كنا وما زلنا نؤكد بأن ثقافة الإقصاء ليست صفة محتكرة للتيار الديني فقط، بل الكثير من العلمانيين يتصفون بذلك أيضا. نقول ذلك بينما تترى المشاهد في الحراك بالكويت لتدلل على دور إقصائي واضح وصريح من قبل العديد من العلمانيين ضد من يحاول أن يعارض المواقف الحكومية المناهضة للديمقراطية، بذريعة أن من يواجه الحكومة هو أسوأ منه في مناهضة الديمقراطية بل وفي مناهضة مجمل الحريات الفردية.
لكني أجد تجنّيا كبيرا في هذا الكلام تجاه المعارضة، المتنوعة فكريا وتنظيميا، وتمثل جزءا من حراك المشهد الكويتي، والتي وضعت أصبعها على الكثير من الجراح لمعالجة “سكون” الآليات الديمقراطية. كذلك أجد في هذا الكلام دفاعا غير مبرر عن الحكومة، التي يميل إليها الكثير من أنصار الأفكار الرجعية، في ظل تجربتها السلبية الطويلة مع الديموقراطية ومع إدارة البلد، والتي تمتد عقودا من الزمن دون أن نتلمس منها مؤشرات تغيير حقيقية تجاهها اللهم إلا بعض الوعود اللفظية المنطلقة بصورة لا تنم عن أي جدية أو واقعية.
والمفارقة هنا أن الحكومة تشدّد في خطاباتها على أن المرحلة القادمة سوف تشهد تشددا تجاه تطبيق القانون وسعيا لتحقيق الوعود التنموية، فيما يشدد خطاب المعارضة على تغيير آليات العمل الديمقراطي بوصفها أسّ الخلل. أي أن الحكومة تجهد لإبقاء الوضع الديمقراطي غير الحقيقي على ما هو عليه، فيما تجهد المعارضة للإشارة إلى الخلل الأساسي في الحياة السياسية بالكويت والمتمثل في عرقلة تطبيق الديموقراطية الحقيقية من خلال طمس آلياتها الأساسية.
لا شك ان الكثير من الحركات الإصلاحية تلتئم في صورة تحالفات متباينة فكريا لكنها تتفق على بعض الأولويات. نجد شواهد ذلك في العديد من الدول المجاورة الساعية معارضاتها وتحالفاتها إلى اختراق أفق الإنسداد المانع لحركة التغيير والإصلاح الديمقراطي، باعتبار أن ذلك هو الهدف الرئيسي الذي يتفق عليه الساعون للتغيير. وحينما ينفتح هذا الأفق، تنفتح معه صور مختلفة من الحلول ومن المشاريع التي تتنافس فيما بينها في إطار آليات الديمقراطية التي ظهرت بفعل عملية التغيير. وهذا المؤشر نشاهده بوضوح في مشهد الحراك الكويتي، الذي التأم فيه العلماني والإسلامي، سواء مع الحكومة في الموافقة على إبقاء الوضع كما هو في ظل كمِّ الوعود البراقة غير الواقعية، أو مع الحراك التغييري في سبيل الوصول إلى واقع ديموقراطي متقدم.
ولابد من القول أنه لا يمكن أن نطلق على أي مجتمع بالديموقراطي فيما قيم الديمقراطية تُنتهك في إطار القانون والدستور. وعادة ما يأتي هذا الانتهاك في ظل مفهوم الخضوع وسط حالة عامة من الخوف الرسمي والتهديد الأمني، وكذلك عن طريق الدعوة إلى السكوت لا إلى النقد، ومن خلال انتهاك رأي الأغلبية والضرب بحقوقهم عرض الحائط، والدعوة إلى الرأي الواحد والخضوع له لا القبول بتعددية الآراء واحترامها، والاستناد إلى أيديولوجيا الطاعة بدلا من الاستناد إلى احترام حقوق الإنسان الفرد.
وكلمة الطاعة، بالذات، التي رفعها العديد من مرشحي مجلس الأمة كشعار لهم أو انطلقوا من خلالها لترشيح أنفسهم، لا تستطيع أن تعيش جنبا إلى جنب القيم الديمقراطية، لأنها ستتناقض معها، ستعاديها، ستطرد آلياتها. فهي لا تعكس العلاقة بين البشر وفق آلية النقد والاختيار، بل تعكس العلاقة في إطار الآلية الأبوية، التي تشرعن للخضوع واللاسؤال، والتهديد والاعتقال، كالحياة في ظل الأنظمة الفردية، والقبلية، والراعي والرعية، وأنظمة الحزب الواحد، والفكر الواحد، وتلك المستندة إلى الرؤية السماوية الدينية التاريخية.
ما يتصف به بعض علمانيينا هو انفصالهم عن مبادئ الليبرالية، خاصة ما يتعلق بتعددية الحقوق، هم علمانيو الرأي الواحد، ما جعلهم يعادون أي توجّه آخر يشتم منه رائحة دينية ويقصونه بكل سهولة ويسر، حتى لو كان هذا الآخر أكثر قدرة من الحكومة على تبني مواقف تعزز الديموقراطية وآلياتها. وما أدى بهم إلى تبني هذا الموقف المتطرف هو الخوف على الحريات الفردية، فاختاروا الموقف السلطوي المدافع (راهنا) عن بعض تلك الحريات، وفضلوه على الحراك الهادف إلى تعزيز المحاسبة. فهم مارسوا الإقصاء في سبيل الدفاع عن الحريات، أي تبنوا موقفين متناقضين في الدفاع عن هذا المبدأ، ولم يلتفتوا إلى الموقف الحكومي المعارض لمختلف صور الحريات الأخرى من سياسية واقتصادية، وكأن الحريات الفردية هي الوحيدة التي يجب الحرص على حمايتها، وكأن هناك سؤالا يبقى مطروحا باستمرار من دون إجابة: إلى متى يجب أن يعتمد المدافعون عن الحريات الفردية على حكومة تعادي مختلف صور الحريات الأخرى؟
مما لا شك فيه أن دفاع السلطة عن الحريات الفردية لم ولن يكون مضمونا باستمرار، لأنها تُخضع مواقفها لمختلف صور المصلحة الذاتية، والدلائل على ذلك متنوعة ومختلفة، فهي اليوم ضد إعدام المسيء لكن لا ضمانة في أن تكون كذلك بالمستقبل. في المقابل فإن السعي لتطوير آليات الديمقراطية والمحاسبة والنقد هو الضمان الوحيد للدفاع عن مختلف صور الحريات سواء كانت فردية أو غيرها. إن الفكر اﻹقصائي هو واحد سواء كان دينيا أو علمانيا. لذلك، أستغرب أن يعاب على الفكر الديني اقصائيته ويمارس العلماني الشيء نفسه. فالإقصاء هو حل مؤدلج وقع في فخه أعداء الأيديولوجيا دون أن يعلموا، هو مسعى مضلل لتصوير جميع التيارات الدينية بأنها تقف على مسافة واحدة من مختلف صور الحريات. لكننا نعلم جميعا بأنه لا يمكن في هذا الإطار – مثلا – مقارنة تنظيم القاعدة بتنظيم الاخوان المسلمين، فالأول له دستوره الخاص، فيما الثاني يخوض منافساته السياسة بصورة مدنية وفقا لما يمليه عليه الدستور المدني.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com