في عام 1926م توجّه صاحب سؤال التجديد والحداثة في الحجاز والجزيرة العربية محمد سرور صبان، بسؤاله الشهير إلى النابتة والشبيبة المثقفة في مكة المكرمة: “هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أم يجنحوا إلى التطور الحديث ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم القيود اللغوية، ويسيروا على طريقة عامية مطلقة؟”.
وإذا كان سؤال الصبّان في الحقيقة، يحصر التجديد في الأساليب اللغوية والأدبية، فما ذلك إلاّ انسجاماً مع منحى الصراع الأيديولوجي بين التقليد والتحديث، الذي كان يجد طريقه وقتها في شكل الأدب وتقاليد اللغة. فرمزية سؤال التحديث في اللغة وشكل الأدب، كان فعلا ثورياً وقتها، ومؤشراً على حجم التحولات الفكرية والذهنية. فدلالات التجاذب بين تياري التقليد والتحديث في شكل الأدب حينها، هي ذاتها الدلالات التي تفصح عن نفسها اليوم في ميدان الصراع على شكل الخطاب الديني والسياسي والمجتمعي.
ولم تمهل النابتة المثقفة والمتحررة سؤال الصبّان كثيراً، حتى صدرت النصوص الأدبية والأعمال الفكرية منسجمة مع خطوط التيار التحديثي الذي وضع أسسه الصبان في الحجاز، وتبناه أدبياً ومؤسساتياً ومعنوياً. إلا أن نابغاً بعينه من بين أولئك النابتة، تسنّم صهوة الريادة، على المستوى الإقليمي، وزامن رواده على المستوى العربي. إنه محمد حسن، ابن قاسم عوّاد الذي كان شيخاً لمراكبية البحر في ميناء جدة. فمحمد حسن عواد في معرض جوابه المباشر على سؤال الصبان الذي رأى أنه “لا يحسن باللغة العربية أن تقف جامدة مكتوفة اليدين تضن يوميا بالألفاظ الجديدة”، كان قد كلل دعوته تلك عملياً حين تجرأ إلى كسر عمودية الشعر، وقدم بديلا عنها القصيدة الحرّة، حديثة البنية والتراكيب، لأول مرة في الجزيرة العربية في 1924م، وما لبث أن ألحقها بإصدار كتابه الرائد (خواطر مصرّحة)، في 1926م، الذي كان فيه “إرهاص بالنهوض والبعث وتوفّز وتحفّز وإعداد واستعداد وطموح وتطلّع ودرس وتخيّر وإنتاج” – على حد وصف أحمد الغزاوي.
والحقيقة فقد كان كتاب “خواطر مصرّحة” بياناً نهضوياً وأخلاقيا رائداًًً، و(مانفيستو) عملي للتجديد والتحديث، اعتنى فيه العواد بموضوعات الفكر والاقتصاد والتعليم والأدب والمجتمع والدين والعمل التعاوني. وسيطرت على آرائه فيها هواجس النهضة والتقدم، والانفتاح على روح العصر، والتنوير والتجديد، ونبذ الجمود، وحرية الفكر والتعبير، والحماسة والفتوة، والابتكار والإبداع، والرابطة الوطنية وذم التشرذم، ومساواة المرأة بالرجل.
لقد تجاوز العواد في كتابه ذلك سؤال الصبان، بل وأحدث قطيعة معرفية مع ما سبقه من طرائق التفكير وأنظمة المعرفة في عموم حواضر الحجاز والجزيرة العربية. إذ إن ريادته الحقيقية تكمن في تأسيسه لنسق للعلم والمعرفة موازٍ لنسق الإيمان والسلطة، تجلّى في تعويله على العلوم الحديثة والمعارف العصرية كسبيل للنهوض والترقي، لا إلى الدعوات القومية أو الإقليمية أو المذهبية السلفية بحسب ما كان سائداً.
وإلى دعواته الشاملة إلى تحرير السلطة المعرفية، حين نادى بحرية التفكير والتعبير وتوسيع أفق الاطلاع وإعمال مناهج النقد بغية تحديث بنيتها ومفاهيمها ووظيفتها. وإلى تحديثها – أي السلطة المعرفية -، حين دعا إلى محاربة الأوهام والخزعبلات ونبذ الجمود في الخطاب الديني، ونبذ طرائق الأدب التقليدية السائدة في الخطاب الأدبي.
إن إنتاج العواد العريض ومواقفه الحياتية، إذ تؤكد أنه مثقف قد أوتي النَجْدين؛ نَجْد الثقافة العربية والإسلامية المتمثل في هضمه للتراث الديني والحضاري الإسلامي وبراعته الأدبية والبلاغية العربية، ناهيك عن حضور تجربته في عزّ النزعات الوطنية والقومية، والتحمّس للوحدة الإسلامية، بعيد الثورة العربية، ونَجْد الثقافة العصرية والكونية، التي اكتسبها من اطلاعه الواسع على أفكار عرب المشرق والمهجر ورموز الثقافة والفكر في الغرب، والتصاقه بالشخصية المحورية في نهضة الحجاز الفكرية التاجر قاسم زينل علي رضا، صاحب الثقافة الكونية والآراء المدنية المتحضرة التي جلبها من احتكاكه بالبيئة الحضرية في الهند. ما جعل العواد متزناً في دعواته إلى التحديث، وقناعاته بضرورة مجاراة روح العصر، فلا أبلغ ما يلخص موقفه إلا قوله: “يجب أن نكون- نحن ناشئة البلاد- متحررين. متحررين في ألسننا، في أقلامنا، في تفكيرنا، في دفاعنا. ولكن لا نتفرنج، ولا نشُطّ، ولا نزدري بكل قديم”.
إن العوامل التي أفرزت بيان العواد التحديثي، تمثلت في عاملين أساسين؛ الانفتاح الثقافي النوعي، والأمن والاستقرار السياسي.
فالانفتاح الثقافي الذي تزامن مع نهضة الحجاز بعيد الثورة العربية التي انطلقت من مكة عام 1916م، مكّن “النابتة التي نشأت في الحجاز على صيحات الثورة العربية الكبرى (لتكون) أسرع من غيرها في التأثر بروح التجديد. فقد أتيح لها أن تتصل بأدب المهجر وتنفعل به، وتحتذي حذوه في طرائق التصوير والتعبير جميعا” – كما ينتهي الناقد عبدالله عبد الجبار في كتابه (التيارات الحديثة). حتى إن الكاتب العربي محب الدين الخطيب، أشار إلى أن موجة التجديد في الحجاز قد جاءت من الشارع الخامس في نيويورك، إشارة إلى تأثر النابتة الحجازية المثقفة، بطرق النثر الفني، والشعر الحداثي، التي ابتكرها أدباء المهجر؛ جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة، وميخائيل نعيمة، وغيرهم.
أما دور عامل الاستقرار السياسي، فليس من نافل القول أن بيان العواد تلا إصداره مشروع الوحدة بين الحجاز ونجد، واستتباب الأمن فيهما، على يد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود. إذ يؤكد الشاعر الغزاوي أن العواد كان قد “احتفظ (ببياناته) في الأدراج ووراء المكاتب، حتى أشرقت مع أوائل العهد السعودي، حيث انطلق ما كان مقيدا، وأثمر ما كان مغروسا، ونما وآتى أكله ضعفين”.
لقد عانى العواد كثيرا في سبيل نشر الكلمة، وتقديم الرأي، والمنافحة عن التجديد والتحديث، وعن طموح ترقي أمته ونهوضها إلى المعالي، حيث اصطدم في حياته مع سدنة الفكر التقليدي العتيق. وحين فُصل العواد من عمله في السلك التعليمي في مدرسة الفلاح بجدة، بعد نشره لكتابه الخواطر، أعلن مديرها حسين مطر أمام الطلاب “أن محمد حسن عواد كان تاجاً على رأس هذه المدرسة، ولكنه بعد أن أصدر كتابه فقد مكانته فيها”. ولم تكن براءة مطر تلك، إلا استهلالة لما تكبده العواد بعد ذلك من معاناة فكرية وإنسانية مؤلمة، تواصلت إلى حين مماته، تغيّر فيها شخوص الأطراف المعترضة، وبقي العوّاد نفسه ثابتاً في رصانة واعتزاز والتزام وطول نَفَس.
إن تكريم العواد يكون في غرس تجربته العريضة في الذاكرة الوطنية والشعبية، كي تحضر تفاصيلها في الأذهان دوماً، وكي تستلهم منها الأجيال القادمة أسباب الريادة والاستقلالية الفكرية والانسلاخ عن التبعية والقطع المعرفي والبذل الاجتماعي والفكري، وتدرك معها قيم التزام المثقف، والصدق في النقد، والرهافة الإنسانية، والنضال من أجل التغيير، والإيثار: إيثار نهضة المجتمع والبيئة المحيطة مقابل السلامة الشخصية والوجاهة الاجتماعية. إن الواجب علينا تدريس العواد وغيره من الرواد للناشئة كعوامل وأسباب إنتاج وقيم مُنتَجَة، لا في مجرد سرد لنصوص باردة كما يأتي في سياق مناهج الأدب المدرسية.
ولعلي أضيف، أن من صور تكريمنا للعواد الإسهام في نشر إنتاجه الفكري والأدبي، وجعله متاحاً للجميع، لا يشقى ويرهق في البحث عن مؤلفاته المثقفون قبل الأفراد العاديين. فكم من فرد بحث عن نسخة لخواطر مصرحة ولكن بلا جدوى.
mahmoud_sabbagh@hotmail.com
*عن الوطن السعودية