فصل من كتاب “هرطقات 2”
ولعل أوفى تلخيص لكل هذه المطاعن النيو-وهابية على الشيعة والمذهب الشيعي هو ذاك الذي يقدمه شريف الراجحي في مقدمة كتابه: كلمات وأشعار في ذم الرافضة الكفّار الفجّار. ونحن نثبته بتمامه لأنه، فضلاً عن كونه بيان اتهام شامل، يقدم نموذجاً ناجزاً لما نسميه ثقافة الفتنة ولاهوت أبلسة الآخر:
“إن الأمة الإسلامية تواجه اليوم أخطاراً كثيرة وفتناً عظيمة، وإن المسلمين في هذا الزمان محاطون بأعداء كثر وبأساليب إيذاء وإبعاد عن الدين غاية في الدهاء والمكر…
“وإن من الفتن والأخطار التي أصبنا بها، وتغافلنا عنها، وغضضنا الطرف عن شرورها وقبائحها، فتنة وخطر الشيعة الرافضة، الذين بدت البغضاء من أفواههم وكتبهم وأشرطتهم ونشراتهم، وما تخفي صدورهم أكبر، الذين يشهد التاريخ قديماً وحديثاً بفسادهم وإفسادهم وكفرهم ونفاقهم، الذين ما سنحت لهم فرصة إلا وكانت أسلحتهم موجهة إلى أجساد أهل السنة، يستحلون قتلهم، بل ودينهم يحثهم على ذلك ويرصد لهم الأجور العظيمة، وينتهكون أعراضهم، ويرون أموالهم وأملاكهم غنيمة لهم، والأمثلة على هذا كثيرة، لو استنطقت التاريخ لنطق بها والبكاء ملء عينيه، منها ما جرى للخلافة العباسية في بغداد، وما جرى في زماننا في إيران ولبنان وأفغان، وغيرها وغيرها، مما تشيب لهوله الولدان، وتصعق لسماعه الأبدان، فتيات تسبى ويدنس عرضها، ورجال تقتل ويمزق لحمها، وأطفال تذبح ولم ينمُ فؤادها، والذنب كله أنهم من أهل السنة.
“إن الرافضة –قبحهم الله- أعداء للإسلام والمسلمين، وأتباع للشياطين، وعملاء لكل عدو للدين، يتظاهرون بالإسلام وهم كافرون، وأنهم يدافعون عنه، وهم له يهدمون، ويتنادون ويتباكون على الوحدة الوطنية، وهل مزقها إلا هم!! إذا كانوا مزقوا الوحدة الإسلامية، وآذوا رسول رب البرية –عليه صلوات الله وسلامه- وكفروا الصحابة –رضي الله عنهم- وكفروا بعض أمهات المسلمين –رضي الله عنهن أجمعين- وفعلوا من القبائح والفضائح ما أزكم الأنوف نتنه، وقتلوا الحجيج في مكة المكرمة، واقتلعوا الحجر الأسود، إلى غير ذلك من المخازي والسوء –قديماً وحديثاً- فهل بعد ذلك نصدق أقوالهم، وننسى ونتناسى أفعالهم!!
“إن الرافضة –لعنهم الله- قد انتشروا في كثير من المؤسسات –الحكومية والأهلية- فدخلوا التعليم، فمنهم المدير والمديرة، والمدرس والمدرسة، والكاتب والكاتبة، ودخلوا الجيش، فتجدهم في البحرية والدفاع والحرس الوطني، ودخلوا الصحافة، ودخلوا التمثيل، ووظفوا في الدوائر الحكومية المدنية كالأحوال المدنية، ووزارة الصحة، وغيرها، وفتحت لهم الجامعات أبوابها، وأما التجارة فهم من أسيادها. وكل هذا التمكين لهم لا يزيدهم إلا حقداً وبغضاً لأهل السنة حكاماً ومحكومين.
“إن الرافضة –خذلهم الله- كالسرطان الذي يسري في الجسد، فإن كافحته في البداية فقد يمكنك القضاء عليه، وتفادي آثاره، وإن تركته وشأنه فإنه في النهاية سيقضي عليك، وإن قدَّر أنه لم يتعجل في ذلك، فإنه سيسلبك صحتك وراحتك، وهناءك ونعمتك، وأمنك وقوتك، ولكنه في النهاية وبعد أن يتلذذ بتعذيبك واللعب بك، سيهلكك غير متأسف عليك!”.
ولنختم هنا -قبل أن ننتقل إلى الحرب الكلامية على الجبهة الشيعية المقابلة- ببيان أن هذا الملف الذي قدمناه عن الحرب المشنونة على جبهة من يعتبرون أنفسهم ناطقين بلسان أهل السنة لم نستقرئ عناصره ولم نستخرجها من كتب مطبوعة، بل من نصوص مرقونة على شبكة الإنترنت. وذلك أصلاً سيكون حال الملف الشيعي. والأمر جدير بأن نتوقف عنده، ولو لهنيهة. ذلك أن المقادير الجيولوجية شاءت أن يكون معقلا الإسلام الوهابي والإسلام الخميني غنيين غنى فاحشاً بحقول النفط. وهذا الغنى ترجم عن نفسه، في جملة ما ترجم، بقدرة لا تضاهى على السبق إلى توظيف التكنولوجيا الأنترنتية في خدمة السياسات الإيديولوجية لكل معقل من المعقلين. وعلى هذا فإن المئات من المواقع، الموصوفة بأنها إسلامية والمموَّلة من كلا الجانبين، قد بكّرت بالظهور على الشبكة واحتلت مساحات افتراضية شاسعة وعبأتها بآلاف وآلاف من الكتب والمقالات والفتاوى والملفات الهجومية أو الدفاعية التي تخدم الهدف، الثقافي في الظاهر والطائفي في الواقع، الذي من اجله أنشئت تلك المواقع وأُنفق عليها ما أُنفق من أموال طائلة. والحال أن محرري هذه المواقع، الناسبة نفسها إلى أهل السنة أو أهل الشيعة، يخوضون من كلا الجانبين حرب خنادق أو حرب شوارع إلكترونية حقيقية. وعلى هذا النحو فإن ثقافة الفتنة لم تعد محصورة برفوف المكتبات ومتون الكتب وفقهاء النصوص وقرائها، بل صارت في متناول الجميع ضد الجميع في عالم مفتوح إلكترونياً ومغلق عقائدياً ومذهبياً. وعلى هذا النحو أيضاً نستطيع أن نقول إنه بالإضافة إلى الحرب الأهلية العراقية التي بات في مستطاع كل مشاهد تلفزيوني أن يتتبع مجراها اليومي، ثمة حرب “عراقية” أخرى، ومن طبيعة وشراسة مماثلتين، تدور على الشبكة، ولكن بمفعول فوري هذه المرة، وحسب الطلب والهوى. إذ يكفي أن تُضرب كلمة “رافضي” أو “ناصبي” على محركات البحث الإلكترونية حتى تنهال على طالبها، حسب هواه الطائفي، آلاف الأقوال والأهاجي المتبادلة، من كلا الجانبين، كطلقات الرصاص التي كل هدفها أن تصيب من العقل مقتلاً.
ب – الحرب على الجبهة الشيعية
هذا كله من جهة أهل السنة. أما من جهة أهل الشيعة فتطالعنا حرب لا تقل ضراوة تتمثل في أقوال وأحكام تبدأ بغير ما تدرّج بالتحقير والتنجيس وتنتهي بالتكفير واستباحة الدم والمال والحرمة. وبخلاف ما كنا التزمنا به، في عرضنا لحرب أهل السنة، من نهج التسلسل التاريخي، فسنستعرض الحرب القولية لأهل الشيعة، لا حسب التتابع الزمني، بل حسب العناوين التي تندرج تحتها فصولها. ذلك أنه من الكليني في القرن الرابع الهجري إلى الخميني في القرن العشرين الميلادي تتسم الأقوال الحربية لأهل الشيعة بتكرارية لا تتغير فيها سوى التفاصيل وجزئيات التأويل.
فمنذ الكليني، طبري الشيعة، تحدد النصاب الشرعي لـ”النواصب”، أي أهل السنة: النجاسة. فقد روى في الكافي على لسان الإمام السادس أبي عبد الله جعفر الصادق أنه سئل عن الاغتسال بغسالة الحمام فقال: “لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام، فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب وهو شرهما، إن الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب، وإن الناصب أهون على الله من الكلب”.
وعلى لسان الإمام السابع موسى الكاظم سيرد الحكم نفسه، ولكن بلفظ مغاير بعض الشيء. فقد أورد المجلسي في بحار الأنوار أن “أبا الحسن عليه السلام قال: لا تغتسل في البئر التي تجتمع فيها ماء الحمام، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجُنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم”.
وروى الحر العاملي في الفصول المهمة في أصول الأئمة أن جعفر الصادق قال: “إن نوحاً حمل في السفينة الكلب والخنزير ولم يحمل ولد الزنا، وإن الناصب لنا شر من ولد الزنا”.
وعلى وتر هذا الحكم سيعزف كبار فقهاء الشيعة، ودوماً بالإحالة إلى الأئمة. فالعلامة الحلي سيقول في تحرير الأحكام: “الكافر نجس، وهو كل من جحد ما يُعلم ثبوته في الدين ضرورة، أسواء كانوا حربيين أو أهل كتاب أو مرتدين، وكذا النواصب والغلاة والخوارج”. وسيقطع محمد أمين زين الدين في كتابه كلمة التقوى أن “الخارجي والناصبي نجسان”. وسيجزم المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: “لا خلاف في كفر الناصب ونجاسته وحلّ ماله ودمه وأن حكمه حكم الكافر”. وسيؤكد محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة أنه “لا كلام لأحد في نجاسة الناصب” إذ هي “غير خلافية”. وسيصف نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية الناصب بـ”أنه نجس، وأنه أشر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم”. وسيكرر السيد الخوئي في مصباح النقاهة: “الناصب لنا أهل البيت شر من اليهود والنصارى وأهون من الكلب، وإنه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهلَ البيت لأنجس منه”. ولن يتردد آية الله الخميني في كتابه تحرير الوسيلة في أن يفتي: “أما النواصب والخوارج لعنهم الله فهما نجسان بلا توقف”. كما سيؤكد الإمام الخوئي: “لا شبهة في نجاسة النواصب وكفرهم”. وهذا ما سيخلص إليه أيضاً آية الله السيستاني في التعليقة على العروة الوثقى: “لا إشكال في نجاسة النواصب”.
أما قطب الدين البيهقي فسيعود في صباح الشيعة بمصباح الشريعة إلى ربط “النجاسة الناصبية” بـ”النجاسة الكلبية” مؤكداً أن “حكم الذمي والناصب حكم الكلب”. ولكن ابن أبي يعفور كان طعن ضمنياً في صحة هذا الحكم عندما ذكَّر في الموثقة بأن الإمام جعفر الصادق لم يقم علاقة مساواة في الشرّية بين الكلب والناصبي، بل لجأ إلى صيغة أفعل التفضيل: “إن الكلب نجس عيناً، ولما كان الناصب أشرّ منه لزم أن يكون أنجس منه وأولى بالنجاسة”. وإلى مثل هذا الرأي سيذهب في زمن متأخر السيد الخوئي عندما سيؤكد أن نجاسة الناصبي مضاعفة على خلاف نجاسة الكلب التي هي نجاسة من جهة واحدة. وفي ذلك يقول في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى: “ثم إن كون الناصب أنجس من الكلب لعله من جهة أن الناصب نجس من جهتين، وهما جهتا ظاهره وباطنه، كما أنه نجس من حيث باطنه وروحه، وهذا بخلاف الكلب لأن النجاسة فيه من ناحية ظاهره فحسب”.
بيد أن محمد باقر الصدر يذهب إلى أبعد من ذلك ويفرد صفحات عدة من كتابه شرح العروة الوثقى ليقيم تمييزاً مفهومياً بين النجاسة والأنجسية، ولينسب النجاسة إلى الكافر سواء أكان كتابياً أم مشركاً، ولكن ليوقف الأنجسية على الناصبي وحده. فبالإحالة إلى القولة المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق يرى أن المقايسة التسووية “بين الناصب وولد الزنا، أو بينه وبين الكلب” ليست في محلها، أو “مقامها” حسب تعبيره، نظراً إلى صيغة أفعل التفضيل التي استعملها الإمام: “فهو شرهم”. ومن هنا يخلص إلى الاستنتاج في معرض التأسيس النظري لمفهوم الأنجسية: “لقد جاز الحكم بأنجسية الناصب في مقام تعليل تلك الشرّية، أي كون الناصب أشرّ من الكلب، وهذا هو مقتضى أشريته من الكلب”.
وحتى ندرك أهمية الحكم بالنجاسة في الفقه الشيعي ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا أن هذا الفقه، على خلاف الفقه السني المعني أولاً بمفهوم الطهارة، إنما يتمحور حول مفهوم النجاسة. وفي ذلك يقول الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك: “إن الحكم بالنجاسة هو شعار الشيعة يعرفه علماء العامة منهم، بل وعوامهم يعرفون أن هذا مذهب جميع الشيعة، بل نساؤهم وعوامهم يعرفون ذلك. جميع الشيعة يعرفون أن هذا مذهبهم في جميع الأعصار والأمصار”.
إن هذه الأولوية المركزية التي تعطى لمفهوم النجاسة في الفقه الشيعي تجعل منه مفهوماً لاهوتياً يحدد العلاقة بالآخر ويؤسس صنفاً محدداً من هذا الآخر، يطلق عليهم اسم النواصب، في طائفة غيتوية منبوذة ومتحاشاة كما لو أنها مجذومة، على مثال السامريين في الديانة اليهودية القديمة أو طائفة الباريا في الديانة الهندوسية.
ذلك أنه تترتب على الحكم بنجاسة الناصب، أو بتعبير أوفى أنجسيته، مستتبعات وإلزامات شرعية على صعيد الحياة اليومية والعلاقات العامة وأحكام المعاشرة والمؤاكلة والمشاربة والوضوء والتذكية والشهادة والجنازة والنكاح، الخ… فقد روى الحر العاملي في تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة عن جعفر الصادق أنه كان يكره “سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصبي”. وبعبارة مماثلة كان الشيخ الصدوق أفتى في من لا يحضره الفقيه بأنه ” لا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام، وأشد من ذلك سؤر الناصب”. وفي الوقت الذي حرَّم فيه الشيخ الصدوق الوضوء بـ”سؤر الناصب”، أباح الوضوء بسؤر الفارة استناداً إلى قول منسوب إلى الإمام الباقر رداً على سؤال من سأله عن ذلك: “لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربتْ من الإناء الذي تشرب منه أو تتوضأ منه”. وفي منتهى الطلب أفتى العلامة الحلي: “الحيوان على ضربين: آدمي وغيره، فالآدمي إن كان مسلماً أو بحكمه فسؤره طاهر، عدا الناصب والغلاة وغير المسلم، والناصبة والغلاة سؤرهم نجس”. وبعد الحلي بنحو من ثمانية قرون انتهى السيستاني إلى الحكم في التعليقة على العروة الوثقى بأن “أسئار الحيوان كلها طاهرة، عدا الكلب والخنزير والكافر والناصب”. وهو بذلك يستعيد بالحرف الواحد تقريباً ما كان قاله محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة: “إن سؤر جميع البهائم من ذوات الأربع والطيور طاهر سوى الكلب والخنزير والكافر والناصب”.
وحكم يد الناصب في حال المصافحة كحكم سؤره في حال المشاربة. فجميع كتب الفقه الشيعي –ذات الطابع الموسوعي في غالبها- تتناقل ما رواه الكليني في الكافي على لسان خالد القلانسي: “قال: قلت لأبي عبد الله [=جعفر الصادق]: ألقى الذمي فيصافحني، قال: امسحها بالتراب وبالحائط، قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها”. وقد علل ابن حمزة الطوسي في الوسيلة إلى نيل الفضيلة إيجاب الغسل بأن “حكم الناصب كحكم الكافر، لذا يجب غسل الموضع الذي مسه رطباً بالماء، ثوباً كان أو بدناً”. وقد استشهد الإمام الخميني بحديث القلانسي وعلق في كتاب الطهارة قائلاً: “هو في الناصب أشدّ”، إذ قد يكون “المسح في الذمي لإظهار النفرة”، ولكن قد يكون “الغسل في الناصب للنجاسة”. أما محمد باقر الصدر فقد عمّم في شرح العروة الوثقى حكم غسل اليد على سائر أعضاء البدن من قبيل “حمل النجاسة على تمام أجزاء الناصب”.
ويمتد حكم النجاسة بطبيعة الحال، وكما في جميع الديانات التي تؤسس نفسها، أول ما تؤسسها، على طقوس المأكل والمشرب وفقه الحلال والحرام فيهما، إلى الذباحة. وهكذا روى الخوانساري في جامع المدارك عن الإمام الخامس محمد الباقر أنه “ذكر له الناصب فقال: لا تناكحهم ولا تأكل ذبيحتهم ولا تسكن معهم”. وعن ابنه جعفر الصادق أنه قال: “ذبيحة الناصب لا تحلّ”. وفي إرشاد الأذهان أفتى العلامة الحلي: “لا تحلّ ذبيحة الكافر وإن كان ذمياً، ولا الناصب”. وقد استعاد الخميني هذا الحكم في تحرير الوسيلة فقال باختصار: “لا تحلّ ذبيحة الناصب… وإن أظهر الإسلام”. ويطالعنا باب الذباحة في موسوعات الفقه الشيعي بنقاشات مطولة حول ما يحلّ وما يحرّم في هذا الباب يلخصها المجلسي في بحار الأنوار بقوله: “اختلفوا في اشتراط إيمان الذابح زيادة على الإسلام، فذهب الأكثر إلى الاكتفاء بإظهار الشهادتين على وجه يتحقق معه الإسلام، بشرط ألا يعتقد [=الذابح] ما يخرجه عنه كالناصبي”. وذلك ما ذهب إليه أيضاً ابن العلامة في إيضاح الفوائد حيث قال في باب الذباحة: “الذابح يشترط فيه الإسلام أو حكمه… فلو ذبح الكافر لم يحلّ… ولا يحلّ لو ذبحه الناصب”.
وقد اُستتبع بباب الذباحة بابُ الصيد، فأفتى الشهيد الأول شمس الدين العاملي في الدروس الشرعية في فقه الإمامة: “أما الناصب فلا يحل مصيده وإن سمّى”. وذلك ما ذهب إليه أيضاً محمد أمين زين الدين في كلمة التقوى: “لا يحل الصيد إذا كان مرسل الكلب كافراً، سواء كان مشركاً أم كتابياً، وكذلك من هو بحكم الكافر كالغالي والكافر”. وكذلك أفتى الخميني في تحرير الوسيلة: “لو أرسله كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالنواصب لعنهم الله لم يحل أكل ما قتله”.
وإذا كان طعام الناصب وشرابه لا يحل، كذلك لا يحل إطعامه وإشرابه. وفي ذلك يقطع العلامة الحلي في إرشاد الأذهان: “لا يجوز إطعام الكافر ولا الناصب”. وقد نسب المجلسي في بحار الأنوار إلى الإمام الباقر قوله: “من أشبع ناصباً ملأ الله جوفه ناراً يوم القيامة معذباً كان أو مغفوراً له”. كذلك نسب إلى الإمام الصادق أنه قال رداً على سؤال زيد النرسي إياه: “جُعلت فداك ما تقول في السائل يسأل على الباب وعلى الطريق ونحن لا نعرف ما هو؟ فقال: لا تعطه… إلا أن يرق قلبك عليه، فتعطيه الكسرة من الخبز… فأما الناصب فلا يرقّن قلبك عليه، لا تطعمه ولا تسقه وإن مات جوعاً أو عطشاً”.
وما يصدق على المأكل والمشرب يصدق على الإرث والجنازة. فقد أفتى العاملي في الدروس الشرعية: “لا يرث الكافر المسلم… ولا فرق بين الحربي والذمي والخارجي والناصبي”. كما أفتى: “لا يغسل الكافر ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن، وكذا الناصب”. ويدروه أفتى السيد البزدي في العروة الوثقى: “لا يجوز تغسيل الكافر وتكفينه… ودفنه بجميع أقسامه من الكتابي والحربي والمشرك والغالي والناصبي والخارجي والمرتد”. وروى البهائي العاملي في الحبل المتين عن ابن أبي عقيل أنه قال “بوجوب التأخر خلف جنازة الناصبي لما روي عن استقبال ملائكة العذاب له”. وأفتى الخميني أخيراً في تحرير الوسيلة بأنه “لا يجوز تغسيل الكافر ومن حُكم بكفره من المسلمين كالنواصب والخوارج” مثلما لا تجوز صلاة الميت “على الكافر ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج”. كما عمم هذا الحكم على دية القتيل فقال: “جميع فرق المسلمين المحقة والمبطلة متساوية في الدية إلا المحكوم منهم بالكفر كالنواصب والخوارج”.
وقد اُختلف في موضوع شهادة الناصبي. فذهب الخوانساري في جامع المدارك إلى “عدم جواز شهادة الناصب” لأنه “ليس معروفاً بالصلاح” و”محكوم بالكفر”. ولكن فقهاء آخرين من الإماميين، ومنهم الخميني، تفادوا الكلام عن جواز أو عدم جواز شهادة الناصبي نظراً إلى وجود حديث عن الإمام الصادق، وآخر عن الإمام الرضا، مفاده أن “من ولد على فطرة الإسلام وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته”. ولكن المحقق البحراني، مصنف الحدائق الناضرة، يرى أن هذا الحديث لا يمكن التعلل به لإجازة شهادة الناصبي المولود على فطرة الإسلام، أولا لأن الحديثين نفسهما قد خُرِّجا مخرج التقية”، وثانياً لأنه “لما كان الناصب بمقتضى مذهبهم (عليهم السلام) لا خير فيه ولا صلاح بالكلية، وجب إخراجه من المقام”. وعلى أي حال فإن البحراني لا يتردد في أن يقطع بأن “الناصب حكمه حكم الكافر”، والحال أنه لا يجوز “إجراء شيء من أحكام الإسلام” على “الكافرين والناصبين… إلا أن يكون للتقية”.
وربما كان أوسع باب تفرده موسوعات الفقه الشيعي لـ”إخراج الناصب والناصبة من المقام” هو باب النكاح. فليس تخلو موسوعة منها من إيراد حديث مشهور للإمام الصادق كان ساقه الكليني في الكافي على لسان عبد الله بن سنان: “قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الناصب الذي قد عرف نصبه وعداوته هل يزوجه المؤمن وهو قادر على رده؟ قال: لا يتزوج المؤمن الناصبية ولا يتزوج الناصب المؤمنة”. وعن عبد الله بن سنان أيضاً في رواية أخرى له عن الإمام الصادق “قال: سأله أبي وأنا أسمع عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: نكاحهما أحبّ إلي من نكاح الناصبية”. وفي رواية عن أبي بصير أنه قال: “تزوٌّج اليهودية أفضل، أو قال: خير من تزوُّج الناصبي والناصبية”. ويورد مصنف وسائل الشيعة على لسان سليمان الحمّار عن “أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل المسلم منكم أن يتزوج الناصبية ولا يزوج ابنته ناصبياً”. وقد نُسب إليه أيضاً القول: “احذروا الناصبة أن تظائروهم، ولا تناكحوهم ولا توادّوهم”. وعلى لسان الفضيل بن بسار يورد الحر العاملي الجواب التالي للإمام الباقر: “قال: سألت أبا جعفر عن مناكحة الناصب والصلاة خلفه، فقال: لا تناكحه ولا تصلٍّ خلفه”. وعلى لسانه أيضاً أنه سأل الإمام الباقر عن “المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال (ع): لا، لأن الناصب كافر”. وفي جملة ما يورد الحر العاملي أخيراً في باب “تحريم تزويج الناصب بالمؤمنة والناصبة بالمؤمن” حديث منسوب إلى النبي نفسه يقول فيه: “صنفان من أمتي لا نصيب لهم في الإسلام: الناصب لأهل بيتي حرباً وغال في الدين مارق منه”.
وبديهي أن تتراكم، بعد هذه الأحاديث المنسوبة إلى الإمامين الباقر والصادق، أحكام فقهاء الإمامية في تحريم نكاح الناصب والناصبة. ولن نحتاج هنا إلى أن نورد منها –لتكرارها- سوى ما أفتى به الإمام الخميني وهو يعتصر خلاصتها عندما قال في تحرير الوسيلة: “لا يجوز للمؤمنة أن تنكح الناصب المعلِن بعداوة أهل البيت ولا الغالي المعتقد بألوهيتهم أو نبوتهم، وكذا لا يجوز للمؤمن أن ينكح الناصبة والغالية لأنهما بحكم الكفار وإن انتحلا دين الإسلام”.
ومع ذلك، وما دمنا بصدد باب النكاح، فلا بد أن نتوقف عند بند أخير. فالإمام الباقر، الذي أمر بعدم مناكحة الناصب، هو نفسه من يجيز “مناكحة الناصب عند الضرورة والتقية” كما يذكر مصنف وسائل الشيعة. فعندما سأله العلاء بن رزين عن “جمهور الناس”، أي أهل السنة في المعجم الشيعي، قال: “هم اليوم أهل هدنة، تُردّ ضالتهم، وتؤدى أمانتهم، وتحقن دماؤهم، وتجوز مناكحتهم وموارثتهم في هذه الحال”. والحال أن “هذه الحال” هي التي باتت مستثناة من الاستثناء في الأدبيات الشيعية المتأخرة. فمحمد بن إدريس يطلق في كتابه السرائر هذا الحكم: “الناصبة أهل الحرب لأنهم ينصبون العداوة للمسلمين”. ويستعير الحر العاملي تعبيراً منسوباً إلى الإمام الرضا ليصف الناصبة بأنهم “ثغر من ثغور العدو”، ولذا كان دمهم ومالهم مباحين. وفي ذلك يروي الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام على لسان اسحق بن عمار “قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: مال الناصب وكل شيء يملكه حلال إلا امرأته، فإن نكاح أهل الشرك جائز”. وفي ذلك أيضاً يروي الحر العاملي في وسائل الشيعة على لسان داود بن فرقد “قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك فافعل”. وعن يزيد العجلي قال: “سألت أبا جعفر (ع) عن مؤمن قتل رجلاً ناصباً معروفاً بالنصب غضباً لله يقتل به؟ فقال: لو رفع إلى إمام عادل لم يقتله”. بل إن هناك فتوى على لسان الإمام العاشر علي الهادي النقي تذهب إلى أبعد من ذلك وتعتبر أن مجرد عدم الاعتراف بإمامة إمام من الأئمة كافٍ ليكون موجباً لقتل اللامعترف حتى وإن لم يكن “ناصباً معروفاً بالنصب”. فقد روى محمد الكشي في كتاب الرجال عن علي بن حديد “قال: سمعت من سأل أبا الحسن (ع) فقال: إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله، فقال: لعنه الله ثلاثاً وقتله أخبث ما يكون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت منه ذلك أوَليسَ حلال لي دمه، مباح كما أبيح دم السابّ لرسول الله وللإمام؟ قال: نعم، حلَّ والله دمه… فقلت: أرأيت أنا لم أفعل ولم أقتله، ما عليّ من الوزر؟ قال: يكون عليك وزره أضعافاً مضاعفة من غير أن ينقص من وزره شيء”.
وبناء على كل هذه الروايات الإمامية التي تجيز قتل الناصب وتبيح دمه، بل توجبه، أفتى ابن حمزة الطوسي في الوسيلة إلى نيل الفضيلة بأن النصب، أي “سب الأئمة الأطهار يوجب مهدورية الدم، فكل من سمع من سبهم، فله أن يقتلهم إذا أمن الفساد”.
وكذلك أفتى الميرزا جواد التبريزي في صراط النجاة: “الناصب هو الذي يظهر العداوة لأهل البيت عليهم السلام، ولا حرمة لدمه، وأما سابُّ النبي والإمام (صلوات الله عليهم) فقتله واجب مع الأمن من الضرر”.
وذلك ما كان أفتى به أيضاً الإمام الخوئي: “الناصب الذي يجوز قتله عند أمن الضرر… ينحصر في سابّ النبي والإمام والصديقة الطاهرة… وفي جوازه يعني لزومه”.
أما الإمام الخميني أخيراً فقد ذهب إلى ترجيح “إلحاق الناصب بأهل الحرب”. وأهل الحرب عنده هم “الذين يُستحلُّ دماؤهم وأموالهم وسبي نساؤهم وأطفالهم”. ولكن فتواه لا تخلو من شيء من الغموض إذ أوردها في باب الكلام عن الخمس في غنائم الحرب، وقصرها لفظاً على المال دون الدم قائلاً في تحرير الوسيلة: “والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم… بل الظاهر جواز أخذ ماله أين وجد وبأي نحو كان”.
لكن هنا لا بد من وقفة. فجميع هذه الأحكام التي تحفل بها موسوعات الفقه الشيعية والتي تبدأ بحصر الناصب في حظيرة النجاسة والرجاسة لتنتهي بتحليل دمه وماله واستباحة نسائه وأطفاله تبقى مع ذلك –ولحسن الحظ- في حالة وقف تنفيذ. وصمام الأمان الذي يحول دون تفعيلها هو مبدأ التقية. ورغم أن هذا المبدأ هو موضع تشنيع كبير من قبل الأعداء الألداء لـ”الرافضة” الذين هم “الناصبة”، فلا مجال للمماراة في ما له من دور حاسم في تعطيل تلك الأحكام بصورة مؤقتة نظرياً –ولكن مستديمة عملياً- أو إرجاء تنفيذها إلى الآخرة. هكذا كنا رأينا المحقق البحراني يبرر في الحدائق الناضرة إجراء أحكام الإسلام، وليس الكفر، على الناصبين على سبيل التقية. وعلى هذا النحو أيضاً يقر العاملي في مفتاح الكرامة بأن “طهارتهم مقرونة بالتقية”، أو “شدة الحاجة إلى مخالطتهم”. كما رأينا الخوئي والمازدراني يشرطان إجراء حكم القتل بـ”أمن الضرر”. في حين أن عبد الله الماقاني يرجئ التنفيذ في تنقيح المقال إلى الآخرة بقوله: “وغاية ما يستفاد من الأخبار جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على من لم يكن اثني عشرياً”. أما المجلسي فقد أرجع في بحار الأنوار التحلل من بعض الأحكام إلى “التقية من السلطان والإشفاق على شيعته من أهل الصلح والعدوان”. ورغم أنه كان في مقدمة القائلين من متأخري فقهاء الشيعة بأن الناصبة يجري عليهم “حكم المشركين والكفار في جميع الأحكام”، فإنه لم يستبعد جواز عدم إجراء هذا الحكم حملاً “على التقية”، ذلك أن “الله أجرى في زمان الهدنة حكم المسلمين عليهم في الدنيا رحمة للشيعة لعلمه باستيلاء المخالفين واحتياج الشيعة إلى معاشرتهم ومناكحتهم ومؤاكلتهم، فإذا ظهر القائم عليه السلام [=عند نهاية الغيبة] أجرى عليهم حكم المشركين والكفار في جميع الأمور”.
ومسألة “قيامة القائم” هذه تستأهل منا وقفة. فلئن يكن من شأن التقية، المرهونة بميزان القوى الدنيوي، أن تعلق الأمر بقتل “النواصب” وأن تضعه في حالة وقف تنفيذ، وترجئه إلى يوم رجعة المهدي ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، فإنه مع قيامة القائم يبطل حكم التقية ويدخل في حيز التنفيذ ما طال إرجاء تنفيذه. في ذلك يروي مصنف بحار الأنوار على لسان الإمام جعفر الصادق أنه قال لما سئل عن وضع “النواصب” في دولة القائم: “ما لمن خالفنا في دولتنا من نصيب، إن الله قد أحل لنا دماءهم عند قيام قائمنا، فاليوم محرَّم علينا ذلك، فلا يغرَّنك أحد، إذا قام قائمنا انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين”. وفي رواية أخرى أنه قال “إذا قام قائمنا عرضوا كل ناصب عليه، فإن أقر بالإسلام، وهي الولاية، وإلا ضربت عنقه أو أقر بالجزية فأداها كما يؤدي أهل الجزية”. وفي رواية ثالثة أنه قال: “حين يقوم القائم يخرج موتوراً غضبان آسفاً لغضب الله على هذا الخلق، عليه قميص رسول الله (ص) وسيف رسول الله ذو الفقار، يجرد السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل هرجاً، فأول ما يبدأ ببني شيبة فيقطع أيديهم ويعلقها في الكعبة وينادي مناديه: هؤلاء سرّاق بيت الله، ثم يتناول قريشاً فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف”. ثم تعم المقتلة بقية المخالفين، وعلى رأسهم النواصب –ولكن كذلك الشيعة الغلاة والشيعة الزيدية- ولا يستثنى منها إلا من تاب. هكذا تضيف الرواية على لسان الإمام الصادق: “من تاب تاب الله عليه، ومن أسرَّ نفاقاً فلا يبعد الله غيره، ومن أظهر شيئاً أحرق الله دمه. ثم قال: يذبحهم والذي نفسي بيده كما يذبح القصاب شاته وأومأ بيده إلى حلقه”.
وعلى هذا النحو فإن عقيدة قيامة القائم، إن كانت تلعب دوراً ذرائعياً في تعليق أحكام القتل والاستئصال الجماعي وإرجاء تنفيذها إلى أجل غير مسمى، فإنها لا تسهم بالمقابل في تعزيز النزعة السلمية والتصالحية، بل تغذي على العكس نزعة إلى الكراهية غير مكفوفة من حيث الهدف، وإن تكن مكفوفة من حيث التفعيل. ومن هذا المنظور يمكن القول إن عقيدة قيامة القائم تقدم سنداً لاهوتياً للفقه الشيعي القائم على تنجيس “النواصب” قيام الفقه السني على تكفير “الروافض”. والواقع أن ثقافة الكراهية المتبادلة هذه بين كبريي طوائف الإسلام تكتسب المزيد من السُّمية بما تقدمه المأثورات اللاهوتية من دعم وتعضيد للأدبيات الفقهية ولأحكام التنجيس والتكفير. ولئن كنا وفينا هذا الجانب حقه على جبهة حرب أهل السنة، فلتكن لنا وقفة أخيرة عنده على جبهة حرب أهل الشيعة. ولسوف نسوق هنا بعض الشواهد من لاهوت النفي الإمامي هذا حتى ولو بدا لبعضٍ ممن يقرؤنا أن مجرد استرجاع هذه الشواهد فيه تأجيج لنار ثقافة الكراهية الكريهة تلك.
فقد روى الكليني في الكافي عن عبد الحميد الوابشي أنه سأل الإمام الباقر قائلاً: “إن لنا جاراً ينتهك المحارم كلها حتى إنه ليترك الصلاة فضلاً عن غيرها؟ فقال: سبحان الله وأعظم من ذلك ألا أخبرك بما هو شر منه؟ قلت: بلى، قال: الناصب لنا شر منه”.
وشبيه هذا القول كان نسب إلى الإمام الصادق. فقد سئل عن شارب الخمر فقال: “ألا أنبئكم بشر من هذا؟ الناصب لنا شر منه، وإن أدنى المؤمنين، وليس فيهم دني، ليشفع في مائتي إنسان، ولو أن أهل السموات السبع والبحار السبع شفعوا في ناصبي ما شفعوا فيه”.
ونسب علي بن يونس العاملي في الصراط المستقيم إلى الإمام الصادق قوله إن “النواصب عفاريت إبليس وشيعته”، وإلى الإمام الهادي قوله: “لا يصيب النور ناصبياً إلا عميت عيناه من ذلك النور وصُمَّت أذناه وخرس لسانه ويتحول عليه أشد من لهب النار”. وإلى الإمام الباقر نسب مصنف بحار الأنوار القول: “إن الله عز وجل خلق المؤمن من طينة الجنة، وخلق الكافر من طينة النار… وطينة الناصب من حمأ مسنون”.
وفي باب “الدعاء على الناصب” و”لعن الناصب المعلن والتبرؤ منه” أورد الفاضل الهندي في كشف اللثام عن قواعد الأحكام الدعاء التالي على لسان الإمامين الحسين والصادق: “اللهم اخز عبدك في عبادك، اللهم أَصلِه شرّ نارك، اللهم أذقه حر عذابك، اللهم إنا لا نعلم منه إلا عدو لك ولرسولك، اللهم فاحش قبره ناراً واحش جوفه ناراً وعجل به إلى النار، فإنه كان يوالي أعداءك ويعادي أولياءك”.
وأورد مصنف بحار الأنوار على لسان الإمام الرضا الدعاء التالي: “يا الله، أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد عليه وعليهم السلام… وأن تضاعف أنواع العذاب واللعائن على مبغضيهم وغاصبيهم… والناصبين عداوتهم… والناكثين لأتباعهم، اللهم فأبح حريمهم وألق الرعب في قلوبهم، وأنزل عليهم رجزك وعذابك ونكالك… وشدائدك ونوازلك ونقماتك… بمبلغ ما أحاط به علمك، وبعدد أضعاف أضعاف استحقاقاتهم من عدلك… في كل زمان ومكان، وبكل لسان ومع كل بيان أبداً دائماً ما دامت الدنيا والآخرة”.
ولكن الدعاء الأشهر والأكثر تداولاً في المأثورات الإمامية هو ذاك الذي يفيدنا المجلسي أن عبد الله بن عباس رواه عن علي بن أبي طالب وأن “الداعي به كالرامي مع النبي (ص) في بدر وأُحُد وحنين بألف ألف سهم”. ونص الدعاء كالآتي: “اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها وابنتيهما، اللذين خالفا أمرك، وأنكرا وحيك، وجحدا إنعامك، وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرّفا كتابك، وعطلا أحكامك، وأبطلا فرائضك، وألحدا في آياتك، وعاديا أوليائك، وواليا أعداءك، وخربا بلادك، وأفسدا عبادك. اللهم العنهما وأنصارهما، فقد أخربا بيت النبوة، وردما بابه ونقضا سقفه… واستأصلا أهله، وأبادا أنصاره، وقتلا أطفاله، وأخليا منبره من وصيه ووارثه… اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومنافق ولوه، وصادق طردوه، وإمام قهروه، ودم أراقوه، وحكم قلبوه، وإرث غصبوه… وحلال حرموه، وحرام حللوه… اللهم العنهما بعدد كل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيّروها وأحكام عطلوها، وأرحام قطعوها… اللهم العنهما في مكنون السر، وظاهر العلانية لعناً كثيراً دائباً أبداً، دائماً سرمداً لا انقطاع لأمده ولا نفاذ لعدده، لهم ولأعوانهم وأنصارهم، ومحبيهم والمسلمين لهم، والمقتدين بكلامهم، والمصدقين بأحكامهم. .. اللهم عذبهم عذاباً يستغيث منه أهل النار، آمين!”.
ولاهوت الكراهية والنفي هذا يجد تتويجه في نص للمحدث المتأخر السيد نعمة الله الجزائري يؤسس فيه العلاقة بين الطائفتين في تنافٍ مطلق إلى حدّ تعميدهما ديانتين مختلفتين لا تجتمعان لا على إله ولا على نبي ولا على إمام. فهو يقول في كتابه الأنوار النعمانية: “إنا لن نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام. إن ربهم هو الذي كان محمد نبيه وخليفته من بعده أبو بكر. ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي. إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا”.
ولا نستطيع أن نختم في هذا المجال بدون أن نورد نص المحاورة التالية التي يقول مصنف بحار الأنوار أنه وجدها في بعض الكتب مروية عن أبي اسحق الليثي. ونحن نثبتها هنا بتمامها –على طولها- لأنها تلخص الجوهر “اللاهوتي”، إن جاز التعبير، لخلاف الشيعة مع السنة، فضلاً عما تشفّ عنه من براعة جدلية في التأويل وفي تخريج الوقائع لإنطاقها بعكس منطوقها على نحو يستحضر إلى الذهن جدليات الحِيَل الضميرية في اللاهوت المسيحي كما طوّرها اليسوعيون.
يقول المسمى إبراهيم بن أبي إسحق الليثي: “قلت للإمام الباقر محمد بن علي (ع): يا ابن رسول الله أخبرني عن المؤمن من شيعة أمير المؤمنين إذ بلغ وكمل في المعرفة هل يزني؟ قال عليه السلام: لا، قلت: فيلوط؟ قال: لا، قلت: فيسرق؟ قال: لا، قلت: فيشرب خمراً؟ قال: لا. قلت: فيذنب ذنباً؟ قال: لا. قال الراوي: فتحيرت من ذلك، وكثر تعجبي منه، قلت: يا ابن رسول الله إني أجد من شيعة أمير المؤمنين ومن مواليكم من يشرب الخمر، ويأكل الربا، ويزني ويلوط، ويتهاون بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وأبواب البر حتى أن أخاه المؤمن يأتيه في حاجة يسيرة فلا يقضيها له، فكيف هذا يا ابن رسول الله؟ ومن أي شيء هذا؟ قال: فتبسم الإمام عليه السلام وقال: يا أبا إسحاق هل عندك شيء غير ما ذكرت؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله، إني أجد الناصب الذي لا شك في كفره يتورع عن هذه الأشياء: لا يستحل الخمر ولا يستحل درهما لمسلم، ولا يتهاون بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، ويقوم بحوائج المؤمنين والمسلمين، لله وفي الله تعالى فكيف هذا ولم هذا؟ فقال عليه السلام: يا إبراهيم لهذا أمر باطن، وهو سر مكنون، وباب مغلق مخزون، وقد خفي عليك وعلى كثير من أمثالك وأصحابك، وإن الله عز وجل لم يأذن أن يخرج سره وغيبه إلا إلى من يحتمله وهو أهله، قلت: يا ابن رسول الله إني والله لمحتمل من أسراركم، ولست بمعاند ولا بناصب، فقال عليه السلام: يا إبراهيم نعم أنت كذلك، ولكن علمنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن قلبه للإيمان، وإن التقية من ديننا ودين آبائنا، ومن لا تقية له فلا دين له. يا إبراهيم لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً. ويحك يا إبراهيم إنك قد سألتني عن المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعن زهاد الناصبة وعبادهم، من ههنا قال الله عز وجلّ: “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا” ومن ههنا قال الله عز وجل: “عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية، تُسقى من عين آنية”. وهذا الناصب قد جُبل على بُغضنا، وردّ فضلنا، يُبطل خلافة أبينا أمير المؤمنين عليه السلام، ويُثبت خلافة معاوية وبني أمية، ويزعم أنهم خلفاء الله في أرضه، ويزعم أن من خرج عليهم وجب عليه القتل، ويروي في كذلك كذباً وزوراً، ويروي أن الصلاة جائزة خلف من غلب، وإن كان خارجياً ظالماً، ويروي أن الإمام الحسين بن علي صلوات الله عليهما كان خارجياً خرج على يزيد بن معاوية، ويزعم أنه يجب على كل مسلم أن يدفع زكاة ماله إلى السلطان وإن كان ظالماً. يا إبراهيم هذا كله رد على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله، سبحان الله قد افتروا على الله الكذب، وتقوَّلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله الباطل، وخالفوا الله وخالفوا رسوله وخلفاءه. يا إبراهيم لأشرحن لك هذا من كتاب الله، الذي لا يستطيعون له إنكاراً ولا منه فراراً، ومن رد حرفاً من كتاب الله فقد كفر بالله ورسوله. فقلت: يا ابن رسول الله إن الذي سألتك في كتاب الله؟ قال: نعم، هذا الذي سألتني في أمر شيعة أمير المؤمنين صلوات الله عليه وأمر عدوه الناصب في كتاب الله عز وجل، قلت: يا ابن رسول الله: هذا بعينه؟ قال: نعم هذا بعينه في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. يا إبراهيم إقرأ هذه الآية: “الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض”. أتدري ما هذه الأرض؟ قلت: لا، قال عليه السلام: إعلم أن الله عز وجل خلق أرضاً طيبة طاهرة، وفجر فيها ماء عذباً زلالاً، فُراتاً سائغاً، فعرض عليها ولايتنا أهلَ البيت فقبِلتْها، فأجرى عليها ذلك الماء سبعة أيام، ثم نضب عنها ذلك الماء بعد السابع فأخذ من صفوة ذلك الطين طيناً، فجعله طين الأئمة عليهم السلام، ثم أخذ جلّ جلاله ثفل ذلك الطين، فخلق منه شيعتنا، ومحبينا من فضل طينتنا، فلو ترك يا إبراهيم طينتكم كما ترك طينتنا لكنتم أنتم ونحن سواء. قلت: يا ابن رسول الله ما صنع بطينتنا؟ قال: مزج طينتكم ولم يمزج طينتنا. قلت: يا ابن رسول الله وبماذا مزج طينتنا؟ قال عليه السلام: خلق الله عز وجل أيضاً سبخة خبيثة منتنة، وفجر فيها ماء أُجاجاً مالحاً آسناً، ثم عرض عليها جلّت عظمته ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فلم تقبَلْها، وأجرى ذلك الماء عليها سبعة أيام، ثم نضب ذلك الماء عنها. ثم أخذ كدورة ذلك الطين المنتن الخبيث وخلق منه أئمة الكفر والطغاة والفَجَرة، ثم عمد إلى بقية ذلك الطين فمزج بطينتكم، ولو ترك طينتهم على حالها ولم يمزج بطينتكم لما عملوا أبدا عملاً صالحاً، ولا أدوا أمانة إلى أحد ولا شهدوا الشهادتين، ولا صاموا ولا صلوا ولا زكوا ولا حجوا ولا أشبهوكم في الصور أيضاً. يا إبراهيم ليس شيء أعظم على المؤمن من أن يرى صورة حسنة في عدو من أعداء الله عز وجل، والمؤمن لا يعلم أن تلك الصورة من طين المؤمن ومزاجه. يا إبراهيم، ثم مزج الطينتين بالماء الأول وبالماء الثاني، فما تراه من شيعتنا من ربا وزنا ولواطة وخيانة وشرب خمر وترك صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، فهي كلها من عدونا الناصب، وسنخه ومزاجه الذي مُزج بطينته، وما رأيته في هذا العدو الناصب من الزهد والعبادة والمواظبة على الصلاة وأداء الزكاة والصوم والحج والجهاد وأعمال البر والخير، فذلك كله من طين المؤمن وسنخه ومزاجه. فإذا عُرضت أعمال المؤمن وأعمال الناصب على الله، يقول عز وجل: أنا عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني ما أظلم مؤمناً بذنب مرتكب من سنخ الناصب وطينه ومزاجه. هذه الأعمال الصالحة كلها من طين المؤمن ومزاجه، والأعمال الردية التي كانت من المؤمن هي من طين العدو الناصب، ويلزم الله تعالى كل واحد منهم ما هو من أصله وجوهره وطينته، وهو أعلم بعباده من الخلائق كلهم، قال: فكذلك يرجع كل شيء إلى أصله وجوهره وعنصره. فإذا كان يوم القيامة ينزع الله تعالى من العدو الناصب سنخ المؤمن ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصالحة ويردّه إلى المؤمن، وينزع الله من المؤمن سنخ الناصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله السيئة الردية، ويردّه إلى الناصب عدلاً منه جل جلاله وتقدست أسماؤه، ويقول للناصب: لا ظلم عليك، هذه الأعمال الخبيثة من طينتك ومزاجك، وأنت أولى بها، وهذه الأعمال الصالحة من طينة المؤمن ومزاجه، وهو أولى بها ! “اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب”.
خاتمة مؤقتة
ماذا يمكن أن نستنتج من هذا العرض المطول؟ إن الأمر لا يحتاج إلى كبير اجتهاد: فما يجري اليوم في العراق، وإلى حد ما في باكستان، وما يمكن أن يجري في السعودية أو في دويلات الخليج أو في إيران، أو حتى في تركيا، فيما لو ارتفعت يد الدولة القامعة أو الضابطة، لا يدع مجالاً للشك في أن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. وحتى لا يبدو وكأننا نحمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتّقدت تبعاً لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة.
والسؤال، كل السؤال: كيف السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوماً، وإن الكامنة في ظاهرها تحت الرماد، بين طوائف الإسلام؟
أعن طريق الديمقراطية كما ينادي محمد عابد الجابري الذي طالب ذات يوم بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي والاستعاضة عنها بشعاري العقلانية والديمقراطية؟
ولكن كيف السبيل إلى عقلنة ودقرطة العلاقات بين طوائف الإسلام -فضلاً عن العلاقات بين الملة الإسلامية والملل الدينية الأخرى، ولا سيما منها المسيحية ولكن كذلك الإحيائية كما في مثال السودان- هذا إذا اكتفينا بالإسلام العربي ولم نتعدّه إلى الإسلام الآسيوي حيث ينطرح السؤال نفسه بالنسبة إلى البوذية والهندوسية والكونفوشية والطاوية، الخ؟
أجل، كيف السبيل إلى عقلنة ودقرطة العلاقات بن الطوائف الإسلامية المتكارهة علناً أو سراً أو تقيةً في ظل تغييب متعمد للعلمانية التي ما جرى اكتشافها وتطويرها في مختبرات الحداثة الأوروبية إلا لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي؟
أنعالج الداء بغير دوائه كما يدعونا إلى ذلك مفكرو الامتثالية الشعبوية؟
وعلى سبيل الجدل لنسلّم لهم بحلهم الديمقراطي، أو الديموقراطوي بالأحرى Démocratiste. فنحن نعلم أن عماد الديمقراطية الأول هو صندوق الاقتراع. ولكن في وضعية طائفية لن يصوّت الناخبون إلا لممثليهم الطائفيين.
ونحن نعلم أن عماد الديمقراطية الذي لا يقل أولوية هو المنافسة السياسية بين الأكثرية والأقلية. ولكن نجع هذه اللعبة –وهي لعبة فعلاً وليست اقتتالاً كما في المنافسة الطائفية- مرهون ببقائها أفقية وببقاء الطرفين اللاعبين فيها مؤقتين في نصابهما الأكثري أو الأقلوي، بحيث يمكن لأقلية اليوم أن تصير أكثرية في الغد، وهكذا دواليك. والحال أن الأكثرية والأقلية في المنافسة الطائفية ثابتتان لا تتغيران –اللهم إذا تغير ميزان القوى الديمغرافي. ثم إنهما أكثرية وأقلية عموديتان تخترقان جسم المجتمع ولا ينحصر تنافسهما بقاعة المجلس النيابي. وعلاوة على هذا كله فإن المنافسة الديمقراطية تقوم على مفهوم الخصم، والخصم المطلوب التغلب عليه متقلب وقابل باستمرار لأن تتبدل هويته، على حين أن المنافسة الطائفية تقوم على مفهوم العدو، والعدو ثابت ولا تتغير هويته، ولا سبيل إلى التغلب عليه إلا بقمعه أو حتى باستئصاله. وإذا استحال ذلك، رفع شعار: لا غالب ولا مغلوب كما في مثال لبنان اليوم، وهو شعار من شأنه تأبيد المنافسة الطائفية يقيناً وتعطيل اللعبة البرلمانية احتمالاً، على نحو ما نشاهد هذه الأيام في هذا البلد الذي لا تزيدنا آلامه إلا حباً له.
وأخيراً هناك إشكال نظري خطير تثيره الديمقراطية المفصولة عن توأمها: العلمانية. فنحن نعلم أن كل فلسفة الديمقراطية وآليتها معاً تقومان على اعتبار الأمة أو الشعب هو مصدر التشريع. والحال أن الإسلام، كما هو سائد اليوم على الأقل، لا يعترف بمصدر آخر للتشريع سوى القرآن والسنة، بالإضافة إلى إلهام الأئمة الاثني عشر عند الشيعة.
وفي سياق إشكالية مصدر التشريع هذه يثور إشكالان آخران من طبيعة نظرية وعملية. الأول يتعلق بمسألة المساواة في العلاقات بين الجنسين، والثاني يتصل بنصاب العلاقات الجنسية في قانون العقوبات.
ففيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، فنحن نعلم أن هذه المساواة باتت من بديهيات الديمقراطية. والحال أن الشرع الإسلامي لا يقر للمرأة بهذه المساواة، لا في الإرث، ولا في الشهادة، ولا في الزواج، ولا في الإمامة التي يحجبها عنها حجباً تاماً.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن قانون العقوبات كما طورته الأنظمة الديمقراطية يميز تمييزاً حاسماً بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة، ولا يعتبر بالتالي العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج أو العلاقات بين أفراد الجنس الواحد جريمة يعاقب عليها القانون، على حين أن الشرع الإسلامي يعتبر الزنا أو الجنسية المثلية جرماً يستوجب الجلد أو حتى القتل رجماً. وبدون علمنة لقانون العقوبات، فإن الديمقراطية الجنسية، كما قد يجوز لنا أن نقول، تظل مستحيلة، كما يظل مستحيلاً أصلاً إلغاء العقوبات الجسدية من قانون العقوبات.
وبديهي أننا، في دفاعنا الحار هذا عن العلمانية، لا نهدف إلى أن نجعل منها إيديولوجيا خلاصية كما كنا فعلنا مع فكرة الوحدة العربية أو الاشتراكية بالأمس، وكما يُفعل اليوم مع فكرة الديمقراطية. ولن نكون أصلاً إلا واهمين فيما لو تصورنا أن العلمانية كافية وحدها، من حيث هي أساساً آلية سلبية تقوم على فصل الدين عن الدولة، لطيّ صفحة حرب طائفية مستمرة بالأفعال كما بالأقوال منذ أكثر من ألف سنة. فالعلمانية هي نفسها بحاجة، في الساحة العربية الإسلامية التي هي ساحتنا، إلى إعادة اكتشاف وتطوير وتكييف. فلئن قامت العلمانية في الغرب على أساس التحييد الديني للدولة، فإن العلمانية في المجال العربي الإسلامي لا بد أن تقوم أيضاً على التحييد الطائفي للدين نفسه. وذلك ما دام الدين –وهنا الإسلام- يتوزع لا إلى طوائف متباينة فحسب، بل أيضاً وأساساً متعادية متكارهة يقوم كيانها على الضدية المتبادلة وتعتمد في التعامل فيما بينها معجم التكفير والتنجيس. ففي التجربة الغربية كانت العلمانية مبسوطة اليد في مجال الدولة، مكفوفتها في مجال الدين نفسه. أما في الساحة العربية الإسلامية فلا بد أن تكون العلمانية مبسوطة اليد في المجالين كليهما. فهنا ليس المطلوب علمنة الدولة وحدها على مستوى السطح، بل أيضاً علمنة المجتمع على مستوى العمق. وعلمنة المجتمع إنما تعني تمكينه من إعادة تربية نفسه ليقبل بشرعية التعدد في الدين وبشرعية تعدد الطوائف في الدين الواحد، وليعيد تأسيس جميع الأطراف، بما فيهم اللادينيون، في علاقة حوارية تقوم من جهة أولى على الاعتراف المتبادل –من موقع المساواة- بحق الاختلاف والتغاير، ومن جهة ثانية على الاستبعاد الجذري للاهوت نفي الآخر والمختلف. وبهذا المعنى الحواري، فإن العلمانية لن تكون مطالبة فقط بتوفير الحماية للتعددية الدينية والطوائفية في المجال العام، بل ستكون مطالبة أيضاً بإنجاز عملية إعادة تربية في المجال الخاص، كيما يغدو طلب ضمان الدولة لهذه التعددية صادراً عن المجتمع نفسه. وبدون هذه البيداغوجيا الطويلة النَّفَس فإن العلمانية قد تدخل في مأزق مسدود، إذ أن العمق المجتمعي اللامعلمن قد يرتدُّ عند أية سانحة على السطح السياسي المعلمن، كما تنذر بذلك المآلات الراهنة للتجربة العلمانية الكمالية الفوقية في تركيا.
ولهذا، وتماماً كما كنا قلنا عن الديمقراطية، فإن العلمانية ليست ثمرة برسم القطف، بل هي بذرة برسم الزرع. والتُّرْبة الأولى التي يمكن أن تُزرَع فيها هي التربية العلمانية. والحال أن التربية العلمانية لا بد أن تبدأ، في سياق عملية تحديث شاملة، من المدرسة الابتدائية –الخلية الأولى للمجتمع الحديث- قبل ترجمتها، أو بموازاة هذه الترجمة، إلى مادة أساسية في دستور الدولة، مع كل ما يترتب على ذلك من تعديل لمواد القانون المتعارضة والمبدأ العلماني. بل أكثر من ذلك بعد: إن العلمانية لن يكتب لها النجاح والنجع في العالم العربي -وفي العالم الإسلامي بشكل أعم- ما لم تقترن بثورة في العقليات. ففي صندوق الرأس، وليس فقط في صندوق الاقتراع، يمكن أن نشق الطريق إلى الحداثة بركيزتيها الأخريين: الديمقراطية والعقلانية. ونحن نعلم، بعد كل التجارب الخائبة للإيديولوجيات الداعية إلى حرق المراحل، أن هذا مسار مستقبلي سيستغرق عشرات السنين في حال النجاح، وربما مئاتها في حال الفشل. ولكنه مسار لا مناص منه، وقد بات يفرض نفسه بمزيد من الإلحاح في زمن الارتداد العربي والإسلامي هذا إلى قرون وسطى جديدة.
tarabichi5@yahoo.fr
كاتب سوري- باريس
العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية (3-3)
i think that the arabic culture is the main reason behind these problems not islam