واجهت حكومة آردوغان لتمهيد الطريق أمام المغني شيفان لتمكينه من دخول تركيا رغم كل الأحكام الصادرة بحقة وبخاصة أنه كان مدعواً لأداء أشهر أغانيه القومية الكردية على الإطلاق في فضائية تركيا الناطقة بالكردية، فأولاً كان يتطلب الأمر تغيير معظم مواد الدستور التركي (1961) وقد تم تغيير أكثر من 498 مادة فيه. سبق ذلك إلغاء محاكم أمن الدولة وسمحت حكومة آردوغان بإستخدام اللغة الكردية وأوجدت مترجمين من التركية إلى الكردية في بعض دوائر الدولة وأقسام الشرطة والمحاكم ودوائر العقارات لمساعدة غير العارفين باللغة التركية، ثم أوجدت في مدن تقطنها غالبية كردية مثل ديار بكر فرقاً من الشرطة النسائية لمساعدة المسنين من الأكراد في أداء بعض حاجاتهم اليومية البسيطة مثل دفع فواتير الماء والهاتف أو مراجعة المستشفيات أو الحصول على معونة الدولة المخصصة للمسنين إلخ … وفي المراحل المتقدمة أصدرت الحكومة مجموعة من القوانين التي سمحت بإصدارات مكتوبة من صحف ومجلات باللغة الكردية وشهدت مدينة ديار بكر عروضاً مسرحية كردية مثل مسرحية (زوراف ) نوفمبر 2003 وسبقها عرض الفيلم الكردي”مم و زين”المأخوذ عن رواية الروائي الكردي الشهير “محمدي خاني” وسمحت القوانين التركية بتعلم وتعليم اللغة الكردية في مدارس خاصة ووصل عدد المدارس التي حصلت على تراخيص في الأسبوع الأول من صدور القرار إلى نحو عشرين مدرسة.
هذه الخطوات التي تبدو أموراً عادية لم تكن سهلة المنال والتحقيق في دولة مثل تركيا كان التيار القومي المتشدد والعسكريون فيها يرفضون حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي أي إعتراف بوجود القومية الكردية- لكن حكومة آردوغان تمكنت من كسر هذا الرفض وتوجهت إلى مواطنيها الأكراد بلغة جديدة وصلت إلى تصريح آردوغان الشهير الذي أطلقه في ديار بكر حيث قال إن لتركيا اليوم هوية وطنية وليست قومية إنها الهوية التركية- أي أنه أسقطت مقولة الدولة القومية الرافضة للهويات القومية، وأعقب في حديثه أن للأكراد هوية قومية وثقافية مثل الأتراك، وعند إطلاقه الفضائية الكردية تحدث باللغة الكردية عبارات تعلمها ليقول “بخير بي” وتعني مبروك.
هكذا تمكن آردوغان من تسهيل عودة المغني شيفان إلى تركيا بعد ثلاثة عقود من الحرمان والنفي القسري الذي فرضته عليه قوانين ودستور تركيا- لكن شيفان لم يتمكن من تلبية الدعوة والحضور إلى تركيا وهذه المرة منعه التهديد بالقتل الذي تعرض إليه من قبل ناشطين وقيادات في حزب العمال الكردستاني الذي أعلن جميع الأكراد العاملين في الفضائية خونة ويجب قتلهم كما قال القيادي باهوز في تصريح له. وفي نقد قيادات الكردستاني ساق الحزب حجة أن الفضائية الكردية والتعديلات الدستورية والقوانين التي أصدرتها حكومة آردوغان جاءت بضغوط أوروبية كشرط لتلبية رغبة تركيا في الإنضمام للإتحاد الأوروبي. والغريب أن القيادات الكردية كانت وماتزال تلجأ إلى العواصم الأوروبية وتطالبها بالضغط على حكومات أنقرة لمنح الأكراد حقوقاً ثقافية وحرية التعبير وعندما رضخت أنقرة للضغوط ونفذت المطالب الكردية إتهمها المطالبون بالرضوخ للضغوط الأوروبية وقالوا عن الفضائية الكردية إنها مسعى جديد لغسل دماغ الأكراد وشحنهم بالمثل والتعاليم الأتاتوركية- فيما راح البعض للحديث عن وصفها بالمنافس لقناة “روج” التي تبث من أوروبا وهي المؤسسة الإعلامية الخاصة بحزب العمال الكردستاني ونجحت في توجيه الرأي العام الكردي منذ تأسيسها حسب سياسات وتوجهات الحزب التي كانت تتناول في برامج إخبارية وحوارية بالتحليل والرأي وتسهم في إبراز آراء محللين أتراك حتى إن كانوا من ألد أعداء الحزب والمعترضين على سياساته، لكنها تبالغ في النقد والتعتيم الإعلامي في العموم على آراء وسياسات أحزاب كردية وتيارات سياسية كردية على خلاف مع حزب العمال الكردستاني، والقائمون على الفضائية التركية يؤكدون على أنها ستكون قناة منفتحة على كافة الآراء الكردية وفي نفس الوقت لا تتردد في التأكيد على أنها لن تسمح أبداً للآراء التي تتبنى العنف والعمل المسلح. وهذا ما يدفع القيادات الكردستانية للإعتراض عليها وإتهامها بأنها ستكون قناة معادية لهم.
khouzama1@gmail.com