يمكن القول أن أكبر التحديات التي تواجهها الحكومة الباكستانية المنبثقة عن انتخابات الثامن عشر من فبراير الماضي التشريعية بقيادة رئيس الوزراء المعين مخدوم سيد يوسف رضا جيلاني هو إصلاح الأوضاع الاقتصادية، ولا سيما الارتقاء بالأحوال المعيشية للسواد الأعظم من السكان والتي تدهورت إلى حد لا مثيل له في آسيا، وإيجاد حلول سريعة لأزمة الطاقة وللعجز المزمن في الموازنة العامة.
وإذا ما تم تجاهل هذه المسائل الخطيرة من قبل الحكومة المرتقب تشكيلها قريبا والتي ستكون حتما مكونة من ائتلاف عدد من الأحزاب السياسية بسبب عدم حصول أية قوة سياسية على الأغلبية المطلقة في انتخابات فبراير 2008 ، وانصرفت الأحزاب المشاركة في الحكومة عوضا عن ذلك إلى المماحكات السياسية التي اشتهرت بها الساحة الباكستانية، فإنها حتما ستفقد مصداقيتها وجماهيريتها، ولن تكون أفضل حالا من سلفها التي حجب الشعب عن رموزها التصويت وأذاقها الهزيمة.
وكما ذكرنا في المقدمة، فانه يأتي على رأس الأمور التي تتطلب علاجا سريعا، مسألة العجز في الموازنة العامة، وهو عجز رهيب يحد كثيرا من قدرة الأجهزة الحكومية على ملامسة بقية المشاكل الاقتصادية والمعيشية مثل مشكلة توفير الطاقة، أو حتى الحد من تفاقمها.
وطبقا لتقرير صادر عن المصرف المركزي الباكستاني، فان عجز الموازنة ارتفع في الأشهر الست الأولى من السنة المالية الجارية بنسبة 31.1 بالمئة ( أو من 1.46 بليون دولار إلى 6.14 بلايين دولار)، علما بأن هذا العجز لم يتعد في الفترة نفسها من السنة المالية السابقة الرقم 4.7 بليون دولار. وإذا ما استمرت الحالة في التدهور بالنسبة المشار إليها، فان المتوقع – بحسب المراقبين والمحللين الاقتصاديين – أن يتخطى العجز الرقم 12 بليون دولار، وبالتالي تنهار قدرة البلاد على سداد فواتير وارداتها من البضائع والخدمات، لا سيما وأن الميزان التجاري الباكستاني يشكو عجزا واضحا، بدليل تراجع صادرات البلاد من الخدمات التي يساهم قطاع النقل فيها بنسبة 50 بالمئة خلال الفترة من يوليو إلى نوفمبر 2007 إلى 1.09 بليون دولار، مقابل 3.93 بلايين دولار من واردات البلاد من الخدمات.
أحد أسباب العجوزات في الموازنة الباكستانية العامة، هو انخفاض تدفق الاستثمارات الاجنبية إلى أرقام أدنى بكثير مما كان متوقعا للسنة المالية 2007-2008 ، وهو خمس بلايين دولار، ومعه انخفاض تدفق تحويلات الباكستانيين العاملين في الخارج- أي عكس الحالة الهندية تماما – فمثلا انخفضت هذه الاستثمارات بنسبة 32 بالمئة في الأشهر الست الأولى من السنة المالية الجارية التي ستنتهي في يونيو 2008، فوصلت إلى 2.17 بليون دولار، بعد أن كان الرقم في الفترة نفسها من السنة المالية السابقة هو 3.18 بلايين دولار.
وفي نظر الكثيرين تعتبر حكومة رئيس الوزراء شوكت عزيز الذي قيل الكثير عن مؤهلاته وخبراته العملية ووظائفه السابقة في المحافل المالية العالمية، يوم أن اختاره الرئيس الجنرال برويز مشرف رئيسا للحكومة، بل تطلعت الجماهير إلى حدوث حلول سحرية على يديه لمشاكلها المعيشية المزمنة، هي المسئولة عن كل ما سبق ذكره لسببين: اولهما أنها بالغت في الاعتماد على مصادر معينة غير مأمونة للعملة الصعبة في تغطية عجوزات الموازنة (مثل تحويلات العاملين الباكستانيين في الخارج، والفوائد المتأتية من الاستثمار في السندات والأسهم الاجنبية). وثانيهما أنها لجأت إلى تمويل العجز التجاري بدلا من وضع استراتيجية لتجسير الهوة ما بين الواردات والصادرات والتي اتسعت بنسبة 5.6 بالمئة في عام 2005 من بعد أن كانت هذه النسبة المئوية عند حدود 2.4 في عام 2000 ، هذا علما بأن الهوة استمرت في الاتساع بسبب عدم تناسب حجم الزيادة في الصادرات مع حجم نمو الواردات. وفي هذا السياق ، يستبعد مراقبون كثر أن تنجح باكستان على المدى القصير في علاج الخلل في ميزانها التجاري، لعدة أسباب أهمها التحديات التي تمثلها أزمة الطاقة، والتي بدورها تحد من إمكانيات المصانع الباكستانية على الإنتاج والتصدير، وفي الوقت نفسه تساهم في رفع قيمة فواتير الاستيراد. لكن هذا ليس سوى مظهر واحد من مظاهر صعوبة معالجة اختلال الميزان التجاري. فهناك فواتير القمح والشعير المستورد والذي تشهد اسعارهما ارتفاعا واضحا في الوقت الذي تزداد فيه حاجة البلاد إلى استيراد كميات اكبر منهما لسد النقص في الناتج المحلي باعتبارهما عماد الغذاء اليومي للمواطنين. والمعروف أن أسعار القمح العالمية تضاعفت منذ مايو/ أيار الماضي، فيما ارتفعت أسعار الشعير بنسبة 20 بالمئة منذ نوفمبر المنصرم.
والجدير بالذكر أن باكستان كانت قد وضعت لنفسها هدفا للعام المالي 2007-2008 هو إيصال صادراتها إلى الرقم 19.2 بليون دولار، غير أن أزمة الطاقة معطوفة على حالة اللااستقرار والفوضى، القيا بظلال من الشك على إمكانية الاقتراب من هذا الهدف. أما الواردات من الخارج التي كان مأمولا تخفيض حجمها وفق سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي، فقد حدث لها العكس تماما، ولاسيما الواردات من الطعام على نحو ما سبق ذكره، بل ينتظر أن تستمر هذه الواردات في الارتفاع. وبحسب الأرقام الرسمية المعلنة فان إجمالي قيمة ما صدرته باكستان في النصف الأول من السنة المالية الجارية (أي من يوليو إلى ديسمبر 2007 ) بلغ 8.72 بلايين دولار، فيما كان إجمالي قيمة وارداتها في الفترة نفسها هو 16.95 بليون دولار، الأمر الذي يشير إلى عجز تجاري واضح بقيمة 8.24 بلايين دولار، مقارنة بنحو 6.49 بلايين دولار في الفترة نفسها من السنة المالية السابقة.
أما ما ساهم في مضاعفة هذا الاختلال، فقد كان ضعف انجذاب الشركاء التجاريين التقليديين للصادرات الباكستانية، وهبوط قيمة الروبية الباكستانية أمام الدولار الأمريكي ، إضافة إلى ضعف أداء مصانع النسيج الباكستانية والتي تساهم تقليديا في صادرات البلاد إلى الخارج بنسبة تزيد عن 65 بالمئة، ناهيك عن معدلات التضخم، ولاسيما في أسعار السلع الاستهلاكية التي واصلت ارتفاعها حتى بلغت نحو 12 بالمائة مقارنة بأسعار العام الماضي، وذلك طبقا لأرقام الجهاز الفيدرالي للإحصاء.
هذا الوضع الاقتصادي الكارثي في باكستان كان محل اهتمام مؤسسات مالية دولية مثل البنك الدولي الذي أشار في آخر تقرير له إلى أن أوضاع الموازنة العامة ساءت في عدد من الدول خلال عام 2007 ، وان المشهد الأسوأ كان في باكستان التي وصل العجز فيها إلى 5 بالمئة من إجمالي ناتجها المحلي. أما صندوق النقد الدولي، فقد توقع استمرار مثل هذه العجوزات في عدد من دول العالم النامي، لاسيما في ظل الارتفاعات المتواصلة في سعر النفط.
من جانب آخر، قدرت مؤسسة ” ميريل لينتش” المالية أن أية زيادة في أسعار النفط بنسبة 10 بالمئة، يعني إضافة 700 مليون دولار إلى فواتير استيراد هذه السلعة، وبالتالي ارتفاع عجوزات الموازنة بنفس المقدار.
وهكذا، بناء على ما سبق، لن يكون مستغربا إطلاقا أن تكون الخطوة الأولى لرئيس الوزراء الجديد فور أدائه اليمين الدستورية، هي القيام بجولة في منطقة الخليج بدءا بالدولة الكبرى (المملكة العربية السعودية)، هدفها الظاهري هو زيارة الكعبة المشرفة للشكر والحمد – على نحو ما دأب عليه كافة قادة باكستان فور وصولهم إلى السلطة-، بينما هدفها الحقيقي هو استجداء المساعدات والمعونات المالية والنفطية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh