على حين ظل الفساد ينخر معظم المؤسسات السياسية والعسكرية والإقتصادية والامنية والقضائية في باكستان، ويلطخ سمعة وتاريخ رموزها، على مدى العقود الستة الماضية منذ إنفصال الأخيرة عن الهند البريطانية وقيامها ككيان مستقل، فإن المؤسسات الدستورية الهندية – خصوصا مؤسسة الجيش ذات الإحترام الكبير، والتاريخ النظيف المشهود بالخضوع للمؤسسات الديمقراطية المدنية – ظلت بعيدة عن مثل هذه الحالات، مع إستثناءات قليلة تمثلت في فساد عدد قليل من ساستها – ولا سيما المحليين منهم – و إكتشاف بضع حالات فساد في صفوف ضباط الجيش ممن حاولوا قبض العمولات أثناء عقد صفقات تحديث معدات الجيش أوأثناء توقيع إتفاقيات بناء المنشآت العسكرية، أو ممن حاولوا تحويل وجهات المعونات الخارجية او تهريب سلع تافهة مخصصة لمنسوبي الجيش لصالحهم كالسجائر والمشروبات الكحولية والوقود والأغطية والملابس والخيام).
غير أن الأمور تغيرت بشكل دراماتيكي وسريع خلال السنوات العشر الماضية، وبالتزامن مع ما شهدته وتشهده الهند، المترامية الأطراف، والمثقلة بعدد ضخم من السكان والأجهزة البيروقراطية المركزية والمحلية، من عمليات تجديد للبنية التحتية، وتدشين للمشاريع الإنمائية والصناعية والعسكرية الكبرى، من تلك التي تستهدف اللحاق بركب العصر ومواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
فإذا ما إستثنينا ما حدث في العام الماضي حينما تمت عملية بيع مشبوهة لأراض تتبع ملكيتها لوزارة الدفاع في منطقة “سوخنا” بولاية “البنغال الغربية” بمساحة تقترب من الثلاثين هكتارا إلى مجموعة من المستثمرين المحليين في القطاع الخاص، وهي العملية التي أكتشفت سريعا ونال المتورطون فيها عقوبات مختلفة في صورة مصادرة أموالهم، وتخفيض رتبهم العسكرية أو نقلهم نقلا تأديبيا إلى وظائف دنيا، فإن ما وقع مؤخرا أثار الدهشة والقيل والقال، وأدى إلى فتح كل الملفات على مصراعيها، خصوصا وأن قضية الفساد الجديدة مست حقوق أرامل شهداء الجيش ممن قضوا دفاعا عن سيادة الوطن ووحدته أثناء الحرب الجبلية القصيرة مع باكستان في عام 1999 ، والمعروفة بحرب أو أزمة “كارغيل”.
وتتخلص حكاية الفساد الطازجة في أن التحقيقات الرسمية أدت إلى ثبوت تورط عدد من الساسة والبيروقراطيين المتنفذين، بالإشتراك مع مجموعة من كبار ضباط المؤسسة العسكرية، في الإستيلاء، دون وجه حق وعن طريق التزوير وتغيير شروط التملك، على عقارات فارهة لأنفسهم في مشروع سكني في منطقة “كولابا” التجارية الواقعة في الجزء الجنوبي من مدينة “مومباي” عاصمة ولاية “مهاراشترا”، علما بأن المشروع المذكور تم الإنتهاء منه في عام 2008 .
وفي سياق الكشف عن فضيحة الفساد هذه، تمت الإشارة تحديدا إلى الجنرالين “ديباك كابور” و “نيرمان تشاندر فيج”، إضافة إلى قائد القوات البحرية السابق الأدميرال “مانيندرا سينغ” والنائب السابق لقائد القوات المسلحة “شانتانو تشودري”، كأشخاص ضالعين في تملك ما لا حق لهم فيه من خلال ترهيب مسئولي ” الجمعية التعاونية العسكرية للإسكان”. بل تمت الإشارة أيضا إلى أن الجنرالين “كابور” و “فيج” قد سنا بنفسيهما إشتراطات تتيح لهما تملك عدد من الشقق السكنية التي يتجاوز سعر الواحدة منها اليوم 80 مليون روبية أو ما يعادل 1.8 مليون دولار أمريكي. من تلك الإشتراطات، أن من يريد الإنتفاع بالسكن يجب عليه تقديم أوراق وشهادات تثبت إقامته في “مومباي” (المدينة التي تشهد طفرة عقارية غير مسبوقة وغلاء فاحشا في أسعار الأراضي) لمدة لا تقل عن 15 عاما. وكي ينطبق على الجنرالين مثل هذا الشرط، قاما بإستصدار شهادات مزورة بهذا الخصوص، وقدما أوراقا مفبركة.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن عملية الفساد هذه لم تكتشف إلا حينما بادر الأدميرال “سانجيف باسين” من قيادة القوات البحرية المرابطة في “مومباي” بالكتابة إلى كبار رؤسائه في وزارة الدفاع في “نيودلهي”، شاكيا من وجود مخالفات جسيمة في إتمام المشروع السكني المذكور، ومشيرا في الوقت نفسه إلى وجود مخاطر أمنية للمشروع كونه يطل على منشآت عسكرية حساسة في المنطقة، علاوة على أضراره البيئية التي كانت الصحافة المحلية قد أشارت إليها في سنوات سابقة، لكن المؤسسة العسكرية تصدت لها بالقول “أن الأراضي والمناطق التي تتبعها لا تنطبق عليها القوانين المدنية”.
وهكذا كانت رسالة الأدميرال “باسين” هي التي قرعت أجراس الإنذار، ودفعت السلطات إلى فتح تحقيق واسع حول المشروع السكني في “كولابا”. حيث تبين بعد الفحص والتدقيق الميدانيين، أن المشروع الذي كان مقررا له ألا يتجاوز الأدوار الستة، إرتفع إلى 31 دورا بإرتفاع 100 متر، الأمر الذي جعله يكشف كل ما يدور داخل المنشآت العسكرية الحساسة القائمة على شواطيء “مومباي”، وبالتالي ففي إستطاعة أعداء الهند (من إنفصاليين كشميريين وماويين وجماعات إرهابية متشددة) إستخدامه في القيام بعمليات هجومية ناجحة.
وتعليقا على هذه الحالة غير المسبوقة طالبت الصحافة الهندية الحرة في إفتتاحيتها بضرورة تدخل الدولة بقوة قبل أن تستفحل الظاهرة، وتتحول الهند إلى صنو لباكستان لجهة تفشي الفساد في أوصالها، وعجز المؤسسات المدنية عن كبح جماح طموحات جنرالات المؤسسة العسكرية، فيما كتب بعض نشطاء المجتمع المدني مقالات يحثون فيها حزب المؤتمر الحاكم وحزب “بهاراتيا جاناتا” المعارض إلى رص الصفوف و تكثيف الجهود لمكافحة مختلف ظواهر الفساد والإفساد، بدلا من توجيه الإتهامات لبعضهما البعض حول من زرع بذور الفساد في المجتمع أولا، أو الدخول في سجال عقيم حول أيهما يملك تاريخا أكثر نصاعة، ورموزا أكثر نزاهة. هذا علما بأن الحزب الحاكم بقيادة السيدة “سونيا غاندي” وجد نفسه في موقف دفاعي مؤخرا أمام حزب المعارضة، على خلفية طرد الأول لرمزين من رموزه الكبار، وهما وزير الاتصالات “أنديموتو راجا”، ورئيس حكومة ولاية مهاراشترا “أشوك تشافان”، بسبب الغش وسؤ التصرف والإخلال بالأمانة، وهو ما نجم عنه خسائر فاقت الأربعين بليون دولار في سوق المبادلات المالية.
على أنه من المهم هنا التذكير بأنه طالما وجدت في الهند مؤسسات ديمقراطية شفافة، وصحافة حرة، وقضاء نزيه، فإن جرثومة الفساد لن تنجح في التكاثر، ومن يقتاتون عليها لن يستطيعون الإفلات من العقاب، أي على العكس من الأمم ذات الأنظمة الشمولية، والإعلام المقموع.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh