العنف بتعريفه “المينيمالي” هو فعل غايته احداث ضرر على الشخص الممارس عليه هذا الفعل، بغض النظر عن الدوافع الكامنة اذا كانت متأتية من فعل او ردة فعل. اللازم التعويضي لهذ الفعل هو الدفاع عن النفس سواء الفردي او الجماعي. هذا وقد اصبح الدفاع عن النفس جزءا من القوانين الوضعية سواء المحلّية منها او الدولية. فعلى سبيل المثال يقرّ البند 51 من ميثاق الامم المتحدة بأن الدفاع عن النفس هو حق “فطري” في حال حدوث اعتداء على الدولة. الى هذا الحد تعتبر الامور طبيعية ولا جدال عليها، الا ان الاشكالية، و هي في محل رد و رد مضاد، تكمن في نظرية الدفاع عن النفس الإستباقي. طبعاً الكلام هنا على المستوي الدولي لا على مستوى الافراد المنتظمون بالقوانين المحلّية. محبّو السلام يصطفون ضد هذه النظرية سهلة التبرير من قبل المعتدي ومؤدّاها الفوضى، اما محبّو العدل المطلق، اذا جاز التعبير، فحجّتهم منع الضرر قبل حصوله لان الاعتداء في حال وقوعه يلغي مبرر وجود هذه النظرية اذ نعود ونصبح في الحالة “الفطرية” سابقة الذكر. بأي حال هذا الجدل ما زال قائماً و له مجالاته التخصّصية ولا ندّعي الانتماء اليها.
على المستوى الفردي، يقول علم النفس ان تراكم الكبت قد يؤدي بالشخص الى نوع من العصاب او قد ينفجر هذا الكبت، الناتج عن الضغط المتزايد، مولّداً حالة سلوكية عنفيه خطيرة، لذا فإن الطريقة الفضلة لتجنب الكبت هي التعويض العنفي اللحظي. هذا الشيء قد ينطبق على المجتمعات الى حد ما لكنه يختلف من مجتمع الى آخر بحسب التركيب الثقافي، الديني، الاثني و اللغوي للعناصر المشكّلة لهذا او ذاك المجتمع. وهو يختلف ايضاً ما بين المجتمعات “المتجانسة” و المجتمعات التعدّدية. ففي الحالة الاولى، اذا كان القمع و الحرمان “مطلقين” يصبح الصراع حادا والانقسام (cleavages) افقيا، وهذا ما يؤدي الى الثورة، وهذا ما خبرناه في القرنين الماضيين. اما في المجتمعات المتعددة فالانقسام يكون افقيا وعاموديا لان الاصطفاف “الثقافي” يشكّل نوعاً ما حاجزاً يمنع الى حد ما التداخل ما بين المجموعات. هذا النوع من المجتمعات يؤطر العنف داخل مجتمعاته الصغيرة التي بدورها، في حال كانت منقسمة، تصرّف عنفها في الداخل كي تفوز بالهيمنة على كامل المجموعة. اما في ظل وجود نزاعات ما بين المجموعات التي تشكّل المجتمع ككل فالعنف الفائض يجد تصريفه على المجموعات الاخرى. فالطائفة الشيعية لدينا تمثل هذا النوع من القوّة الفائضة. اما المسيحيون فهم اشبه بالحالة الاولى او قل بان “الجنرال” ينحو نحو الفناء للطائفة ككل، لا بل انه يؤدي الدور الممسرح للهيمنة بما تمثّله من “قتال حتى آخر مسيحي”. ما يهمنا من هذه المسائل هو ان الكبت يجب تصريفه، وكذلك الامر بالنسبة للعنف. فهناك علاقة جدلية ما بينهما عمرها من عمر الانسان. جدلية بمعنى ان الاولى تبرر الثانية والعكس صحيح. ربما استطاعت الدولة الحديثة الحد من نزوع هذه العلاقة نحو التطرف الا انها لم تلغِ اياً منهما. فاذا اخذنا الدولة الحديثة بالمفهوم الفبرياني (نسبةً الى ماكس فبر) نستنتج بأن هذه الاخيرة ما هي الا “كيان سياسي له الحق باستعمال العنف الشرعي”، أي ان العنف يبقى و لكنه يصبح ممأسسا. الدولة، استطيع القول، تنظّم الحياة العامة بإدخالها تلك العلاقة الى المؤسّسات منظمةً اياها و جاعلةً منها الاسس الناظمة للعلاقة ما بين الفرد والمجتمع و الدولة. بمعنى آخر نستطيع القول بأن الدولة تعقلن العنف داخل المجتمع بتصريفه ضمن الأطر القانونية عن طريق “القمع النسبي”؛ نسمّيه القانون.
فإذا كان القمع هو لازمة ضرورية للحد من الظواهر العنفية فإن العنف، هو ايضاً، غالباً ما يتأتى نتيجةً للقمع. اما القمع المتطرف الموجود في نظم الاستبداد فهو بقانونيته الوضعية المفروضة مخالف للقانون الوضعي-الطبيعي. فالحرية هي حق طبيعي الا انها بقوننتها اصبحت حقا وضعيا وبالتالي حُددت ممارستها ضمن القوانين المرعية. فقمع الحريات العامة كحرية المعتقد و التفكير والسلامة الجسدية والاخلاقية هو ضد القوانين والاعراف العالمية (diritti universali)، الا ان الدولة السيّدة تستطيع دائماً ان تخل بهذه القوانين كي تفرض سيادتها لكن المجتمع لديه آلياته “السحرية” للحد من تسلط السيادة.
على سبيل الاطلاق يذهب البعض الى القول بان السيادة تُطبق حتى عن طريق ارتكاب المجزرة (genocidio) المحرّمة دولياً؟! طبعاً هذا الرأي نسبي أي انه خاضع “للجسم الاجتماعي المسيطر” في المجتمع الدولي. فدولة مثل اميركا قد تستطيع فعل ذلك دون ان تتلقى أي عقاب دولي اما الدول الصغيرة و غير المؤثرة او غير الوازنة لا تستطيع فعل ذلك دون تلقّي العقاب اللازم. هذه الامور قد تكون بديهية بالنسبة لدارسي العلاقات الدولية، الا ان كثراً يبدون الاستغراب لذا ينعتون المجتمع الدولي بالفوضوي (anarchico). على المستوى السياسي نستطيع قول ذلك، اما على المستوى الحقوقي فأن اصحاب “الواقعية الحقوقية” يرفضون هذا القول اذ ان المجتمع الدولي لديهم هو لا عضوي (anorganico) بمعنى انه لا يشبه قانون الاعضاء المشكِلين للمجتمع الدولي. لذا فإن نظرية “بودان”، رغم حربيتها، عن السلطان او “السيد” بانه لا يخضع لاحد الا فقط لسيفه الخاص قد تنطبق على سيادة الدول غير المنتقصة سيادتهم.
قد يتأخر رد المجتمع على القمع المتطرف لفترات طويلة بحسب الظروف الموضوعية، الا ان الرد يأتي متطرف و عنفي ايضاً. فالأمثلة التاريخية كثيرة و ما تحطيم اصنام صدّام حسين و دهس صوره الا المثال الساطع على ذلك، فما فعلَهُ بالأكراد و الشيعة لم يكن بالقليل. فمصر، تونس و ليبيا لا يشذّوا عن هذه القاعدة، و المشهد السوري الحالي يمثل مشهدية واضحة للعلاقة ما بين القمع و العنف. فعندما ثار الإخوان المسلمون في مطلع الثمانينات، سحقوا من قبل الأسد الاب في مدينة حماه، و يضاف الى ذلك قمع المعارضة السورية لا بل سحقها قبل تشكلها، لذ فإن ما نشاهده اليوم من حرق لمراكز البعث و لصور القائد، الاب و الابن، ما هو الا رغبة دائمة و دفينة للانتقام. انها مشهدية “متخيلة” لما تصوره “هوبز” عن الانسان في حالته الطبيعية و حرّيته الفطرية في امتلاك كل شيء، و ما التعدّي على املاك الدولة البعثية ، و في بعض الاحيان تعدّاها الى شمول الاملاك العامة و الخاصة، الا التصوير الواقعي لاستعادة الحرية المسلوبة. فعلى سبيل المزاح، القليل من التكسير يحيي فطرية الانسان.
فاذا كان الانسان الهوبزياني في حالته الطبيعية لم يكن الا تصوّر او تخيل للوا، , فإن ما رأيناه، في الفترات السابقة، من تعدي على الاملاك العامة وفي بعض الحالات على المشاعات، على ما قيل، وتكسير لمحطات الكهرباء، على ما شهدناه، ثم مطالبة الدولة ولومها على عدم وجود الطاقة، لا يجسّد الا تلك النزعات ” الهوبيزية”. لذا فقد اقترح علينا كائنه آتياً به من المآثر التوراتية كي يكون صاحب العنف و محتكره باسطاً سيادته التي ستكون كفيلة بوضع حد للشرور.
اما العنف الثوري فهو العنف الصحيح بحسب ماركس و اقرانه، وهو مبرر لأنه عنف مضاد للطرف الآخر للمجتمع، او بمعنى آخر هو عنف بروليتاري مقابل لقرينه البرجوازي. فالعنف الثوري المسلّح، تراتبياً، يحتل اعلى درجات الشرف على ما درجت عليه الفرق المتطرفة ثورياً، وقد كان القرن المنصرم خير دليل، و المثل الماثل، على وجودهم. اما المثال البعثي و الناصري، رغم اختلافه، فقد كان الوجه المأساوي للعنف الذي نحن بصدده. وها هو انغلز يقول لنا، و لمن هم مثلنا، بأن دكتاتورية البروليتاريا ليست دكتاتورية بل هي الضرورة المرحلية لمواجهة مثيلتها البرجوازية! و قد دأبنا على الترديد خلفه، عن الدكتاتورية المبررة، بأنها هي هي الديمقراطية الحقيقية لان الطبقة العاملة مؤداها وهدفها النهائي الغاء الدكتاتورية وبالتالي هذه الاخيرة تصبح لدينا مؤقته، اما غيرنا فهو المؤبّد (بكسر الباء) لها. فاذا كان هذا النوع من العنف هو تصريف “للعنف المضاد”، فقد دأبنا على الاعتقاد بأن الجمهورية البديلة، و المثالية ايضاً، ستصبح خالية من العنف اذ لن يبقَ من مبرر لوجوده. وباستلام المستغََلين (بفتح الغين) السلطة يتهيأ المجتمع للنحو نحو الغاء المجتمع الطبقي، على ما هُيأ لنا و هُيأ لماركس. هكذا يتفتح العصر للديمقراطية الاشتراكية و يبتدئ زمن العلاقات الاجتماعية المتناسبة و المتناسقة مع العلاقات الانتاجية فتختفي الملكية الخاصة والدولة التي لا يبقى من مبرر لوجودها وندخل الى العصر الذهبي، فأما الايديولوجيا فإلى مزبلة التاريخ…!
اما النقيض للعنف، كما يتبدى للبعض، فهو اللاعنف الغاندي، اما حقيقة الامر فهي غير ذلك. فهذا النوع من اللاعنف هو عنف لا عنفي او بمعنى آخر هو تصريف للعنف على المستوى الداخلي للفرد. ولست موافقاً للرأي القائل بان “الماهاتما” كان يستخدم اللاعنف كتكتيك سياسي. على العكس، فإن اللاعنف، عدا عن كونه اسلوب حياة، هو ايضاً جزء او اصل من الاصول الخمسة للانضمام الى “الاشرم” او ما يسمى بالكمونه الغاندية. وقد اخذ عاندي هذه الاصول من الديانة “الجينية” التي لم تكن ديانته. وقد دأب، بعد كل مظاهرة تنتهي بشغب وعنف، الى ترديد مقولته الشهيرة “لقد ارتكبتُ خطأ بحجم الهملايا”. اعتقد بان الموروث الهندوسي لغاندي قد جعله يصرّف العنف الخارجي والداخلي بنوع من قهر للذات و في بعض الاحيان على زوجته، بحسب ما ذكره في مذكّراته.
خلاصة الامر هو ان العنف يشكل جزءاً مهماً في العلاقات الاجتماعية. اما التصور القائم على عدم وجوب وجوده فما هو الا البعد الاسكاتولوجي عند الانسان، وهو بأهميته، ليس الا النزعة اليوتيوبية لإيجاد المجتمع البديل. انها فقط الرغبة الآخراوية عند الانسان او هي البعد التصالحي مع السلام كرغبة، وقد نحت الفلسفات والديانات نحو “الخلاصية” كي تجد منفذاً للإنسان او مهربا من بعده العنفي. حقيقة الامر ان وحدها الواقعية ببعدها الليبرالي قد وضعت حداً للعنف ببعده الفطري-الغريزي. والحال، فقد اضحى العنف عنفا متبادلا غير ممارس، او قل لكونه متبادلا لا يجد امكانية لتأطيره وجعله فعلا ممارساً. هذه التبادلية تلغي العنف كفعل ولا تلغي وجوده بالقوة، او تلغي امكانية ظهوره ببعده الفطري ولا تلغي وجوده كفعل ممأسس او بمعنى آخر خاضع لآليات وموجبات الدولة الحديثة. فالتلقي والاستجابة في المجتمع، ببعديهما القمعي والعنفي، تصبحان محدّدتين بموجب العقد الاجتماعي الذي يحدّد آلية فعل ممارستهما من حيث كونه قائماً على التخلّي المتبادل عن “الحالة الطبيعية” ببعدها القهري ومؤداها الفنائي.
walidhlb@hotmail.com
• كاتب لبناني